ذات مساء في أبريل/ نيسان من عام 1948، هزت جريمة قتل مروعة بلدة أبيردار في وادي كانون بويلز، وجعلت السكان المحليين مذعورين لدرجة عدم الرغبة في مغادرة منازلهم.
لقد تعرض رجل للسرقة وللطعن بوحشية 44 مرة، وألقيت بعد ذلك جثته في أحد أحواض الزهور في حديقة أبيردار.
أرسلت شرطة لندن، التي يعرف مقرها باسم سكوتلاند يارد، أكثر رجالها كفاءة للتحقيق في الجريمة، لكنه للأسف لم ينجح في العثور على القاتل.
في هذه الأثناء، كثرت الشائعات في مجتمع وادي كانون المصدوم بأن عملية القتل ربما كانت مرتبطة بهتلر وأتباعه النازيين.
كان اسم القتيل جيرزي سترزادالا، على الرغم من أن العديد ممن عرفوا المهاجر البولندي المحبوب كانوا ينادونه ببساطة باسم جورج.
لقد جاء إلى ويلز في بريطانيا تاركا وطنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبدأ العمل في منجم للفحم في قرية هيرواين في مقاطعة روندا كانون تاف.
وقد قيل إن الشاب البالغ من العمر 33 عاما، كان لطيفا ومهذبا وودودا مع الجميع، وقد وجد ثلاثة أولاد صغار جثته بين شجيرات نبتة رودودندرون في صباح اليوم التالي، حين كانوا في طريقهم إلى المدرسة.
استدعي على الفور الطبيب الشرعي القريب، وسرعان ما وُضعت حواجز الشرطة حول مكان الحادث المروع.
وبطبيعة الحال، دفع ذلك بسكان المنطقة إلى إغلاق أبوابهم والتزام منازلهم خوفا.
وتعهد البعض بالابتعاد بشكل كامل عن تلك الحديقة التي كانت تحظى بشعبية كبيرة.
استرعت أخبار الجريمة المروعة اهتمام شرطة سكوتلاند يارد، وما لبث كبير مفتشيها، الشهير روبرت هاني فابيان، أن أنشأ قاعدة للتحقيق في أحد فنادق المدينة.
كان فابيان، أو آر إتش “RH” كما كان معروفا، من أشهر محققي عصره نظرا لكشفه عن بعض من أبرز الجرائم في لندن في ذاك الوقت – والتي كانت إحداها قضية قتل مثيرة للجدل أدت في نهاية المطاف إلى إلغاء عقوبة الإعدام بحق المتهم.
على الرغم من الإثارة التي أحاطت بوصول المحقق الكبير إلى البلدة، إلا أن إحراز أي تقدم في العثور على القاتل كان بطيئا بصورة محبطة.
وقد فشلت كافة الوسائل، حتى استخدام التكنولوجيا الجديدة الرائدة، جهاز كشف المعادن الأفضل في ذلك الزمن، في الكشف عن سلاح الجريمة.
وقد عمدت السلطات إلى تجريف بحيرة المنتزه على أمل أن يكون هناك دليل مدفون في الوحل تحت سطحها، لكن وللأسف، بدون أي جدوى.
وفي تلك الأثناء، ثبُت كذلك أن طرق مئات الأبواب للتحقيق هو أيضا طريقة غير مجدية، على الرغم من ادعاء البعض بأنهم رأوا “رجلا قصيرا مكتنزا في أواخر العشرينات من عمره” في الحديقة في الوقت الذي تم فيه الهجوم على سترزادالا.
وفي الواقع كان يبدو أن التحقيق الذي يقوده فابيان، قد وصل إلى طرق مسدودة.
كانت مجموعة كبيرة من عمال المناجم القادمين من أوروبا الشرقية تعمل في المنطقة، وكان بعضهم يقيم في نفس الفندق الذي يقيم فيه سترزادالا، لكن معرفتهم باللغة الإنجليزية كانت بسيطة، مما صعّب على الشرطة مهمة التحقيق معهم.
وفي الوقت نفسه، فإن الملابس التي عُثر عليها بالقرب من المنجم الذي كان يعمل فيه الضحية، والتي كانت عبارة عن صدرية وسروال، شكلت هي الأخرى أمرا محيرا ومربكا لسير التحقيق.
إذ عوضا عن أن يكون القاتل قد تخلص من تلك الملابس بعد ارتكابه الجريمة، كما كان مأمولا، كانت الملابس في حالة جيدة جدا ينتفي معها احتمال أن يكون القتيل قد ارتداها عند تعرضه لذلك الهجوم الشرس.
كما شعر المحقق البارع بشيء من الأمل في التوصل إلى خيوط لحل الجريمة عندما عثر على بعض الأوراق النقدية الملطخة بالدماء.
لكن وللأسف الشديد لم تكن تلك الأوراق النقدية ذات فائدة في التحقيق، فقد شكك البعض في أن الدم الموجود عليها ليس له أي علاقة بالضحية، بل وصل إليها ببساطة عبر الأيدي غير المغسولة لعاملين في محل الجزارة المحلي.
ولا يوجد سجل لما حدث بعد إرسال تلك الأوراق النقدية لإجراء فحوصات الطب الشرعي عليها.
لكن المثير للاستغراب هو ذاك الاعتقاد الذي ساد لدى البعض بأن الصراع في أوروبا لعب دورا ما في مقتل سترزادالا.
جريمة “مرتبطة بالتجسس“
تهامس البعض في ذلك الوقت أن الرجل الآخر الذي شوهد في حديقة أبيردار في تلك الليلة المشؤومة كان هو الآخر بولنديا.
ويتذكر البعض ممن كان لديهم أقارب يعيشون في مقاطعة روندا كانون تاف خلال أربعينيات القرن الماضي، الحديث عن كيفية تعرف الرجلين بطريقة أو بأخرى على بعضهما البعض خلال الحرب.
وكان الاستنتاج حينها هو أن سترزادالا ربما تواطأ مع النازيين أثناء الحرب، وقد تمكن مواطنه بعد ذلك من التعرف عليه وكشف هويته.
لكن في المقابل هناك من يعتقد أن الرجل الآخر هو من كان يعمل لصالح فاشيي هتلر، وأن سترزادالا فقد حياته بعد مواجهته له.
وقال أحد الأشخاص في منشور على صفحة ” بعض من أبيردار القديمة” A Bit of Old Aberdare على فيسبوك: “كانت هناك نظرية تتعلق بالتجسس، وأخرى تتعلق بضغينة قديمة حملها أصحابها من بولندا”.
وقال آخر إنه تحدث إلى والده المسن بشأن جريمة القتل وتذكر الأب التحقيقات التي قصدت البيوت، والشائعات حول عمل سترزادالا أو قاتله “كحارس في معسكر لأسرى الحرب”.
إذن هل كان القتل بدافع الانتقام؟
لسوء الحظ، قد لا نعرف الحقيقة مطلقا، إذ إن جريمة القتل تلك ما زالت بدون حل حتى يومنا هذا، وذلك على الرغم من إعلان شرطة جنوب ويلز في عام 2009 أن القضية التي لم يتم حل لغزها كانت واحدة من عدة قضايا ظلت مفتوحة للمراجعة والتحقيق.
لكن بالنسبة للمحقق فابيان، فقد كانت تلك من بين المرات القليلة في حياته المهنية، الطويلة والزاخرة بالألق، التي يفشل فيها في الوصول إلى الجاني.
وقد تقاعد المحقق البارز في العام التالي وهو يعلم أن قاتل جيرزي سترزادالا لا يزال في مكان ما، حرا طليقا.
وبينما لا تزال هوية ذلك الرجل مجهولة، يبدو أن الدافع وراء الجريمة سيظل لغزا أكثر غموضا وفظاعة.