يراقب العالم خمسة تحولات مستمرة تعد الأكثر إلحاحاً في العالم خلال عام 2023، كونها تؤثر بشكل واضح ومباشر في الجغرافيا السياسية، وتمثل هذه التحولات التغيرات في سباق التسلح بين أميركا والصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والعلاقة المتغيرة بين الهند وروسيا، والتضخم في أسعار الغذاء العالمية، وتصاعد الانقسام السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، وتفاقم هجرة العقول من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى أوروبا وأميركا، فما طبيعة التحولات المتوقعة وكيف ستكون انعكاساتها؟
-1- تسارع سباق التسلح في شرق آسيا
أثار تنامي القدرات والتصنيع العسكري الصيني في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ خلال عام 2022 وعبر السنوات الأخيرة مخاوف الغرب في شأن أهداف بكين الأمنية، ويتزايد قلق الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين من احتمال غزو الصين تايوان، أو اتخاذ إجراءات عسكرية من قبل بكين في بحر الصين الجنوبي، ومع ذلك يبدو أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة غير مستعدين لمواجهة التحديات العسكرية الرئيسة من الصين.
وفي السنوات الخمس الماضية ارتفع الإنفاق العسكري للصين بنسبة 25 في المئة، وهي نسبة أعلى من معدل الزيادة الأميركية الذي يقل عن 10 في المئة، وعلى رغم أن الصين أنفقت عام 2021 نحو 293.4 مليار مقابل نحو 800 مليار دولار أنفقتها الولايات المتحدة وفقاً لتقديرات البنك الدولي، فإن إنفاق الصين العسكري مخصص في غالبيته العظمى لمنطقة شرق آسيا، إذ يتركز كثير من هذا الاستثمار في المنصات العسكرية المصممة للهجمات البرمائية ونشر القوات في منطقة شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، على عكس الولايات المتحدة التي يتوزع إنفاقها العسكري جغرافياً على العالم بأسره.
لكن لا يبدو أن حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ يردون بالمثل بحسب ما يشير أندريس غانون خبير الأمن في مؤسسة “ستانتون”، إذ لا تستثمر حكومات أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان في القدرات العسكرية نفسها مثل الصين، ولا في الجهود اللازمة لمواجهة أو ردع القدرات الصينية المتزايدة، بما في ذلك الدفاعات الجوية وسفن الدوريات البحرية، بل إن تايوان التي تواجه التهديدات الأكثر إلحاحاً من الصين، لم تنفق مزيداً من الأموال حتى الآن على الدفاع على رغم حث الولايات المتحدة المستمر على القيام بذلك، ويبقى التحول في نظرة هذه الدول للخطر المحدق بها حاسماً في الخريطة الجيوسياسية في شرق آسيا.
وباستثناء الاستثمار الياباني المتزايد في بناء 22 غواصة جديدة، فإن عديداً من جيوش الدول الأخرى في جنوب وشرق الصين، تبدو تقريباً كما كانت قبل خمس سنوات، ولهذا يرى باحثون أميركيون أهمية أن تشعر هذه الدول بالقلق إزاء الآثار المحتملة لتوسيع نطاق نفوذ الصين لحماية تجارتها ووصولها إلى الموارد الطبيعية في المنطقة، لأن هذه الدول تعد إما متأخرة في تطوير القوة العسكرية اللازمة لمواجهة أي هجوم صيني محتمل، أو أنها واثقة تماماً من أن الولايات المتحدة ستقدم مساعدتها في أي صراع مستقبلي، وأن علاقاتها مع الولايات المتحدة ستعمل على ضمان أمنها ضد الصين، بخاصة أن أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية أبرمت اتفاقيات دفاع مشترك مع الولايات المتحدة وتجري تدريبات عسكرية مشتركة باستمرار.
-2- تغير العلاقة بين الهند وروسيا
يتصاعد دور الهند بشكل متسارع على الساحة العالمية بمقاييس عديدة، فهي رابع قوة عسكرية في العالم وفقاً لتصنيف “غلوبال فاير باور”، وهي سادس أكبر اقتصاد في العالم (ثلاثة تريليونات دولار)، وستصبح أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان العام المقبل 2023 حيث ينتظر أن يتجاوز عدد سكانها الحالي (1.4 مليار نسمة) عدد سكان الصين (1.42 مليار نسمة) خلال أشهر قليلة بسبب الزيادة الرهيبة في أعداد المواليد (86 ألف مولود كل يوم)، ولكل هذه الأسباب فإن التحولات في التحالفات والتوجهات الهندية تعني كثيراً للقوى العظمى وبخاصة للغرب.
ومنذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، تجدد الضغط الدبلوماسي الغربي على نيودلهي لإعادة النظر في علاقتها الطويلة الأمد مع موسكو، وفي الوقت الذي يقول بعض الخبراء إن مشتريات الهند المتزايدة من النفط الروسي في الأشهر الأخيرة تشير إلى أن العلاقات تزداد قوة بالفعل، يرى آخرون أن التوبيخ العلني من قبل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة إقليمية عقدت في سبتمبر (أيلول) الماضي كان بمثابة مؤشر على انقطاع تاريخي في الصداقة بينهما، وأن هناك تحولاً أكثر دقة في العلاقات.
ومنذ الحرب الباردة حافظت الهند والاتحاد السوفياتي على علاقات اقتصادية وعسكرية قوية، حصلت نيودلهي على معظم أسلحتها من موسكو، واستمرت تجارة السلاح قوية بينهما في السنوات التي أعقبت الانهيار السوفياتي، لكن مع منتصف عام 2010 بدأت الهند في تنويع مصادرها ببطء، وبحلول عام 2020 جاءت غالبية أسلحة الهند من دول أخرى، بما في ذلك فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة، ومع ذلك فإن عقوداً من الدعم العسكري السوفياتي لنيودلهي كانت تعني أن كثيراً من المعدات العسكرية الهندية اليوم لا تزال روسية، ولذلك يتعين على الهند الاعتماد على روسيا في كثير من البرامج والإصلاحات والتحديثات العسكرية لأسلحتها.
وعلاوة على ذلك، يظهر تاريخ تصويت الهند في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مدى السنوات العشرين الماضية، أنه في عديد من القرارات الخلافية، بما في ذلك تلك المتعلقة بحقوق الإنسان ونزع السلاح، انحازت الهند بشكل متكرر إلى جانب روسيا، لكن تحولاً بدأ منذ عام 2010 عندما صوتت الهند من حين لآخر مع الولايات المتحدة، وامتنعت إلى حد كبير عن التصويت على القرارات التي أظهرت انقسامات شديدة بين موسكو وواشنطن.
ويشير مانجاري ميلر الخبير في شؤون الهند وجنوب آسيا في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي إلى أن ازدهار مشتريات الهند من النفط الروسي لا يشير إلى زيادة الدفء في العلاقات الثنائية، بل هو مثال على مدى استعداد نيودلهي للاستفادة من فرصة مالية مع موسكو عبر الحصول على النفط بأسعار مخفضة بشكل كبير، لأنه في الإطار الأوسع للتجارة الهندية تظل التجارة الإجمالية للهند مع روسيا مخيبة للآمال عند مقارنتها بالتجارة مع شركاء مثل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
-3- ارتفاع أسعار الغذاء
كان انعدام الأمن الغذائي مشكلة مستمرة طوال عام 2022، ومن دون الجهود الدولية المتضافرة لمعالجته، ستتواصل المشكلة عام 2023، في وقت يشير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إلى أن أكثر من 820 مليون شخص يمثلون أكثر من 10 في المئة من سكان العالم ينامون جائعين كل ليلة، لكن أزمة انعدام الأمن الغذائي الذي يعد نتاج عوامل مختلفة، بما في ذلك الصراعات الإقليمية والصدمات المناخية تفاقمت بشدة مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى أعلى مستوياتها في أكثر من 10 سنوات.
وكرد فعل على هذه التطورات المقلقة عززت بعض البلدان قيود التصدير بسرعة في وقت مبكر من عام 2022، لا سيما على الأغذية والأسمدة، بهدف سحب بعضها مرة أخرى في الأسابيع التالية، ويظهر التتبع الذي أجراه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية أن 21 دولة معظمها من دول مجموعة العشرين التي تمثل أكبر الاقتصادات في العالم فرضت قيوداً على تصدير الأغذية، بما يمثل سبعة في المئة من حجم التجارة العالمية في السعرات الحرارية، وجاء نصف هذه القيود المفروضة على تصدير المواد الغذائية من اقتصادات مجموعة العشرين، مما أدى إلى انخفاض حصة السعرات الحرارية المتداولة المتأثرة بقيود الصادرات إلى ما دون المستويات التي شهدتها أزمة أسعار الغذاء عام 2008.
وفي غضون ذلك تسببت حرب أوكرانيا في تعطيل شحنات الحبوب بشكل كبير، مما أدى إلى حدوث مجاعة في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على هذه الواردات، كما لعبت العقوبات الغربية ضد روسيا وحليفتها بيلاروس دوراً في الحد من وصول بعض المنتجات الزراعية الروسية إلى دول أخرى، وطالما استمرت الحرب فمن المرجح أن يستمر تضخم أسعار الغذاء، ومع ذلك يمكن للبلدان المختلفة المساعدة في زيادة الدعم المالي لبرنامج الغذاء العالمي وإزالة قيود التصدير والإعانات الزراعية المضرة بالتجارة والعمل على تطوير ممارسات زراعية أكثر استدامة.
-4- انقسام سياسي متزايد في أميركا
أول ما قد يتبادر إلى الذهن عند النظر إلى الاستقطاب السياسي المتسارع في الولايات المتحدة، لا سيما الآراء السلبية المتزايدة التي يتبناها كل من الديمقراطيين والجمهوريين عن الحزب الآخر، هو ظهور “الترمبية” على الساحة السياسية الأميركية، لكن البيانات والدراسات تشير إلى أن الرئيس السابق دونالد ترمب ليس سبباً على الأرجح، بل هو عرض من أعراض الانقسامات التي تعانيها الولايات المتحدة منذ عقود وارتفعت بشكل مثير للقلق منذ أوائل التسعينيات.
ولا شك في أن “الترمبية” أدت إلى زيادة حدة الخلاف الداخلي، وعلى سبيل المثال تتبنى غالبية الحزبين الرئيسين الآن وجهات نظر مقلقة حول الأميركيين على الجانب الآخر من الطيف السياسي وفقاً لدراسة أجراها مركز “بيو” للأبحاث في أغسطس (آب) الماضي، إذ يصف كل طرف الآخر بمصطلحات مثل “غير ذكي” و”غير أمين” و”غير أخلاقي”، وفي حين أن هذا يعد تصعيداً خطيراً عما كان عليه الوضع قبل ست سنوات، إلا أن الاتجاهات الطويلة المدى غير مشجعة بالقدر نفسه، وتكشف عن أن الديمقراطية الأميركية من المحتمل أن تظل في وضع صعب وكأن عهد ترمب لم ينته أبداً.
وإذا كان رد فعل غالبية المحللين السياسيين على انتخابات التجديد النصفي، الشهر الماضي، والتي شهدت هزيمة العشرات من المرشحين البارزين المدعومين من ترمب، هو تعبيرهم عن الارتياح اعتقاداً منهم بأن تراجع نفوذ ترمب من شأنه أن يعيد الأمور إلى طبيعتها، إلا أنه خلال الأعوام الـ15 التي سبقت دخول ترمب الحملة الرئاسية عام 2016 تضاعفت تقريباً نسبة الأميركيين الذين يتبنون آراء غير مواتية للغاية إزاء الطرف السياسي الآخر، فإذا كانت العودة إلى الحياة الطبيعية تعني العودة إلى المسار القديم والآراء السلبية تجاه الطرف الآخر، فهذه ليست أخباراً جيدة.
ربما كان ترمب يمثل ذروة الاستقطاب السياسي الأميركي، وأن الحمى التي أسهم فيها بدأت تتلاشى أخيراً، لكن حتى لو تضاءل نفوذه في العام المقبل 2023 من الأرجح، بحسب ما يقول كريستوفر تاتل مدير مبادرة تجديد أميركا، أن يجد الأميركيون أنفسهم في بيئة سياسية مماثلة لما كان موجوداً قبل إعلان ترشحه عام 2016، وهذا ليس سبباً للتفاؤل.
-5-هجرة العقول الأفريقية إلى الغرب
عانت دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تراجع النمو من 4.1 في المئة عام 2021 إلى 3.6 في المئة عام 2022، وربما لن يتحسن كثيراً خلال العام المقبل 2023، مع استمرار معدل الفقر عند 85 في المئة من السكان، ويصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول 1619 دولاراً سنوياً وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، وهذا هو أحد أسباب هجرة العقول المتزايدة من هذه الدول إلى أوروبا والغرب عموماً.
لكن نيجيريا التي تملك أكبر اقتصاد في أفريقيا (441 مليار دولار) تعيش بشكل خاص في خضم أكبر هجرة عقول مقلقة للطلاب منذ عقود، وخلال السنوات القليلة الماضية تصاعدت الظاهرة بشكل أكبر، فمنذ عام 2020 زاد عدد التأشيرات التي تمنحها المملكة المتحدة للطلاب النيجيريين بمعدل أربعة أضعاف، ووصل عددهم إلى ما يقرب من 43 ألفاً عام 2021 وحده، ويعود ذلك إلى أن الدولتين تربطهما علاقات يعود تاريخها إلى الحقبة الاستعمارية ولغة مشتركة (اللغة الإنجليزية هي اللغة المشتركة في نيجيريا)، مما يجعل المملكة المتحدة الوجهة الأولى للطلاب النيجيريين.
غير أن هناك عوامل عدة في نيجيريا تؤدي إلى هذه الطفرة المقلقة للهجرة، من بينها عدم الاستقرار في قطاع التعليم وتدهور نوعية الحياة وضعف البنية التحتية وتفاقم الفساد وتدهور سوق العمل مع ارتفاع معدل بطالة الشباب إلى ما يقرب من 43 في المئة، بينما يتوقع أن يتزايد عدد سكان البلاد من 219 مليون نسمة، 42 في المئة منهم تحت خط الفقر إلى 377 مليوناً بحلول عام 2050.
وتشير هذه الظاهرة إلى اتجاه تصاعدي مستمر، إذ يتدفق الطلاب النيجيريون أكثر من أقرانهم في بقية الدول الأفريقية إلى الدول الغربية والولايات المتحدة وكندا، سعياً وراء التعليم العالي وآفاق حياة أفضل بشكل عام. وقال ما يقرب من نصف البالغين النيجيريين الذين شملهم استطلاع أجراه مركز “بيو” للأبحاث عام 2019 إنهم يخططون للسفر إلى الخارج في السنوات الخمس المقبلة.
ويشير إيبينيزر أوباداري كبير الباحثين في مركز “دوغلاس ديلون” للدراسات الأفريقية إلى أن عكس هذا الاتجاه سوف يتطلب من الحكومة النيجيرية والقطاع الخاص القيام بضخ استثمارات كبيرة في البنية التحتية لنظام التعليم، فضلاً عن زيادة التعاون مع أصحاب المصلحة الدوليين والمحليين، وعلى نطاق أوسع يجب أن تقوم نيجيريا باستثمارات أكبر في البنية التحتية بشكل عام والأمن وخلق فرص العمل لتشجيع مزيد من النيجيريين الشباب على تخيل مستقبل في بلدهم، وهو أمر ينطبق على كثير من الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى.
المصدر: إندبندنت عربية