أغنية “الوالي أبو زعيزع” تلك الأغنية التي هاجم بها درويش الحاكم وحاشيته في ظل الاحتلال الإنجليزي، والتي يقول عنها حفيده الفنان إيمان البحر درويش، إنها كانت سببا في معاقبة كل من يردد أغنيات درويش، الذي أطلق عليه المصريون “فنان الشعب”.
في ساحة متحف سيد درويش الخارجية، إلى اليمين تمثالا نصفيا لدرويش، بشعره المجعد، وبدلته الرسمية وربطة عنقه الأنيقة، اللتين ارتداهما بعد أن خلع الشاب الأزهري الجبة والقفطان والعمامة.
وفي جولة بغرفة الموسيقى، حيث يوجد فيها عوده، الذي أكدت مديرة المتحف أن “جمعية العوّادين العرب أقرت بأنه أقدم عود لسيد درويش”، كما عُثر بداخل العود على شهادة تؤكد إصلاحه عام 1917، أي قبل وفاة الفنان بستة أعوام.
إلى جانب العود، يوجد طربوشه وعصاه، وعقد زواجه من جليلة بنت عبد الرحيم، إلى جانب بعض النوت الموسيقية والأسطوانات الأصلية.
“قرّب شيلني شيّل .. عُمْر الشِّدة ما تطوّل
لا تقول لي كتير وقليّل .. بُكره نهيص زي الأول
هيلا هيلا هيلا هيلا .. هيلا هيلا هيلا هيصا”
تخيل ابن مدينة الإسكندرية حين كان يحمل مواد البناء ويثير حماس زملائه، قبل أن يستلهم من هتافات الشيالين ومطارق البنائين ونداءات السقايين، ألحانا وأغنيات يرددها المصريون، لاسيما الطبقة الكادحة.
يحكي صديقه الممثل المصري الراحل نجيب الريحاني عن أول رواية استعراضية لحنها له درويش؛ كانت مسرحية بعنوان “ولو”، التي بمجرد عرضها “والشوارع مطرح ما تمشي ما تسمعشي إلا الحلوة دي قامت تعجن في البدرية، ويهون الله ع السقايين”، في إشارة لاثنتين من أغنياته في المسرحية.
يبدو أن سيد درويش، الذي تفتحت عيناه على احتلال واستغلال ومعاناة ومؤامرات، أدرك مدى تأثير ألحانه على الأسماع، فقرر أن يصبح ناشطا سياسيا موسيقيا، ترصد كلمات أصدقائه ما يحدث في الشارع المصري، فيحولها إلى منشورات مُلحنة تتناقلها الشفاه.
ولا شك في أن أغنية “بلح زغلول” أكبر دليل على ذلك، حين تحايل على القرارات السياسية للاحتلال الإنجليزي بمنع تداول اسم الزعيم الوطني سعد زغلول في الهتافات بعد نفيه.
يا بلح زغلول – يا حليوة يا بلح
يا بلح زغلول – يا زرع بلدي
عليك يا وعدي – يا بخت سعدي – زغلول يا بلح
لم يكن درويش مجرد ملحن مجدد، بل تحول إلى مؤرخ، خط بالموسيقى أحداث التاريخ، بل ووثق بعض المهن والألفاظ التي لم تعد موجودة في يومنا هذا.
ولقد تجول درويش بعوده في شوارع مصر ليغني عن الوطن والكادحين، والفلاحات وبنات “البندر” أو المدن والأجنبيات، وغنى كذلك على لسان الصعايدة والسودانيين، والأروام والأعجام، بل وحتى عن الحشاشين.
ويقول ماجد سليمان، عازف العود ومدرب الغناء في فرقة “الورشة” التي تُعنى بالتراث الغنائي، إن تدريباته لا تخلو من أغنية لسيد درويش، وإن سر خلوده بعد مرور 100 عام على وفاته؛ هو أنه “ناقش القضايا التي تخص كل فئات الشعب، كالجرسونات والشيالين والصنايعية والموظفين والسقايين”.
في وجدان الشعب المصري
“كأني غنوة من قلب سيد”، هكذا وصف الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم نفسه في حبه مدينة الإسكندرية، مسقط رأس سيد درويش، الذي صار أيقونة هذه المدينة.
ويقول حازم شاهين، عازف العود وقائد فرقة اسكندريلا: “سيد درويش في الDNA [الحمض النووي] للمصريين، فهو في وجدانهم حتى وإن لم يعرفوه أو يميزوا لحنا له”.
حازم الذي عزفت أصابعه على عود قديم لدرويش في منزله بالقاهرة بحي شبرا، والذي رتب معه لقاء في حضرة عود سيد درويش بالمركز القومي للمسرح والموسيقى، حكى عن الاستقبال الحافل للجماهير حين استمعتْ إلى مطلع أغنية غير معروفة بعنوان “الفول السوداني”.
وقال حازم: “لم أكن أعرفها وأنا صغير، وأعتقد أن الجمهور أيضا لم يكن يعرفها، لكن حين قدمتْها اسكندريلا، ومن دون أن نخبر الجمهور بأنها لسيد درويش، فوجئنا بتصفيق حاد بعد ثلاث ثوان من عزف مطلع الأغنية”.
وأضاف حازم أن فرقته الغنائية بدأت بتقديم تراث سيد درويش بهدف “التعلم من الأداء، ومن طريقة الغناء الجماعي التي كان يقصد بها درويش تطوير الموسيقى العربية”، موضحا أن درويش أحدث “طفرة في الموسيقى، بعدما هضم أعمال من سبقوه، وتعلم منهم وتعلم من كل الثقافات التي كانت موجودة في الإسكندرية آنذاك، وأخرجها في جملة مصرية غير مسبوقة”.
رائد المدرسة التعبيرية
يقال إن درويش هو أول من استعمل توزيع آلات الأوركسترا الغربية في الموسيقى العربية، وأدخل إليها البوليفونية، أو تعدد النغمات في الوقت ذاته.
أطلق عليه الأديب عباس محمود العقاد “إمام الملحنين”، وقال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب: “يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن. إن سيد درويش فكر وتطور وثورة”.
وصفه ماجد سليمان بأنه “رائد المدرسة التعبيرية، حيث كان يعبر عن الكلمة باللحن”. أما حازم فيرى أن درويش قدم من خلال ألحانه “بُعدا لا يُمكن لأحد شرحه أو تحليله، وهو البعد الإنساني في الفن”.
“سيد درويش قدم جانبا تمثيليا يجعلك تحب الأغنية“.
يشرح ماجد ذلك على سبيل المثال، بأغنية “أهو دا اللي صار”؛ حيث نجده يمد الصوت في “واااادي اللي كااان” في دلالة على الماضي؛ لذا، “ملكش حق” مع سكتة بسيطة بعدها، تماما كالوقوف عليها في العامية المصرية، قبل أن يستطرد قائلا “ملكش حق تلوووم عليا” مع مد الواو تعبيرا عن الملامة.
أو كالمثل الدارج في “لحن الوصوليين” لدرويش في الجملة التي يقول فيها على لسانهم: “عشان ما نعلا ونعلا ونعلا، لازم نطاطي نطاطي نطاطي”، مع رفع الصوت تدريجيا للدلالة على تسلقهم للوصول إلى مبتغاهم، وأنهم في سبيل ذلك يحنون رؤوسهم ويتذللون، بأسلوب عبر عنه درويش بصوت ينخفض تدريجيا.
درويش وفيروز
صبح الصباح، فتاح يا عليم – والجيب مفهشي ولا مليم
مين فى اليومين دول شاف تلطيـم – زى الصـنايعية المظاليـم؟!
الصبر أمره طـال – من بعد وقف الحال
تلقف الرحبانية أغنية “الحلوة دي”، لتغنيها فيروز مع حذف وتغيير بعض الكلمات التي لم تستسغ نطقها، أو وجدتها غريبة على الآذان غير المصرية، أو ربما فضلت تغييرها لأسباب تتعلق بالرقابة، مثل الشطر القائل “اضربها صرمة تعيش مرتاح”، والصرمة هي اللفظة العامية للحذاء، في كناية عن اللامبالاة.
هذا التصرف تكرر مع أغنية “زوروني كل سنة مرة”، التي لم تلتزم فيها فيروز سوى بالمذهب الأساسي أو البيت الأول، مع تغيير ما تبقى من كلمات، وكذلك فعلت مع أغنية “طلعت يا محلا نورها”؛ على عكس “أهو دا اللي صار” التي حافظت على كلماتها من دون تغيير يُذكر، والتي يقول عنها حازم شاهين حين قدمها مع زياد رحباني أمام الجمهور اللبناني، “لم أشعر أن الجمهور استقبلها على أنها أغنية سيد درويش المصري، بل استقبلوها وكأنها من تراثهم الخاص، وشعرت بأنه فنان يخص كل الناس”.
للرقابة أحكام
في الحقيقة، لم تكن فيروز وحدها التي تصرفت في أغنيات سيد درويش، فبعض المطربين تصرفوا في بعض الكلمات حين غنوها، لأسباب تتعلق بغرابة الألفاظ أو بصور غنائية قد تراها الرقابة غير مقبولة.
على سبيل المثال، تصرف حفيده إيمان البحر في أغنية “الوارثين”، حين استخدم جملة “يا حبيبتي اهي ثروتي طارت .. ايه اللي جرالي معرفشي”، بدلا من “يا حبيبتي دي جتتي ساحت.. والحب اهوه نط ف وشي”، وأيضا حين قال “كل الأطيان لو ضاعت في نظرة ما نستخسرشي”، بدلا من “في بوسة ما نستخسرشي”.
بل إن هناك أغنيات لا تُذاع من الأساس، لكن سيجدها الباحث على الإنترنت، مثل أغنية “على قد الليل ما يطول” والتي كان يتغزل فيها سيد درويش في حبيبته الفنانة “حياة صبري”، في سياق إحدى المسرحيات.
قضايا قديمة معاصرة
“استعجبوا يا أفندية .. اللتر الجاز بروبية”
منذ مئة عام، والمصريون يشتكون من غلاء المحروقات، لم تكن مشكلة جموع المصريين آنذاك وقود الـ “أوتوموبيل”، أو السيارة؛ كالتي كانت لعلية القوم، وإنما كانت شكواهم من غلاء “الجاز” الذي يستخدمونه لإنارة مصابيحهم.
إن المواضيع التي عالجها درويش في أغنياته ما زالت حديث الساعة، من غلاء الأسعار وفساد الحكام والسياسيين والغربة واستمرار معاناة المواطن، ومحاولات تغييب العقول وبث الفتنة بين الشعوب.
“مفيش حاجة اسمه مصري .. ولا حاجة اسمه سوداني
بحر النيل راسه في ناحية .. رجليه في الناحية التاني
فوقاني يروح في داهية .. إذا كان يسيبه التحتاني”
كلمات قرأها سيد درويش في إحدى الصحف ردا على محاولات فصل مصر عن السودان آنذاك، وحركت تلكم الكلمات ريشة عوده على السلم الخماسي، ليلحنها ويغنيها بلهجة سودانية، قبل أن يلتقي بصاحبها بديع خيري.
واليوم وبعد مرور 100 عام، أمست هذه الأغنية تأريخا لحقبة مهمة من تاريخ البلدين حتى بعد انفصالهما، وتحولت إلى جزء من التراث العربي، وصارت تتردد على المسارح في مصر والسودان، بل وخارجهما.
خطأ شائع في تاريخ وفاته
حين تضع اسم سيد درويش على محرك البحث غوغل، ستجد معظم النتائج تخبرك بأنه رحل عن عالمنا في العاشر من سبتمبر/أيلول، لكنك ستجد أيضا بعض المواقع تقول إن وفاته كانت في الخامس عشر من سبتمبر.
كما أن “الجهاز القومي للتنسيق الحضاري” التابع لوزارة الثقافة في مصر وضع على منزل درويش بالقاهرة لوحة معدنية، ضمن مشروع “عاش هنا” الذي يهدف إلى توثيق المباني التي عاشت فيها شخصيات مصرية بارزة، مكتوب فيها أن وفاته كانت في العاشر من سبتمبر.
هذا ما دفعنا إلى التدقيق في الأمر، وخلال البحث، أرسل أحمد جمال، أحد المطربين المهتمين بتراث سيد درويش، صورة للشاهد الذي وُضع على قبر الموسيقار الراحل، والذي يؤكد وفاته في 4 صفر عام 1342 هجريا، وبمطابقة التقويم الهجري بالميلادي، يتأكد لنا أن هذا اليوم يوافق 15 سبتمبر/أيلول.
هذا بالإضافة إلى تقرير للباحث طاهر عبد الرحمن، كشف خلاله عن مقال كتبه الصحفي المشهور محمد التابعي عام 1965 بجريدة أخبار اليوم، نقلا عن الشيخ مفرح محمود، الذي كان ملازما لدرويش.
يقول الشيخ مفرح إنه زار سيد درويش 14 ديسمبر في منزل شقيقته، ووجده راقدا في الفراش، وفي اليوم التالي مات درويش، وهو ما يؤكد أن الوفاة لم تكن في العاشر من ذلك الشهر، بل الخامس عشر.
وزيادة في التأكيد، اتصلت بمحمد البحر درويش، حفيد سيد درويش، الذي كان له القول الفصل في هذا الشأن، مؤكدا أن وفاة جده كانت في 15 سبتمبر/أيلول. وأكد محمد أن كثيرا مما كُتب على الإنترنت في شأن تاريخ وفاة سيد درويش جانبه تحري الدقة.
لغز وفاته
تكاثرت الأقاويل حول وفاة سيد درويش، فهناك من يقول إنه مات جراء نزلة شعبية حادة، كما نقل “التابعي” في مقاله عن أصدقاء درويش أن السبب هو ذبحة صدرية حادة قضت عليه في ساعات.
وهناك من قال إن درويش مات بسبب جرعة مخدرات زائدة، وهي رواية تناقلها البعض وزاد في تأكيدها الفيلم السينمائي الذي أنتج عام 1966، وجسد دوره الفنان كرم مطاوع.
لكن عائلته تنفي نفيا قاطعا كل ما قيل حول هذا الأمر، مؤكدة على ذلك بخطاب بخط يده أرسله إلى صديقه قبل وفاته بعام أو أكثر، يؤكد فيه إقلاعه عن المخدرات ويدعو صديقه إلى فعل ذلك.
وكان درويش قد لحن أغنيات عن “المنزولجية”، والمنزول هو أحد أنواع المخدرات التي كانت متداولة آنذاك، وعن الكوكايين والحشاشين، لكن يبدو أن ذلك جاء في سياق شخصيات المسرحية، وتؤكد عائلته على أن رسالة درويش نفسه جاءت في نهاية الأغنية.
واقولك الحق يوم ما نلقى — بلادنا طبّت في أي زنقة
يحرم علينا شُربك يا جوزة — روحي وانتِ طالقة ملكيش عوزه
دي مصر عاوزه جماعة فايقين
وهناك رواية ثالثة تفيد بأن درويش مات مسموما؛ وأفاد البعض بأن صديقا وضع له السم.
وبالعودة إلى مقالة التابعي، نجد أن هذه الرواية يؤكدها الشيخ “مفرح” الذي حكى أنه حين زار درويش على فراش الموت وسأله عن حاله، أجابه بكلمة واحدة “الشاي”، واستشف منها “مفرح” أن درويش يريد أن يقول له إن سما دُس له في قدح الشاي.
وتؤكد عائلة درويش رواية “السم”؛ فحفيده الفنان إيمان البحر، قال في أكثر من لقاء إن الاحتلال الإنجليزي هو الذي قتل جده، خوفا من تأثير أغنياته التي كانت تلهب حماس الشعب المصري ضد المحتل.
وبرهن إيمان البحر على ذلك، بأن أسرة سيد درويش طلبت تشريح جثته آنذاك لمعرفة سبب وفاته، إلا أن السلطات رفضت ذلك تماما، وهو ما رآه كثيرون تأكيدا على وجود شبهة جنائية.
أعمال مفقودة وثقها الشعب
توفي سيد درويش وعمره 31 عاما، تاركا ميراثا تخطى 200 عمل غنائي، ما بين موشح وطقطوقة ودور وأوبريت.
يقول حازم شاهين: “ثلاثة أرباع ما قدمه سيد درويش مفقود، وجزء من تلك الأغاني المفقودة لم يوجد بصوته ولا بصوت أحد المعاصرين له، لكن الشعب حفظها”.
ويوافقه في ذلك ماجد سليمان الذي قال إن سيد درويش “حُورب ومُنعت أغانيه من التداول. ومعظم أعماله إما سُرقت أو لم تُدوّن. والكثير من أعماله فُقد”.
ورجح ماجد أن يكون الاحتلال الإنجليزي والإهمال سببين حالا دون الحفاظ على تراث سيد درويش، “الذي لم يعش طويلا بما يمكّنه من الحفاظ بنفسه على ما قدمه من أعمال”.
وأضاف: “نحن معتمدون على التراث الشفهي، ومع الأسف هناك مسرحيات غنائية مفقودة بالكامل، نعلم أنه قدمها لكن لا نجد لها نصا ولا أغنيات ولا نوتة أو مصدرا لتلك الألحان”
أما حازم شاهين، فضرب مثلا بأغنية “ايه العبارة” قائلا إنها من الأغنيات المفقودة، ومع ذلك، “لحنُها موجود في مصر بطريقة تختلف عن طريقة غنائها في سوريا ولبنان وفلسطين، لكنها تحمل الروح ذاتها”.
“مصرنا وطننا .. سعدها أملنا – – كلنا جميعا للوطن ضحية“
كانت هذه الأغنية الأخيرة لسيد درويش، التي لحنها ورحل قبل أن يستقبل بها الزعيم سعد زغلول وهو عائد من منفاه، ليموت على حب الوطن الذي غنى له “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي”، والذي أصبح نشيدا وطنيا لمصر يتردد حتى الآن في كل مناسبة وطنية، وفي كل محفل حول العالم.