في مثل هذه الأيام يكون قد مر 100 عام تماماً على بدء حركة نزوح كبار السينمائيين الأوروبيين إلى هوليوود، وكان في ذلك استباق واع للاضطهاد الذي سيمارسه الحكم النازي بعد ذلك بسنوات جاعلاً من ذلك النزوح ضرورة قصوى أوصلت إلى عاصمة السينما الأميركية عشرات المبدعين الكبار ومن بينهم، وربما على رأسهم بيلي وايلدر الذي قد يبدو اليوم منسياً بعض الشيء ما يقتضي العودة إلى التذكير به وبسينماه بين الحين والآخر.
كان يحلو لوايلدر أن يروي بين ذكريات بداياته السينمائية في برلين، أنه بعد فترة من حضوره من موطنه النمسا، سكن في منزل “وكانت واحدة من بنات أصحاب النزل، مخطوبة لشاب، وذات ليلة فيما كنت نائماً في سريري، دفعت الفتاة نحوي فجأة كهلاً بائساً يحمل حذاءه بين يديه متسللاً خائفاً، فيما عادت هي لتفتح الباب لخطيبها الذي يبدو أنه باغتها بحضوره غير المتوقع، وعلى الفور، ما إن تفرست في وجه الكهل حتى عرفته: كان مدير شركة ماكسي -فيلم، وهي واحدة من كبريات شركات الإنتاج.
سألني الرجل عما إذا كان لدى خف يستعيره لكيلا يضطر إلى انتعال حذائه وإحداث صوت، فقلت له على الفور: “نعم، لدي خف، ولكن لدي سيناريو للبيع أيضاً”. قال وقد أسقط في يده: “حسناً… أرسله إليّ غداً في المكتب”، فقلت له: “أبدأ… الآن وفوراً”.
” وهكذا أسقط في يده كلياً وتناول السيناريو وقرأه، وهو يعطني 500 مارك على سبيل العربون. أما أنا فناولته الخف”.
لا يعرف أحد بالطبع ما إذا كانت هذه الحكاية حقيقية، ولكن من الواضح أنها تشبه كثيراً من المواقف التي امتلأ بها بعض أفلام بيلي وايلدر لا سيما في مرحلته الهوليوودية.
مخرج – مؤلف مبكر
والواقع أن هذه الحكاية تنم عن شخصية وايلدر: اللؤم، وانتهاز الفرص، وحس السخرية، والقدرة على الإقناع.
ولعل هذه الصفات، هي ما جعلته من أطول كبار هوليوود مساراً، إذ إنه ظل يعمل وينتج ويكتب ويخرج، بنجاح كبير، طوال ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، محققاً، في برلين أولاً، ثم في باريس وبعد ذلك في هوليوود، مساراً مهنياً، لا ينقصه الإبداع الفردي على رغم هوليووديته، ولا ينقصه التنوع على رغم تأثره المبدئي بالتعبيرية الألمانية.
ولعل ما سـاعده عـلى هذا، كونه كان “مخرجاً مؤلفاً” قبل أن تبتكر السينما الأوروبية المصطلح، فهو كتب وحده أو شراكة معظم سيناريوهات أفلامه، كما ساعدته “كوزموبوليته” التي لن تمنعه لاحقاً من أن يكون هوليوودياً، وساعدته أيضاً، إدارة للممثلين، تحول الهامشيين إلى نجوم، والنجوم إلى ممثلين حقيقيين، وهي أمور مرتبطة أيضاً بسنوات عمله الأوروبية الأولى، ولكن كذلك بثقافته ما قبل السينمائية.
عندما طرده فرويد
ذلك أن بيلي وايلدر بدأ حياته صحافياً في فيينا، لا سيما في صحيفة “داي ستوندي”، وكان عمله الأساس يقوم على إجراء حوارات مع كبار المفكرين. ولعل تأثره الأكبر في ذلك الحين كان بلقائه المجهض فرويد، إذ زاره لمحاورته فإذا بهذا يصده بجفاء، ما إن عرف أنه صحافي. والحال أن هذا ولّد لديه موقفاً سلبياً ساخراً من التحليل النفسي، ظل يرافقه طوال حياته، ووصل إلى ذروته في واحد من مشاهد فيلم “فالس الإمبراطور” حيث تطالعنا محللة نفسية وهي منهمكة جدياً في تحليل شخصية… كلب. وإذا كان بيلي وايلدر قد تأسس، سينمائياً وفكرياً، ككاتب سيناريو في ألمانيا، فإنه إذ وصل إلى الولايات المتحدة في عام 1933، هرباً من النازيين واستشرائهم في ألمانيا، سبقته سمعته إلى هناك ككاتب سيناريو مميز، وهكذا، كان عليه أن ينتظر حتى عام 1942 قبل أن يدخل الإخراج بفيلم “الكبير والصغير” حتى وإن كان خلال مروره بباريس (عام 1933) حقق فيلماً هناك عنوانه “البذرة الفاسدة” يبدو الآن مفقوداً.
وكان العمل السينمائي ما سعى إليه وايلدر عبر انتقاله إلى الولايات المتحدة وهو في الـ27 من عمره، وكان سبقه إلى هناك عدد من مواطنيه النمسويين- الألمان ممن كان سبق له أن كتب لهم سيناريوهات أو ساعدهم إخراجياً، مثل روبرت سيودماك وإدغار أولمر… إذ إن ذلك الوقت كان زمن الهجرات الألمانية- النمسوية، نحو هوليوود.
من التشويق إلى النجوم
طوال مساره الهوليوودي الذي بدأه مخرجاً، في عام 1942، وأنهاه قبل تقاعده عند بداية الثمانينيات، حقق بيلي وايلدر نحو 27 فيلماً طويلاً. صحيح أن قلة من هذه الأفلام تحسب بين روائع التاريخ الهوليوودي، غير أن معظم أفلام وايلدر لقي إعجاباً وإقبالاً على الدوام. ولئن تميزت سينماه بروح المرح والحوارات اللئيمة بين أشخاصها، من دون أن تحمل حبكة الفيلم نفسه أي مفاجآت حقيقية، فإن ما تميزت به أيضاً هي أنها كانت دائماً الأفلام الأفضل في تاريخ نجومها، كما أن بعضها كان رائداً في موضوعه إذ حوكي بعد ذلك كثيراً. وفي هذا السباق كان وايلدر من أوائل الذين صنعوا سينما عن هوليوود نفسها (كما في “سانست بوليفار”)، وكان رائداً في جعل حكاية هذا الفيلم نفـسه تروى من طريق بطلها الرئيس الصحافي والكاتب (ويليام هولدن) الذي نراه مقتولاً في حوض سباحة نجمة هوليوود (غلوريا سوانسن)، ثم نبدأ بالإصغاء إلى حكايته كما يرويها لنا، من وراء موته.
وفي مجال السينما البوليسية، كان وايلدر من أفضل الذين نقلوا أعمالاً لجيمس كين (“تعويـض مزدوج”) أو آغاثا كريستي (“شاهد إثبات”) أو حتى تنويعاً على شخصية شرلوك هولمز (“حياة شرلوك هولمز الخاصة”).
مكان بارز للصحافة
ولأن بيلي وايلدر كان في الأصل صحافياً، كان طبيعياً أن يجعل الصحافيين، شخصيات رئيسة في أفلامه (كما في “سانست بوليفار”) ولكن بخاصة في “الكرنفال الكبير”، ثم في “الصفحة الأولى”، الفيلم الذي حققه آخر أيام مساره المهني، وصفى فيه على طريقته حسابه مع الماكارثية (مطاردة اليساريين في الأربعينيات والخمسينيات من السياسيين الأميركيين المحافظين)، تلك “الآفة” التي لم يستسغها أبداً ودمرت كثيراً من رفاقه السينمائيين من ذوي الأصول الأجنبية.
وأدت به أصوله الصحافية أيضاً إلى تحقيق بعض أفلامه ذات المناخ الصحافي، كذلك جعلته أصوله النمسوية يتحف هوليوود بأفلام ترتبط بمناخات فيينا وبدايات القرن والقصور ورقص الفالس (كما في “فالس الإمبراطور” و”امرأة برلين الفضائحية”).
ومع هذا كله فإن مجد وايلدر الأكبر يظل مرتبطاً بأفلامه الهزلية، وبالفيلمين الكبيرين للذين حققهما من بطولة مارلين مونرو: “سبعة أعوام من التفكير” و”البعض يحبها ساخنة” (وهذا الفيلم الأخير يعتبر عادة أفضل فيلم كوميدي حقق في تاريخ السينما، علماً أنه في الوقت نفسه وفي شكل مبكر، يطال الماكارثية أيضاً ساخراً منها شاجباً إياها، من خلال حكايته الطريفة).
أدوار لا تنسى
ولئن كان وايلدر قدم أفضل فيلمين لمارلين مونرو، فإنه أيضاً قدم لشيرلي ماكلين واحداً من أفضل أفلامها وأبقاها، إلى جانب تحفتهما “الشقة”، وهو “إيرما العذبة” الذي تدور أحداثه في أجواء فتيات الليل في باريس (ويشاركها فيه جاك ليمون الذي سيظل دائماً نجم بيلي وايلدر المفضل)، كما قدم لكيم نوفاك -مع دين مارتن- فيلم “قبلني أيها الأحمق”.
ولا يقل حظ أودري هيبورن مع وايلدر عن حظ شيرلي ومارلين، إذ إنه أخرج لها واحداً من أجمل أفلامها، بل الفيلم الذي أطلقها حقاً، “صابرينا”.
وكل هذا ينم طبعاً، عن حرفية كانت تميز عمل وايلدر، حتى وإن أخذت عليه -في بعض الأحيان نزعته المسرحية وغلبة الحوار على الفعل عنده، وأحياناً سذاجة مواضيعه.
غير أن هذا لا ينطبق كثيراً على تلك السلسلة الرائعة من أفلام وايلدر، التي ضمت، في بطولتها، الثنائي جاك ليمون/ والتر ماثيو، أو ليمون وحده مع نجمات الصف الأول. ومن هذه الأفلام “الشقة” الذي لطالما اقتبس موضوعه وسرق في بلدان عـدة، و”طبخ الثروة” الذي أبدع فيه الثنائي بشكل نادر المثال، في دوري محتالين بائسين، يجابهان العالم ويجابهان بعضهما بعضاً، و”الصفحة الأولى” ناهيك بـ”بادي بادي” الذي كان من آخر ما حققه وايلدر مع ثنائيه المفضل.
بين الهزل والرومانسية، بين التنديد بالمكارثية، وفضح عقلية هوليوود، بين فيينا وبرلين وباريس وهوليوود، بين كبار الممثلين، ووسط حوارات تحمل العبارة منها ألف معنى ومعنى، وتشكيل سينمائي نقل فيه وايلدر إلى هوليوود ما كان اكتسبه في عالم وسط أوروبا، عاش هذا الأخير حياة حافلة.