هل التنمية هي حقا الدافع الرئيسي وراء مشروعات السدود الإثيوبية على بحيرة تانا، مصدر نهر النيل؟
هذا ما يقوله الإثيوبيون، ولم يعترض عليه المصريون ولا السودانيون، شريطة ألا يضر أي من هذه المشروعات بما يعتبرونه “حقوقا مائية ثابتة”.
تحدي هذه الحقوق، التي يتمسك بها السودان ومصر، وإبطالها هو أهم الدوافع وراء المشاريع إثيوبيا لإنشاء سدود على النيل الأزرق، مصدر أكثر من 80 في المئة من مياه نهر النيل الرئيسي، كما تكشف وثائق بريطانية.
ووفق الوثائق، فإن الإثيوبيين أبلغوا البريطانيين بذلك قبل ثلاثة عقود مضت.
ففي النصف الثاني من شهر ديسمبر/ كانون الثاني عام 1992، نظمت كلية الدراسات الشرقية والأفريقية “سواس” في جامعة لندن مؤتمرا لبحث “المياه في الشرق الأوسط: العواقب القانونية والسياسية والتجارية”.
وفي تقييمه للمؤتمر، قال جريج شيبلاند، مسؤول ملف المياه في الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية، وممثل لندن في المباحثات متعددة الأطراف بشأن المياه، إنه انطوى على “جوانب جيدة وأخرى سيئة”.
موقف ضعيف
جاء التقييم في برقية بالغة السرية موجهة إلى رئيس إدارة البحوث والتحليل، وهي إحدى الجهات الرئيسية التي توفر المعلومات لصانعي القرار في وزارة الخارجية، وحسبما قال شيبلاند، الذي بعثته وزارة الخارجية إلى “سواس” للتعمق في دراسة ملف المياه في الشرق الأوسط، فإن الجوانب الإيجابية شملت بحث قضايا القانون الدولي العامة ذات الصلة بالأنهار التي تشترك فيها دولتان أو أكثر، والمسائل العامة المتعلقة بمخصصات المياه بين القطاعات الاقتصادية داخل الدول.
واعتبر الدبلوماسي البريطاني أن “كل هذا مفيد” في مشروعه الدراسي والبحثي.
وفيما يتعلق بـ “الجوانب السيئة”، تحدث شيبلاند عن “الافتقاد المعتاد للتفاهم بين المصريين والإثيوبيين” و “بين العرب والإسرائيليين” بشأن المياه.
كان المستشار الدكتور عوض محمد المر، رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية آنذاك، رئيس وفد مصر في المؤتمر.
ولخص شيبلاند الموقف المصري، كما عرضه المر، على النحو التالي:
لدى مصر حقوق مكتسبة بخصوص كمية مياه النيل التي تستخدمها حاليا، ويعتمد أمن مصر الزراعي على الاعتراف بهذه الحقوق المكتسبة، ومصر لن تتسامح أبدا مع بناء إثيوبيا أي سدود على النيل الأزرق. والنيل الأزرق هو مصدر أكثر من 80 في المئة من مياه نهر النيل العام.
وحسب برقية شيبلاند، فإن كلام المر لم يكن مقنعا، وقال إن “موقف المصريين هنا ضعيف، ومن المرجح أن يفشل” في كسب التأييد.
واستند الدبلوماسي البريطاني، في تقييمه، إلى أن الاستخدام الفعلي للمياه ليس هو العامل الوحيد الحاسم في تحديد كمية المياه التي تحصل عليها أي دولة.
وأشار إلى ضرورة مراعاة “الإنصاف” في توزيع حصص المياه.
وقال “بينما علمنا من الجلسات الأكثر عمومية التي ناقشت القانون الدولي أن “الاستخدام القائم” عامل يوضع في الاعتبار في تحديد أنصبة المياه بين الدول، فإنه أبعد عن أن يكون العامل الوحيد”.
وأضاف “يُعطى مفهوم ‘الاستخدام العادل ‘ الثقل نفسه على الأقل”.
واعتبر أن النيل حالة مثالية يجب أن يُطبيق عليها هذا المبدأ، وقال “يصح هذا بشكل خاص في حالة مثل حالة النيل، إذ إن الدولة التي تبتغي زيادة استخدام المياه (إثيوبيا) هي أقل تطورا من الدول التي تبتغي تجميد مستويات الاستخدام الحالية (مصر)”.
اعتراف إثيوبي
في ذلك الوقت كانت مصر، ولا تزال حتى الآن، تصر على أن لها “حصة واقعية” قائمة منذ سنوات طويلة تعتبرها حقا تاريخيا، وهي 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا من مياه نهر النيل.
وخلال السنوات الماضية، دأبت مصر على التحذير من المساس بـ “حصتها” من المياه.
كما تشدد على حقها في أن تُخطر بأي مشروعات على منبع النهر شريان حياة مصر، وفق الاتفاقيات الدولية.
وانتقد الدبلوماسي البريطاني الطرح المصري، في مؤتمر “سواس”، الذي رآه رافضا لفكرة “تطور القانون الدولي”.
وقال إن “عدم استعداد المصريين لقبول تطور القانون الدولي سيء وينطوي على مشكلة”، ليس هذا فحسب، فقد أشار شيبلاند إلى “عدم إدراكهم (المصريين) الواضح بأن موقفهم مستفز للإثيوبيين، ومن ثم يأتي بنتائج عكسية أسوأ، ومن المحتمل أن يضر بمصالحهم”.
وأبلغ الدبلوماسي البريطاني وزارة الخارجية، عن حوار دار بينه وبين الدكتور تيسفات، رئيس الهيئة الإثيوبية لدراسات تنمية الأودية، الذي كان يتصدى للموقف المصري في المؤتمر.
ورغم رأيه الناقد للموقف المصري، صارح شيبلاند المسؤول الإثيوبي بأنه من “الممكن أن تكون هناك مشكلات بشأن النيل بين دول الحوض أقل مما يعتقد المعلقون لو سعت إثيوبيا لتنمية الأنهار الأخرى في شمال البلاد”، مع استبعاد النيل الأزرق، وأضاف أن مثل هذا السلوك “سيكون أكثر جدوى اقتصاديا لإثيوبيا”.
ووفق شيبلاند فإن المسؤول المائي الإثيوبي أقر بصحة هذا الطرح.
ورغم إقرار الدكتور تيسفات، فإنه أكد، كما قال شيبلاند، أن “إثيوبيا قد تختار تنمية النيل الأزرق أولا كي تؤكد حقها في استخدام مياه هذا النهر، إذا ظل الإثيوبيون يستمعون دائما إلى هذا النوع من الأقوال التي سمعناها في وقت سابق اليوم من (رئيس وفد مصر) عوض المر”.
ووفق شيبلاند، فإن المسؤول الإثيوبي أكد له وجود “تناقض” بين موقفي المهندسين المصريين من ناحية والمسؤولين المصريين من ناحية أخرى من مسألة حقوق المياه التاريخية.
وزعم المسؤول الإثيوبي: أن “مهندسي المياه المصريين الذين يتحدثون في السر يظهرون أنهم أكثر وعيا باحتياجات الآخرين من الوعي الذي يبديه المسؤولون والسياسيون المصريون في العلن”.
لم تكشف الوثائق ما إذا كان البريطانيون قد أبلغوا، في حينه، مصر سواء بموقفهم من الطرح المصري أو بالتبرير الإثيوبي لمشاريع بناء السدود على النيل الأزرق.
كانت وثائق أخرى، عرضتها بي بي سي، قد كشفت عن أن بريطانيا خلصت عام 1990، إلى أن مصر “لن تقبل أن تكون رهينة لسلاح المياه الاستراتيجي”.
وقبل هذا بحوالى ثلاثين عاما، توقع البريطانيون، في عام 1961، بأنه إذا امتلك الإثيوبيون المال، فسوف يدفعهم هذا إلى اتخاذ سياسات مائية تضع مصر في موقف بالغ الصعوبة.
ووفق وثائق نشرتها بي بي سي سابقا، اعبرت تقارير دبلوماسية بريطانية عن “الشفقة” على وضع مصر في هذه الحالة.
وتحققت النبوءة البريطانية بالفعل بعد نصف قرن، ففي أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011، نفذ الإثيوبيون مشروعهم،وشرعت إثيوبيا في بناء سد النهضة الكبير على الشريان الرئيسي لمياه نهر النيل.
وواصلت إثيوبيا بناء المشروع، رغم الاحتجاجات المصرية والسودانية والمفاوضات الماراثونية الثلاثية التي شاركت فيها الولايات المتحدة أحيانا، وبدأت بالفعل في توليد الكهرباء منه، وهو ما احتجت عليه مصر.
تساور المصريين مخاوف قوية من تأثير سد النهضة على تدفق المياه على مصر، الأمر الذي يضر بحياة الملايين منهم، خاصة في قطاع الزراعة الحيوي.
ورغم توقيع إثيوبيا ومصر والسودان اتفاق إعلان المبادئ بشأن مشروع السد عام 2015، فإن الخلافات بشأن مراحل ملئه لاتزال تخيم على العلاقات بين أديس أبابا والقاهرة.
ما هو الأساس القانوني لحصة مصر “التاريخية” من مياه النيل؟
تحصل مصر منذ أكثر من 6 عقود على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا من النيل.
ومع التزايد المستمر في عدد سكانها، الذي تجاوز 110 ملايين نسمة، تشكو مصر من أن هذه الحصة غير كافية وألقت بالبلاد في فقر مائي.
وكمية المياه هذه هي نتيجة “اتفاق الاستخدام الكامل لمياه النيل” المبرم يوم 8 نوفمبر/تشرين ثاني عام 1959 بين مصر والسودان.
ووفق الاتفاق، فقد أقر البلدان متوسطا سنويا لتدفق مياه النيل عند أسوان قُدر بـ 84 كليومترا مكعبا، واتفق على تقسيمه على النحو الآتي:
- مصر تحصل على 55.5 كيلومترا مكعبا.
- السودان يتلقى 18.5 كيلومترا مكعبا.
- والباقي، اعتبر خسائر مائية نتيجة التبخر والتسرب في السد العالي، تعادل 10 كيلومترات مكعبة.
غير أن إثيوبيا، البالغ عدد سكانها قرابة 122 مليون نسمة، تشدد على عدم اعترافها بهذا الاتفاق وأنها لم تعتمد هذه الحصص.
ولا تزال أديس أبابا ترفض قبول مسألة “الحقوق المكتسبة” أو” التاريخية” لمصر.
وفي عام 1956، أعلنت أنها “سوف تحتفظ بمياه النيل في أراضيها لاستخدامها بالطريقة التي تراها مناسبة.”