تؤثر الكوارث الطبيعية في كل شيء تقريباً بدءاً من التأثيرات الجسدية كالخسائر في الأرواح والإصابات والأمراض والإرهاق، مروراً بالآثار الاقتصادية كخسارة الممتلكات والبطالة وتضرر البنية التحتية، وانتهاء بالتأثيرات الاجتماعية والنفسية التي تلحق باللاجئين والأيتام والفقراء بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة والحزن واليأس.
لكن التأثيرات تمتد أيضاً إلى التداعيات السياسية وبخاصة في منطقة يتداخل فيها نفوذ دول عدة وقوى دولية مثل تلك التي وقع بها زلزال تركيا وسوريا. فما طبيعة هذه التأثيرات؟ وما التصورات حيال المستقبل؟
وحدة مصير أم مزيد من الصراع؟
مع اندفاع الكثير من الدول لتقديم يد العون إلى المتضررين في جنوب تركيا وشمال غربي سوريا والتي أصبحت منطقة منكوبة بعد أن ضربها أحد أقوى الزلازل منذ عقود (7.8 درجة على مقياس ريختر)، انصب التركيز على كيفية المساعدة في إنقاذ السكان المحاصرين تحت الأنقاض، وإغاثة المنكوبين والمشردين وتلبية احتياجاتهم، وهو جهد تبذله الدول عادة عندما تضرب الكوارث الطبيعية مناطق مختلفة من العالم.
لكن الطبيعة الحساسة للصراع في سوريا ودور تركيا المتداخل مع قوى إقليمية ودولية أخرى، يجعل للتداعيات السياسية تأثير مهم في ديناميات العلاقة في المنطقة، وبصفة عامة فإن التجارب والتحليلات السياسية التي شملت 185 دولة في الفترة بين 1975 و2002، تشير إلى أن الزلازل لا تزيد من احتمالية نشوب صراع فحسب، بل إن آثارها تكون أكبر بالنسبة إلى الزلازل الشديدة التي تضرب مناطق ذات كثافة سكانية ومنخفضة الدخل كانت تشهد نزاعات موجودة مسبقاً.
وعلى رغم أن كثيرين من العلماء وصانعي السياسات ومنظمات الإغاثة يعتقدون أن الكوارث الطبيعية توحد المجموعات معاً وتثبط الصراعات، فإن ذلك يكون عادة في المناطق التي تشعر بوحدة الهدف والمصير المشترك، كما أن الزلازل يمكن أن تحفز بالفعل الصراع داخل الدول من خلال إحداث ندرة في الموارد الأساسية، لا سيما في البلدان النامية حيث تكون المنافسة على الموارد الشحيحة أكثر حدة وفق ما أشارت تحليلات إحصائية، وتوضح هذه النتائج أن جهود التعافي من الكوارث يجب أن تولي اهتماماً أكبر لاحتواء تأثيرات الزلازل واتخاذ تدابير معينة، بما في ذلك تعزيز الإجراءات الأمنية، لمنع اندلاع مزيد من الصراعات.
من يدفع الثمن في تركيا؟
تتباين العواقب السياسية بعد الكوارث الطبيعية القوية في العالم، ففي حين توضح دراسة أجرتها جامعة “أوبسالا” السويدية أن الثقة السياسية في الحكومة لدى المواطنين لا تتأثر بشكل عام، إلا أن السياق السياسي لهذه الكوارث يتيح استغلالها بشكل استراتيجي من قبل الجهات الفاعلة لشن مزيد من الانتقادات ضد الحكومة في المواقف المتوترة سياسياً، وهو ما ينطبق إلى حد كبير على الحالة التركية المقبلة على انتخابات عامة، وتشير يفغينيا جابر الباحثة في مركز الدراسات التركية الحديثة في جامعة “كارلتون” إلى أن التلاعب السياسي بالمأساة محتمل بدرجة كبيرة، وهناك خطر من العواقب المدمرة للزلزال قبل أشهر فقط من الانتخابات الحاسمة التي ينتظر أن تشهد قدراً من المزايدات السياسية والإعلامية في الداخل والخارج.
ويقول الصحافي في “اندبندنت” البريطانية بورزو دراغاهي إن تركيا التي شهدت زلزالاً مأسوياً عام 1999 خلف 17 ألف قتيل، وضعت قواعد بناء جديدة وطبقت أكواداً إلزامية لتأمين كل المباني من التأثر بالزلازل القوية، ومع ذلك حذر المهندسون المعماريون والمخططون الحضريون لسنوات عدة من أن القواعد لا يتم اتباعها بدقة كافية، مما قد يكون سبباً لمزيد من التدقيق العام حول هذه القضية قبل الانتخابات المقررة في 14 مايو (أيار) المقبل.
وقت المساءلة
غير أن الباحثة في معهد “بروكينغز” في واشنطن أسلي أيدنتاسباس، توضح أن كارثة زلزال 1999 والتي قد تماثل الزلزال الأخير في فداحتها وتأثيرها، أظهرت فشل الحكومة في تطوير استراتيجية وطنية للتعامل مع الزلازل على المستوى الوطني، وأشعلت رغبة شعبية هائلة في التغيير أفادت في النهاية “حزب العدالة والتنمية” (حزب الرئيس رجب طيب أردوغان)، عندما وصل الحزب إلى السلطة عام 2002.
وتضيف أيدنتاسباس في مقال رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” أنه مع تلاشي حلم تركيا الأوروبي، تآكل اهتمام الحكومة بالتزام معايير السلامة الأوروبية، وبعد ما يقرب من عقدين من الزلزال الهائل عام 1999 أقرت تركيا عام 2018 تشريعات في شأن الزلازل طال انتظارها، لكن تلك القواعد لم تحترم بدرجة كافية، في الوقت الذي وصف فيه أردوغان صناعة البناء بأنها جوهرة تاج الاقتصاد، مما شجع على الافتقار الضمني إلى الرقابة، بينما تميل العقود العامة الكبيرة في تركيا إلى الذهاب إلى المقربين أنفسهم من الحكومة، ولهذا تعتقد أيدنتاسباس أنه من حق الشعب التركي المطالبة بإجراء تحقيق شامل في هذا السؤال على وجه التحديد.
تحسين علاقات أنقرة بالعالم
لكن في الوقت نفسه، هناك عديد من أوجه الاستفادة لأنقرة، فقد حشدت المأساة حلفاء تركيا والدول الأخرى التي توترت علاقتها معها من أجل التضامن وعرض المساعدة الإنسانية وفرق الإنقاذ المدربة، مثل عديد من الدول العربية واليونان والولايات المتحدة وإسرائيل، على رغم أن تركيا لديها خبرة في الزلازل الشديدة وآليات متطورة للاستجابة لحالات الطوارئ.
ويشير ريتش أوزن المستشار الجيوسياسي في “المجلس الأطلسي” إلى أن المساعدة العالمية اللازمة لإنقاذ الأشخاص المحاصرين يمكن أن تقلل من حدة التوترات الإقليمية، وأن الرسائل المتعاطفة والداعمة من مختلف أنحاء المنطقة، بما في ذلك أثينا، تذكر بأن المآسي يمكن أن تخلق أيضاً إحساساً بالتضامن في أوقات الأزمات، ولهذا قد يكون هناك بعض الهدوء في العلاقات الإقليمية المتوترة في أعقاب وأثناء عملية التعافي.
ويتفق مدير مجموعة “غلوكال” الاستشارية إيسر أوزديل في أن أي دعم من دول أخرى سيحدث فرقاً، إذ أظهر التاريخ مرات عدة أن النضال المشترك في الكوارث الطبيعية مثل الزلازل يمكن أن يقدم مساهمات إيجابية في تنمية العلاقات بين البلدان، وأن الدول التي تظهر تضامناً مع تركيا ستعمل أيضاً على تحسين علاقاتها الثنائية مع أنقرة.
هل من تحول مع سوريا؟
يعتقد بعض المراقبين أن كارثة الزلزال وتداعياته المحتملة يمكن أن تكون نقطة تحول لنظام الرئيس بشار الأسد وقدرته على إصلاح العلاقات وتطبيعها مع تركيا، في وقت قد يمنح الزلزال الرئيس أردوغان العذر للقاء الرئيس الأسد وجهاً لوجه، ومن ثم تغيير خطوط الصراع التي قسمت البلاد، بخاصة مع إمكانية استغلال المعارضة التركية الأزمة خلال الشهرين المقبلين بعد أن ضغطت لفترة طويلة من أجل تخفيف عبء اللاجئين السوريين.
وما يشير إلى هذا التوجه أنه بعد ساعات فقط من الزلزال المدمر نشرت مراكز البحوث والدراسات الروسية عبر “تيليغرام” رسائل مماثلة تحث الرئيس التركي أردوغان على اغتنام هذه الفرصة لتجديد المحادثات المباشرة مع رئيس النظام السوري، بدعوى أن هذا سيكون وقتاً مناسباً لتنسيق العلاقات التركية – الروسية، وأعقبت ذلك محادثة هاتفية بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الوقت الذي تزايدت فيه المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تشارك نظريات المؤامرة حول الطابع المحتمل بأن كارثة الزلزال هي من صنع الإنسان، بزعم أنها تهدف إلى إضعاف تركيا بعد تصاعد التوترات مع حلفائها الغربيين.
ومع ذلك، لن يكون من السهل على أردوغان أن ينفض يده من اللاجئين السوريين أو يغير سياسته بالكامل تجاه سوريا، بينما لا تزال الولايات المتحدة غير مستعدة لأي تغيير في الوضع الراهن أو فتح قنوات اتصال مع دمشق.
المساعدات والحرب السورية
ومع وجود ملايين الأشخاص الذين نزحوا بسبب سنوات القتال إلى الشمال السوري، وهو المكان الوحيد الذي لا يزال خارج سيطرة الحكومة، بالتوازي مع الانهيار الاقتصادي الذي أحدثته الحرب، أصبح من المستحيل بالنسبة إلى كثيرين منهم الحصول على وجبة لائقة، كما جعلتهم أزمة الوقود هذا الشتاء يرتجفون من دون تدفئة، بينما تسببت البنية التحتية المدمرة في إصابة الآلاف بالكوليرا في الأشهر الأخيرة، وأدى الخراب الذي لحق بالمستشفيات إلى عدم تمكن عديد من الناس الحصول على رعاية صحية، ثم جاء الزلزال ليقتل الآلاف ويسوي أحياء بأكملها بالأرض في وقت واحد.
وفي ظل صعوبة الوصول إلى الإغاثة الإنسانية والتي كانت الأمم المتحدة قد قيدتها نسبياً، ليس من الواضح في ظل الدمار الكبير في محافظة هاتاي التركية على الحدود السورية، كيف يمكن أن تصل المساعدات عبر المعابر الحدودية الرئيسة، مثل باب الهوى، شريان حياة للملايين، وما إذا كان بإمكان أنقرة مساعدة السوريين عبر الحدود، وما الذي ستفعله وكالات وإدارات الإغاثة التركية والمنظمات الإنسانية؟
وعلاوة على ذلك، من المحتمل أن تتنافس القوات المدعومة من تركيا التي تتنافس على النفوذ وبخاصة في مدينة عفرين، مثل “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني السوري”، الأمر الذي ينذر بعرقلة وصول المساعدات الإنسانية فضلاً عن زيادة التوتر.
عجز النظام السوري
وحتى في محافظة حلب التي ضربها الزلزال بقوة، تظل هناك تساؤلات كثيرة حول ما إذا كان النظام السوري وداعمه الروسي سيتمكنان من تقديم المساعدة، أم أن النظام معزول وبسبب خضوعه للعقوبات التي أرهقته اقتصادياً، لن يتمكن من فعل شيء على رغم إعلانه أنه سيوفر الوقود وبعض المستلزمات الأخرى.
أما إيران التي تدعم النظام السوري، وتتعامل بالفعل مع تأثيرات الزلزال في شمال غربي البلاد، وتعاني عقوبات مريرة، فمن الصعب أن تتمكن من تقديم يد العون للنظام السوري، وبالنظر إلى المشهد المنقسم والقتال المستمر، وحقيقة أن كثيراً من الدول قد أمضت وقتاً أطول في قصف سوريا أكثر من المساعدة في إعادة بنائها، تتزايد المخاوف من أن تندلع مجاعة أو أسوأ من ذلك بسبب هذه الكارثة.
وما يثير القلق أن النظام السوري عاجز عن مساعدة نفسه بدرجة ملحوظة مثلما أشارت صحيفة “واشنطن بوست”، ففي الأسابيع الأخيرة انخفضت مدة وصول الكهرباء لمنازل السوريين في مناطق سيطرة النظام إلى أقل من ساعة في اليوم، مما جعل السخانات الكهربائية والهواتف المحمولة عديمة الفائدة، كما توقفت مضخات المياه في المزارع، وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ولم تعمل المضخات أيضاً في المباني السكنية، مما جعل الناس يشربون من مصادر ملوثة.
ووفقاً للبنك الدولي، تقلص الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بأكثر من النصف بين عامي 2010 و2020، وأعيد تصنيفها كدولة منخفضة الدخل في عام 2018 وتسببت جائحة فيروس كورونا في مزيد من الألم الاقتصادي.
الدور الأميركي
وفي قلب هذا المشهد المأسوي يبرز دور الولايات المتحدة التي تلعب دوراً رئيساً في شرق سوريا، وتدعم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تسيطر على مدن ومناطق رئيسة ليست بعيدة عن المناطق المتضررة من الزلزال، فهل ستقرر الولايات المتحدة والتحالف المناهض لتنظيم “داعش” أن لها أكثر من مجرد دور عسكري وتوفر بعض الدعم الإنساني، أم إنها لا ترغب في توفير الدعم بشكل مباشر والاكتفاء بتقديمه عن طريق منظمات الإغاثة الدولية التي تدعمها في سوريا وقد تعاني الآن في توصيل الدعم بالشكل الملائم.
وفي حين من المحتمل أن تتوقف تركيا والقوات التي تدعمها في سوريا عن شن هجمات جديدة بعد الزلزال، وتكون على استعداد لهدنة موقتة كي تعطي الفرصة للقوافل الإنسانية للمرور عبر منبج أو مناطق أخرى، من غير المعروف ما إذا كانت الولايات المتحدة يمكن أن تتعاون مع الروس في هذه الظروف الحالكة لتقديم المساعدة، وبخاصة بعد أن عبر القادة الأكراد عن تعاطفهم مع ضحايا الزلازل.
المصدر: إندبندنت عربية