يقدم سوق الإسكان في كندا لمحة عما قد يحدث في العديد من الدول المتقدمة الأخرى مع دخول المعركة العالمية لترويض التضخم مرحلتها التالية، فقد بات الأمر أشبه بلعبة بين محافظي البنوك المركزية والمستهلكين، الغلبة فيها لمن يصمد أكثر.
بدأت هذه اللعبة حين أوقف بنك كندا حملته لرفع أسعار الفائدة في وقت سابق من هذا العام، مؤكداً تحذيره بإمكانية العودة إلى ذلك مجدداً؛ بل والإبقاء على ارتفاع أسعار الفائدة، على الأقل لبعض الوقت. لكن لا يبدو أن أحداً يصدق تصريحات البنك المركزي، ما حدا بحشود متصيدي المنازل لأن يعودوا سريعاً إلى السوق.
كانت أشلي كورتيولا إحداهم، فقد اعتقدت أن أسعار الفائدة لابد أن تتجه للانخفاض بعد رفعها ثماني مرات متتالية، بغض النظر عن تصريحات البنك المركزي.
لذلك، عندما اشترت منزلها الريفي في مايو بمدينة هاميلتون التي تبعد ساعة إلى الجنوب من تورنتو، اختارت قرضاً عقارياً بسعر فائدة متغير تماشياً مع سعر الفائدة المرجعي الذي يحدده بنك كندا، بدلاً من قرض ثابت الفائدة. قالت كورتيولا: “أعتقد أن الجميع كانوا يظنون أن الفائدة بلغت ذروتها لأنها ارتفعت بشدة، ولا سبيل أمامها إلا الهبوط… فإلى أي مدى يمكنهم رفعها؟”
توقعات مغايرة
حتى المحترفين في شؤون السوق المالية كانت لديهم نفس التوقعات، فقد اعتبرت تداولات مقايضات أسعار الفائدة أرجحية أن يخفض بنك كندا أسعار الفائدة بحلول نهاية العام نحو 100%، وفقاً لحسابات “بلومبرغ”.
لكن انتهى الأمر بأن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة مجدداً في يونيو، بعد موجة انتعاش شهدها الاقتصاد الكندي بوجه عام وأسعار المنازل بشكل خاص، وكان هدفه إبطاء وتيرة نمو جميع الأسواق المبالغ في تقييمها، وأعقب بنك كندا ذلك برفع جديد في أسعار الفائدة في يوليو، وخصّ سوق الإسكان بالذكر كمصدر للتضخم المستمر.
قالت كورتيولا، إنها لا تشعر بالقلق حيال التغييرات التي قد تطرأ على ميزانيتها الشهرية إثر تغير أسعار الفائدة، كونها تركت هامشاً لاستيعاب الزيادات. لكنها ما تزال تعتقد أنه ربما لن يمر وقت طويل قبل أن يعكس سعر الفائدة المرجعي للبنك المركزي اتجاهه هبوطاً، وأنها ستكون قد وفرت مالها في نهاية المطاف.
علقت كورتيولا على سعر الفائدة المرجعي الذي حدده بنك كندا قائلةً: “ما زلت آمل أن ينخفض في الخريف. أعتقد أنه لا يمكنك أن تخطئ حين تختار الاستثمار في العقارات”.
تلخص هذه القناعة المأزق الذي يواجهه صناع السياسات النقدية حول العالم، وربما تكون كندا حالة متطرفة نظراً لاستمرار طفرة قطاع الإسكان لديها لفترة طويلة، فأثقل هذا كاهل مستهلكيها بالديون مقارنةً بغالبية الدول الأخرى، لكنها ليست الدولة المتقدمة الوحيدة التي شهدت انخفاضاً مطرداً لأسعار الفائدة لفترة مطولة فيما كانت ترتفع أسعار المنازل.
لكن ما تزال تكاليف الاقتراض غير مألوفة رغم الإدراك بأن أسعار الفائدة قد ارتفعت، ويدفع ذلك كثيراً من الناس للتشكيك بشأن إمكانية ارتفاعها أكثر.
لذا، يواصل الناس شراء المنازل، وهذا ربما يشكل ضغطاً تصاعدياً على معدل التضخم الإجمالي، وفي غضون ذلك، انتعشت أسعار المنازل في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا والسويد خلال الأشهر الأخيرة، حيث تتزايد التكهنات باقتراب أسعار الفائدة من ذروتها في تلك الدول أيضاً.
سيكولوجية المستهلكين
يجبر هذا الضغط محافظي البنوك المركزية على تناول القضية من زاوية علم النفس، إذ يحاولون معرفة كيفية جعل الناس يدركون أن أسعار الفائدة المرتفعة يمكن أن تستمر وأن أسعار العقارات قد تتبعها انخفاضاً.
قال مايكل سيلر، وهو اقتصادي درس كيفية تأثير علم النفس على أسواق العقارات في كلية ريموند أ.ميسون لإدارة الأعمال بجامعة “ويليام آند ماري” في مدينة ويليامزبرغ بولاية فيرجينيا: “يمكنهم أن يحاولوا رفع أسعار الفائدة لجعل شراء منزل أكثر تكلفة”، مضيفاً أن رفع أسعار الفائدة بغرض لجم التضخم في سوق الإسكان قد يفضي أيضاً إلى حدوث ركود أسوأ بكثير: “سيكون عليك أن تعاني بشكل ما، حيث سيصبح الأمر اختياراً بين أمرين أحلاهما مر: هل تفضل تلقي ضربة على ذراعك أم على ساقك؟”.
رغم أن دور أسواق الإسكان في حسابات التضخم يتباين بين دولة وأخرى، إذ تحتل أسعار المنازل المبنية حديثاً وأسعار الإيجارات أهمية أكبر في كندا مقارنة مع أسعار بيع المنازل القائمة. مع ذلك، عادة ما يؤدي ارتفاع الأسعار إلى زيادة الضغط صعودياً على المعيار
كما يشكل سوق الإسكان مؤشراً ومحفزاً لنشاط الاقتصاد الأوسع نطاقاً، فضلاً عن كونه أحد القطاعات الأكثر عرضة للتأثر بأسعار الفائدة، نظراً للكيفية التي تحدد بها معدلات الرهن العقاري ما هو بمتناول الشراة.
بالتالي، إذا انتعشت سوق الإسكان بعد ارتفاع أسعار الفائدة، فهذه علامة على أن الفائدة قد لا تكون مرتفعة بما يكفي الآن، ولن تكون كذلك بالتأكيد حين يبدأ هذا النشاط بالتمدد إلى بقية قطاعات الاقتصاد، لذلك، أشار بنك كندا حين عاود رفع أسعار الفائدة في يونيو إلى قوة سوق الإسكان باعتبارها أحد أسباب الإبقاء على الضغط.
تداعيات الازدهار
قبل بدء التراجع في أسعار المنازل العام الماضي، كانت كندا قد شهدت أطول ازدهار عقاري مستدام في العالم، إذ ارتفعت الأسعار الإجمالية فحققت خلال الـ 25 عاماً حتى مارس 2022 أحد أعلى المعدلات العالمية بواقع 553%، وقد شهدت تلك الفترة بعض الانخفاضات في أسعار المنازل إلا أنها لم تدم طويلاً.
تمخض هذا الازدهار عن حصول كثير من ملاك المساكن على مكاسب ضخمة يمكنهم استخدامها اليوم لشراء عقارات أكبر أو ليساعدوا أبناءهم على شراء عقارات عبر منحهم دفعات أولية أو إقراضهم بعيداً عن أسعار الفائدة.
قال أديل ديناني، الوسيط العقاري في فانكوفر: “لقد شهد معظم البالغين سوقاً عقاريةً صاعدةً خلال معظم فترات حياتهم مقارنةً بفترات الهبوط. إن الإقبال على تملّك العقارات في جميع أنحاء كندا قوي جداً، وهو مفهوم راسخ بأن العقارات هي أفضل فئات الأصول الاستثمارية.”
تقول إحدى النظريات حول استمرارية سوق العقارات الكندية الصاعدة على المدى الطويل بأن أسعار الفائدة المنخفضة، التي جعلت تكلفة الاقتراض أرخص، سمحت للناس بشراء منازل أغلى، وعليه، يجب أن تؤدي استراتيجية بنك كندا برفع أسعار الفائدة إلى كبح زيادات الأسعار إن صحت هذه النظرية، ويمكن قول الشيء نفسه عن دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى، حيث انخفضت أسعار الفائدة بشكل أو بآخر منذ أزمة 2008 المالية.
لكن هناك نظرية أخرى مفادها أنه ببساطة لا توجد منازل كافية في البلاد. في حين يجعل معدل النمو السكاني الكندي، الرائد عالمياً والمدفوع بمعدلات الهجرة المتزايدة، جانب الطلب من هذه المعادلة قوياً على نحو استثنائي؛ إلا أن العوامل المقيدة للعرض في كندا، مثل قواعد تقسيم المناطق ونقص العمالة الماهرة في قطاع البناء وارتفاع تكاليف المواد الخام، لا تختلف عنها في الدول المتقدمة الأخرى التي تعاني من نقص المساكن، وبالتالي، تخرج طرق معالجة هذه المشاكل عن نطاق صلاحيات بنك كندا، أو أي بنك مركزي آخر تكون أداته الوحيدة هي أسعار الفائدة.
قصة تحذيرية
تناول روبرت مارسيليو، وكيل العقارات في تورنتو، نفسية عملاء سوق الإسكان الكندية قائلاً: “سيتطلب الأمر تحولاً هائلاً لتغيير عقلية الأفراد. حين يسمع الناس مصطلح (تثبيت أسعار الفائدة مؤقتاً)، يفكرون: حسنا، التثبيت تتبعه انخفاضات، لنستثمر في هذا القطاع قبل أن تتجه الأسعار إلى الارتفاع مرة أخرى”.
كانت كندا بمثابة حكاية تحذيرية للعديد من الدول الأخرى، فتوعد رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بمزيد من رفع الفائدة حين استهل فترة تثبيت أسعار الفائدة بشكل مؤقت خلال يونيو، وذلك أملاً في منع المستهلكين من الارتكاس إلى هذه العقلية مرة أخرى.
كما صدم بنك إنجلترا الأسواق بمضاعفة وتيرة ارتفاعات أسعار الفائدة. يبدو أن استئناف بنك كندا رفع أسعار الفائدة قد دفع المتداولين للإذعان بدرجة ما، حتى الآن على الأقل؛ فهم لا يسعرون حالياً احتساباً لأي تغيير في سعر الفائدة المرجعي خلال هدا العام.
كما أن عائدات السندات، التي تكشف توقعات السوق لأسعار الفائدة في المدى الطويل، ما تزال قرب أعلى مستوياتها لأكثر من 15 عاماً.
قد يؤثر هذا التغيير بشكل مباشر على توقعات السوق الأوسع نطاقاً بشأن التضخم في نهاية المطاف، لا سيما في سوق الإسكان، حيث توجد دلائل على أن تكاليف الاقتراض المرتفعة تدفع بعض الشراة إلى خارج السوق، ويُعزى ذلك جزئياً إلى التغيير الذي شهدته سوق الرهون العقارية ثابتة الفائدة، إذ تحفز هذه القروض ارتفاعات في عائدات السندات.
لذلك، تراجعت تكاليف الاقتراض على القروض ذات الفائدة الثابتة عندما توقعت السوق خفض أسعار الفائدة، وكان هذا محركاً مهماً لارتفاع الأسعار في سوق الإسكان خلال الربيع.
أما حالياً، فتتوقع السوق تثبيت سعر الفائدة، ما انعكس على ارتفاع العائد على السندات الحكومية الكندية لأجل خمس سنوات، التي تشكل أساساً لقروض الرهن العقاري الشائعة، بأكثر من نصف نقطة مئوية منذ منتصف أبريل، ويعني هذا أن تكاليف الرهن العقاري أعلى بكثير مما كانت عليه حين كانت الأسعار تعاود الصعود.
دوافع الشراء
محلياً، ارتفعت أعداد المنازل المباعة في يونيو، قبل رفع بنك كندا لسعر الفائدة للمرة الثانية، وإن كان بوتيرة أبطأ بكثير مقارنةً مع الشهرين السابقين، حسبما أظهرت بيانات جمعية العقارات الكندية في وقت سابق من يوليو، ومع ذلك، استمر ارتفاع أسعار المنازل التي كانت معروضة للبيع.
تعطي أنواع الرهون العقارية التي كان الناس يحصلون عليها فكرة عن سبب استعداد هؤلاء الشراة للمزايدة بهذه القوة، وخلال فترة صعود الأسعار في الربيع، كان أكثر من نصف الرهون العقارية قد مُنح بسعر فائدة ثابت لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، مقارنةً مع الرهون العقارية لمدة خمس سنوات التي تهيمن تقليدياً على السوق المحلية، وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الكندي.
تجدد الرهون العقارية الكندية بوجه عام في نهاية المدة بسعر السوق الجديد. يشير هذا الاتجاه إلى اعتقاد العديد من الشراة بأن تكاليف الاقتراض ستنخفض عاجلاً وليس آجلاً، وأنهم يريدون الاستفادة من مرونة الشروط. كما يوضح ذلك سبب مثل هذا الإلحاح على الشراء خلال الربيع؛ فإذا كان البعض يعتقد أن أسعار الفائدة ستنخفض، فإن ربع قرن من الخبرة تفيد أنه لن يمر وقت طويل قبل أن ترتفع أسعار المنازل.
قال ويليام سترينج، الأستاذ في كلية روتمان للإدارة بجامعة تورنتو والذي درس العوامل النفسية في حروب المزايدات العقارية: “يريدون إقناع الناس بأنهم مستمرون في رفع أسعار الفائدة بقدر ما يتعين عليهم ذلك. كم مرة يجب عليهم استخدام زيادة سعر الفائدة لتحقيق ذلك؟ تصعب معرفة ذلك”.
المصدر: Businessweek