رايت رايتس

مدينة السلطان أكبر “فتح بور سكري”

الديسك المركزي
كتبه الديسك المركزي تعليق 7 دقيقة قراءة
7 دقيقة قراءة

لو تحرينا التاريخ بشكل علمي متعمق سيقول لنا إن الحضارة المغولية تلي تلك الهندية والصينية في ترتيب أعظم الحضارات التي عرفتها تلك المنطقة من العالم فنوناً وعمراناً وفكراً وتقدماً بل حتى تسامحاً، في زمن كان الظلام بدأ يخيم فيه على تلك الحضارات الآسيوية جاراً معه القوى الغربية من ناحية وأهل السهوب من ناحية أخرى لاستيطان البلدان وتدمير كل ما كان قد بني ونهب الخيرات، مهما يكن فإننا نعرف أن تلك الديار المغولية راحت تعرف بـ”الهند المسلمة” متخلية بالتدريج عن مغوليتها لصالح تسمية مستعارة من حضارة أخرى.

- مساحة اعلانية-

مدينة الـ 15 عاماً

ولقد كان أكبر، السلطان المغولي المسلم، واحداً من أكبر الأباطرة الذين عرفتهم “الهند المسلمة” في ذلك الحين.

- مساحة اعلانية-

 كانت الدنيا تبتسم لأكبر، إذ كان يحقق الانتصار تلو الآخر، وينشر دين الإسلام في تلك الديار في الوقت نفسه الذي يرعى فيه ازدهاراً ثقافياً وحضارياً كبيراً يتسم بقيم أخلاقية لا مثيل لها.

 غير أن ما كان يغص في نفس أكبر، الذي ارتقى الحكم وهو في الرابعة عشرة، عند بدايات عام 1556، كان عدم إنجابه ابناً ذكراً يخلفه على عرش تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف، وهو بعد ذلك، حين قصد صومعة ولي من أولياء الله “ليتوسل إلى الباري أن يرزقه طفلاً ذكراً يؤمن تسلسل ملوك المغول أحفاد جنكيزخان وتيمورلنك، من بعده”.

 وعاهد نفسه ، أنه إذا استجاب الله لدعائه وتضرعاته، سوف يبني من حول الصومعة مدينة عز نظيرها يجعل منها عاصمة ملكه، ومنطلقاً لنشر الدعوة الإسلامية في بقية ما تبقى من أرجاء آسيا، لا سيما شبه القارة الهندية.

- مساحة اعلانية-

وقد كان و استجاب الله لدعوات أكبر، وتحققت نبوءة الناسك الذي كان قال له إنه سيرزق بثلاثة صبيان ذكور، لا بواحد، وأنجبت له زوجته الأولى صبياً ثم جاء الصبي الثاني من زوجة ثانية، بعد ذلك بعام”.

كان على أكبر ابن همايون أن ينفذ وعده، وهكذا أمر ببناء تلك المدينة الرائعة “فتح بور سكري”، أي مدينة الفتح المقامة وسط منطقة سكري، وتحديداً من حول صومعة الناسك الشيخ سليم الشتري، واللافت أن تلك المدينة التي حلت محل العاصمة آغرا، بنيت خلال فترة قصيرة وقياسية من الزمن، لتعد معجزة عمرانية وواحدة من أجل حواضر الإسلام الآسيوي في ذلك الحين.

لكن الغريب، الذي لا يزال يشكل لغزاً حقيقياً حتى اليوم، هو أن المدينة بعدما عمرت عادت وهجرت خلال أقل من خمسة عشر عاماً مضت على إنجاز بنائها، وظلت مهجورة أشبه بأن تكون أثراً بعد عين طوال القرون التالية، بحيث لم يبق منها اليوم سوى قصر الملك أكبر وبعض المباني الدينية والإدارية.

بنيت فتح بور سكري، على بعد 35 كلم من آغرا، وتضافرت على بنائها ثلاثة عوامل، الموقع الطبيعي المناسب، إضافة إلى قرب المدينة من مقالع الحجارة، “فرح الإمبراطور بمجيء أبنائه لأن ثالثاً سوف يولد خلال بناء المدينة”، وأخيراً المكانة الدينية للموقع بفضل صومعة الشيخ الشتري.

وحرص بناة المدينة على جعل الصومعة في مركز القلب من المدينة، بحيث أن كل الدروب المقامة كانت تؤدي إليها، وكانت المدينة كما سيقول عالم عمران هندي بعد ذلك بأربعة قرون “عمل رجل واحد ونتاج فترة قصيرة ومحددة من حياته، وهذا العمل عبر عن ذهنيته وعن تصوره لتأسيس المدينة ودورها” .

من الجدير ذكره أن هذا الرجل، الإمبراطور أكبر، عرف بسعة علومه وفكره الثاقب، كما عرف بانتصاراته العسكرية، وعرف أيضاً بتسامحه الديني ،هو الذي اطلع على الكتابات الدينية المسيحية والزرادشتية وطلب من مساعديه (ومن بينهم أبو الفضل) ترجمتها، ولقد أسهم ذلك الانفتاح يومها في إيجاد تفاهم وتصالح بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية.

البناء بدءاً من الفكر

بالنسبة إلى مدينة الفتح، يمكن القول إنها بنيت بشكل يجعل التيارات كافة وسياسة التنظيم الإداري تصب فيها وتجد فيها انعكاساً لها، وهي بذلك كانت واحدة من مدن إسلامية- آسيوية، قليلة بنيت انطلاقاً من أفكار فنية وإدارية وفكرية مسبقة.

 وإذ تقول الحكاية إن القصر لا القلعة، والمدينة نفسها قد بنيا خلال أقل من عشر سنوات، فإن البناء كان يتم تحت إشراف أكبر نفسه. واللافت هنا هو أن معظم الأبنية أنشئت من طريق حجارة وجدران صنعت سلفاً ثم ركب كل منها في المكان المخصص له، بحيث يمكن اعتبار بناء مدينة الفتح ريادة في مجال البناء المصنع سلفاً.

 ولقد ركز زوار المدينة ومن بينهم الراهب الإسباني أنطونيو مونتسيرات الذي زارها أواخر القرن السادس عشر، على أن القلعة التي تضم قصر الإمبراطور كانت فريدة من نوعها لأنها لم تكن محصنة وهو ما كان يتعارض تماماً مع كل مفاهيم الحكم، وتحصن الحاكم، التي كانت سائدة في ذلك الحين.

 ولقد كان في هذا ابتكار لعلاقة جديدة بين المدينة والقصر الذي يشرف عليها، وكذلك لوحظ أن أجمل الأبنية التي أقيمت وسط المدينة كانت مفتوحة تماماً على ما هو خارجها، وإن هذا الانفتاح كان هو ما يحدد جوهر المدينة وشفافيتها. ويمكننا أن نضيف إلى هذا، أن تكون المدينة في الوقت نفسه كقاعدة عسكرية، إذ إن أكبر كان يمضي أكثر من نصف وقته في قيادة الحملات العسكرية، لم يمنع من رفدها بشتى ضروب الزينة والجمال المعماري.

تعانق الحضارات

لا يفوت الخبراء اليوم أن يشيروا إلى عنصر أساسي من عناصر بناء هذه المدينة، عنصر الانتباه إلى ضرورة التعويض على ضآلة مساحة الأرض التي بنيت عليها، فالهضبة التي شكلت قاعدة المدينة والتي كانت صومعة الشيخ الشتري تتوسطها لم تكن واسعة الأرجاء، وهذا ما أجبر المهندسين على ابتكارات عمرانية كانت جديدة على معمار المدن.

بالنسبة إلى مؤرخي المعمار ينتمي بناء مدينة الفتح إلى أسلوب يعرف بـ”المغولي البدائي”، الذي كان يشكل أول محاولة جادة، وناجحة، في مجال المزاوجة بين العمران الإسلامي والعمران الهندي، ومحاولة أولى ناجحة أيضاً لإيجاد بديل للعمران التركي – الأفغاني، ذي الكتل الثقيلة والأحجام الضخمة، وهذا ما جعل أسلوب العمران في مدينة الفتح يبدو حديثاً جداً، ويبدو معه أكبر كمؤسس لحداثة ما في العمران الآسيوي، والحداثة تتزاوج فيها الكتلة وقوتها مع الزينة ورهافتها في أسلوب عاد وأثر لاحقاً في البناء في تركيا العثمانية كما في كثير من المناطق الآسيوية الوسطى.

والحقيقة ان هذا النوع من المزاوجة كان متناسقاً مع فكر أكبر نفسه، ومع أسلوبه في الحكم وفي النظر إلى الحضارات، أسلوب التسامح والتلاقح الحضاريين، وبالنسبة إلى أكبر كان هذا هو جوهر الدين الإسلامي، وهو إذ عكسه في بنائه لمدينة الفتح، فإنه لم يفعل أكثر من تطبيق واحدة من أهم خصائص الدين الإسلامي.

المصدر: “إندبندنت عربية”

شارك هذه المقالة
ترك تقييم