ثمة مسافة مواربة دوماً بين أنواع الغناء الكلاسيكي التي تحظى باهتمام النخب وما يرتبط بذلك من تكريس للنمط على المستوى الرسمي، وتلك التي توصف بأغاني العوام، أو “غناء الشارع” إن صحت التسمية التي تتخذ من المدن والقرى موضعاً لها.
وعلى رغم أن النمط الأول يحظى باهتمام كبير وتفسح أمامه فرص ومساحات كثيرة، إلا أنه لا يقوى على إلغاء النمط الآخر من الغناء على رغم شح إمكاناته، وربما قلة فرصه، لأنه يمثل هموم وتطلعات وهواجس فئة غير قليلة من الناس، في أي مجتمع من المجتمعات.
وبعيداً من محاولات “أخلقة الغناء” وتنميط الفنون، فإن للنوعين مستمعين ومتابعين يطربون لهما.
الهجاء غناء
في التجربة الغنائية الإريترية، ثمة نمط شهير يسمى لدى الناطقين بلغة التقرايت بـ”القنقر” وهذا النوع يأخذ أشكالاً مختلفة، لكن يعتمد في الأساس ذكر مساوئ شخص ما، أو مجموعة ما، في الأغلب من دون تسميتها بالاسم، وتتم الإشارة إلى الطباع والسلوكات وغيرها بشكل فيه كثير من اللوم والعتب وتقديم إشارات دالة على المقصود، وهكذا يصل العتب لدى المعني وكذلك لدى المتلقي الذي يفسر وفق فهمه الشخص أو المجموعة المعنية وقد يتطرف أحياناً في التأويل وفقاً لهواجس تخاطب أهواءه.
ويعتمد هذا النوع من الغناء على “الرمزية” العالية، نظراً إلى أنه ليس جائزاً التصريح بالأسماء فتتم استعارة مفردات مرادفة للأسماء أو الجغرافيا أو طرق العيش مثل نوع من الإيحاء الدال على المعني، وهنا تنشط ذاكرة وذكاء المتلقي لوضع الأغنية في مساحة معينة.
ويرتبط “القنقر” بقوميتي التيغري والبلين في المنخفضات الإريترية، كما له وجود في مناطق المرتفعات تحت مسمى “ماسيا”، ويتبارى الشعراء والمغنون لأدائه في المناسبات لإبراز قدراتهم الإبداعية من جهة، ومدح ما ينتمون إليه من قيم الشهامة والعلو في مقابل محاولات هجاء غيرهم من جهة أخرى، على أن يتم ذلك بشكل ملحون وقافية متقنة.
مصاهرة على وقع “القنقر“
يقول المتخصص في تراث الغناء الشعبي الإريتري الطاهر كرار في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إن هذا النوع من الغناء لا يقتصر على هجاء مجموعة معينة تقع في خلاف مع أخرى بالضرورة، بل يؤدى أيضاً أثناء المناسبات السعيدة مثل الأعراس، إذ يتبارى الشعراء لالتقاط مواقف طريفة وتحويلها إلى هجاء يقصد به شخص بعينه، كالشراهة في الطعام، فيتم هجاؤه بشعر ملحون، وعلى المهجو في حقه أن يرد الهجاء وفق القافية واللحن.
كما أنه من الدارج عند خروج العروس من بيت أبيها إلى بيت الزوجية أن تقف صديقاتها مقابل أصدقاء العريس، ليهجوا كل طرف الآخر بشكل فيه كثير من المدح للذات والذم للآخر من دون انتقاص من نسبه أو عائلته، وهو تبارٍ يخضع لسرعة البديهة ونباهة الحس الفني في الأداء واستحضار الخصائل.
تمدح الفتيات العروس بالتركيز على محاسنها وجمالها وقوامها وعفة لسانها، فيما تمعن في هجاء العريس إلى أن يوصين الأخير بالانتباه إلى أنه يمتلك درة وعليه الحفاظ عليها، ليرد الطرف الآخر بذات الصيغة واللحن في فعل لا يخلو من الطرافة، على أن تنتهي هذه الفقرة بأداء جماعي للطرفين يتضمن استحسان الجميع لهذه المصاهرة.
المنهي والمتاح
يذكر المغني سعيد عبدالله أن هذا النمط الغنائي الآخذ في الاندثار يمثل علامة فارقة في تاريخ الغناء الإريتري لجهة ارتباطه بخصائص فنية معينة، إذ يتطلب جهداً كبيراً، أولاً لأنه يعتمد على خاصيتي الترميز المكثف “وشبه البوح” القائم على الإشارة، وثانياً لأنه يقع بين الهجاء والمدح، فمن جهة يهجو الغير ومن الجهة الأخرى يمدح الذات.
ويرى الفنان الإريتري المشهور بأداء الأغنيات التراثية أن المنهي عنه في أغنيات كهذه يتمثل في “ذكر الأشخاص بالاسم، أو القبائل والمكونات المجتمعية، على رغم ولوجه في هذا الجانب بشكل بلاغي يعتمد على التورية المستترة بغلاف من المفردات الدالة”.
ويعتبر أنه أدى هذا النمط في بعض أغانيه في ثمانينيات القرن الماضي، إذ هجى سلوكات معينة تخص فرداً بعينه، وقد اجتهد المتلقي في نسبها بشكل يناسب أهواءه، ويضيف أن “هذا حق يختص به المتلقي ولا يحق للمغني إعادة تفسير أغانيه”، فهو في النهاية يؤدي نمطاً فنياً ويترك للجمهور حق التأويل.
مواجهة الاندثار
من جهته يرى الباحث في الفن الشعبي عمر أبيب أن بعض الأنماط الفنية لقوميات المنخفضات الإريترية، بخاصة غناء لغة التقرايت، يواجه تحديات تتعلق بسيادة أنماط معينة على حساب التراث الثري، ويخشى أن يؤدي ذلك إلى اندثار بعضها مثل فن “القنقر” الذي يؤدى بشكل محتشم.
وينوه إلى أنه أمام الباحثين في التراث، فضلاً عن الشعراء والمغنين، مسؤولية تاريخية للحفاظ على هذا النمط الذي يحمل كثيراً من الطرافة وخفة الدم، إلى جانب شقه الإبداعي كغناء جماعي يعتمد على الارتجال والتلقائية، وهو في رأيه “نمط لا يقل أهمية عن الأنماط الغنائية الأخرى من حيث الكلمات والألحان والأداء الصوتي المرتجل”.
ويتفق المتخصص في تراث قومية البلين يوهانس فكاك مع هذا الطرح، مثنياً على أهمية هذا النمط الغنائي الخفيف، ويوضح أن “الجاليات الإريترية في المهجر بدأت باستنهاض هذا التراث من أجل الحفاظ عليه من الانقراض”.
ويذكر فكاك “أن الأعراس التي تقام في الدول الأوروبية لبعض منتسبي قومية البلين أضحت لا تختلف كثيراً عن القرى الإريترية من حيث اهتمامها بإحياء كل المظاهر الساعية إلى الحفاظ على المكتسبات الفنية والتراثية” كجزء من مسؤوليتها عن توريث أجيال المهجر مكتسباتها الحضارية والفنية.
ويذهب إلى أن التراث الإريتري متنوع وثري جداً، سواء على مستوى الفن الغنائي أو الموروثات الأخرى، لذلك تحرص الجاليات الإريترية في المهجر على إحياء هذا التراث نتيجة غياب دور مؤسسات الدولة عن أداء واجبها المتعلق بالحفاظ على المورثات الثقافية.
جذر الراب
من جانبه، يقول الـ”يوتيوبر” الشاب بكري حمد إن “القنقر جزء من التراث الذي يعتمد على المطارحة الشعرية أو المبارزة بين فارسين في ميدان الفن”، مشيراً إلى أنه سبق وحضر حفلاً للقنقر، فكان أحد المتبارزين من جيل الكهول وآخر يمثل الشباب، وقال “حقاً كانت مبارزة فنية مكتملة”.
ويردف “لأن هذا النوع يعتمد على الارتجال المباشر، فإن غياب التوثيق يجعله عرضة للضياع” إلا أن بعضه لا يزال محفوظاً في صدور الناس، في حين يسعى بعض الفنانون إلى استغلال تلك الألحان مع نظم كلمات أخرى عليها قد تكون عاطفية.
وينوه إلى، “أن بعض الأنماط التراثية الإريترية سبقت كثيراً من التجارب التي تبدو حديثة اليوم”، زاعماً أن “فن القنقر أشبه ما يكون بنمط الراب الأميركي الحديث”، إذ يتبارى “الرابرز” في ما يعرف بـ”الكلاش” بهجاء بعضهم بعضاً، في حين أن هذا النمط قديم جداً في إريتريا.
ويقر حمد بأن “الموروثات الغنائية الإريترية تفتقد إلى الترويج الإعلامي” والتعريف بها بشكل يناسب لغة وملامح العصر الحالي.
الماسيا
من جانب آخر ثمة نمط غنائي دارج في غناء قومية التيغرنية الإريترية يسمى “الماسيا”، وعنه يقول الناقد تسفيت هانس إنه “منتشر في منطقة المرتفعات ولا يختلف كثيراً عن القنقر الذي يؤدى في مناطق المنخفضات الإريترية مع بعض الاختلافات التي تعبر عن الفروق الثقافية والمجتمعية بين المنطقتين الجغرافيتين”.
ومن بين هذه الفروق أن “الماسيا” لا يشترط فيه عدم ذكر الاسم، إذ إن القوميات القاطنة في السهول الإريترية أكثر محافظة من نظيراتها الأخرى، مما يدفعها للجوء إلى الترميز أكثر عوضاً عن ذكر الأسماء والمواقف. كما أن الماسيا يعد فناً فردياً، إذ يتواجه الشعراء والفنانون وجهاً لوجه على عكس الأداء الجماعي.
ويعرب هانس عن أسفه لتراجع هذا الفن الغنائي، إذ إن ما تبقى منه لا يتجاوز المتوارث من الغناء القديم الذي يؤدى في بعض المناسبات.
ويلفت الانتباه إلى أن الماسيا لا ينحصر في الهجاء، بل يشمل أيضاً غناء الحماسة والفخر والرثاء، مشيراً إلى بعض الأغاني الشهيرة مثل “نقوسي” التي غنتها أرملة أحد الأباطرة بعد مقتله في الحرب، ففي حين تهجو أعداءه، تغني لزوجها الراحل بطريقة تجمع بين الفخر والحماسة والرثاء.