“نعم”، قالها بيني طومسون النائب “الديموقراطي” الأميركي الذي يترأس “لجنة 6 يناير” (وهي لجنة منبثقة عن مجلس النواب الأميركي كلفت التحقيق في هجوم السادس من يناير (كانون الثاني) على مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، من جانب أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب)، مؤكداً أنه “ستكون هناك إحالات جنائية إلى وزارة العدل نتيجة التحقيق”.
بعد هذا التصريح برز يوم الثلاثاء الماضي تطور مثير للذهول، فقد تبين أن “منظمة ترمب” (وهي مجموعة من نحو 500 كيان تجاري يملكها دونالد ترمب لوحده، أو هو المالك الرئيس لها)، مذنبة بتهم احتيال ضريبي جنائي، وأصدر المحلفون حكماً أكد جميع التهم الـ15 المدرجة ضمن لائحة الاتهام التي تم رفعها العام الماضي ضد شركة “ترمب كوربوريشن” Trump Corporation و”ترمب بايرول كوربوريشن” Trump Payroll Corporation، وكذلك آلين ويسلبيرغ المدير المالي الذي تولى مهماته فيها لفترة طويلة”.
ويعد توجيه تهم من هذا النوع لشركات الرئيس السابق للولايات المتحدة بعد نحو عامين فقط من تركه منصبه أمراً مثيراً للدهشة حقاً، وهو تطور غير مسبوق على الإطلاق.
قد تكون هذه المحطة مجرد بداية كابوس أكبر بكثير بالنسبة إلى دونالد ترمب، فبعد تحقيق في أحداث السادس من يناير (كانون الثاني) العام 2021، استمر على مدى عامين وكشف كثيراً من التفاصيل الصادمة عن ذلك اليوم الذي شهد فوضى وأعمال عنف، تعتقد اللجنة أنه باتت في حوزتها أدلة جرمية.
اللجنة المؤلفة من “جمهوريين” اثنين وسبعة “ديمقراطيين” تريد من المدعين الفيدراليين الإمساك بالملف الآن والاطلاع على المواد بأنفسهم، علماً أن أية إحالات من جانبها ستكون غير ملزمة.
السيد طومسون رئيس اللجنة والعضو في الكونغرس عن ولاية مسيسيبي قال للصحافيين يوم الثلاثاء الفائت، “لقد اتخذنا قرارات في شأن الإحالات الجنائية”. ولدى سؤاله عما ذا كان يعتقد أن أي شهود حنثوا بقسمهم وأدلوا بشهادات زور، أجاب بأن “هذا يشكل جزءاً من النقاش”.
ويفترض كثيرون، لا بل يأملون، لا سيما منهم “الديمقراطيون أو الأفراد الذين لا يكنون المودة لترمب البالغ من العمر 76 عاماً والذي أعيد فتح حسابه أخيراً على منصة “تويتر”، في أن يكون الرئيس السابق من بين الأشخاص الذين تمت إحالتهم إلى الادعاء، وكان ترمب أعلن الشهر الماضي أنه سيترشح للمرة الثالثة للبيت الأبيض، ومن خلال إعلانه ذلك جعل نفسه المرشح الأوفر حظاً لتمثيل الحزب “الجمهوري” خلال الانتخابات المقبلة، إلا أنه منذ ذلك الحين لم يكن طريقه مفروشاً بالورد.
ويشار إلى أن تحقيق الكونغرس المعروف رسمياً باسم “اللجنة المختارة من مجلس النواب الأميركي للتحقيق في هجوم السادس من يناير” United States House Select Committee on the January 6 Attack، جرى إطلاقه بعد التمرد الذي طاول مبنى الكابيتول الأميركي مطلع العام 2021، ولم يتم تأسيس اللجنة رسمياً حتى صيف ذلك العام، لأن “الجمهوريين” رفضوا إجراء تحقيق أشمل وأوسع نطاقاً، ولأن الرئيسة السابقة لمجلس النواب نانسي بيلوسي لم تتمكن من أن تضم إلى فريق التحقيق سوى “الجمهوريين” آدم كينزينغر وليز تشيني فقط.
لكن الآن وفيما يستعد “الجمهوريون” للسيطرة على مجلس النواب في الكونغرس الجديد، ومن ضمنها الحق في تعيين رؤساء لجان كهذه، فمن المرجح أن يقوموا بإلغاء “لجنة 6 يناير”، وقد يكون هذا سبباً إضافياً يدفع بالعضوين “الجمهوريين” طومسون وتشيني (نائبة رئيس اللجنة) إلى الإدلاء بإعلانهما على الفور.
أما في ما يتعلق بمجريات التحقيق فإن أي مراقب محايد لجلسات الاستماع التي أجريت تسع منها هذه السنة وجلسة واحدة عقدت العام 2021، سيصاب بالذهول بعد الاستماع إلى الشهود الذين تحدثوا عن مشاهداتهم في ذلك اليوم، وقد أعرب كثيرون عن الخشية على سلامتهم، وقال بعضهم إنهم اتصلوا بأسرهم لوداعها عبر الهاتف في حال لم يتمكنوا من الوصول إلى المنزل.
وكان من الصعب أيضاً على عناصر المخابرات الذين كانوا يتولون حماية نائب الرئيس الأميركي آنذاك ألا يتأثروا بسماع الحشد الغاضب من المهاجمين وهم يهتفون “اشنقوا مايك بينس” Hang Mike Pence، وتبين لاحقاً أن الرعاع الذين اقتحموا المبنى كانوا على بعد 12 متراً فقط من المكان الذي كان يحتمي فيه.
ماذا أيضاً عن كاسيدي هاتشينسون البالغة من العمر 26 عاماً، مساعدة رئيس أركان البيت الأبيض مارك ميدوز والتي كانت لديها الشجاعة لتقول في العلن ما لم يجرؤ عليه رئيسها، بأن دونالد ترمب حاول العودة لمبنى الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) بعدما ألقى خطابه التحريضي، وحاول تولي عجلة القيادة في سيارته الـ SUV من السائق ليقودها بنفسه؟
كما أن الأمر يتطلب أيضاً من المراقب موقفاً متماسكاً وحيادياً لكيلا يتأثر بشهادة موظفتي الانتخابات في ولاية جورجيا شاي موس ووالدتها روبي فريمان، اللتين تعرضتا لتشويه سمعة من رودي جولياني كبير محامي حملة دونالد ترمب في ذلك الحين، عندما قال إنهما قامتا بتزوير الاقتراع في الولاية (زعم زوراً أن مقطع فيديو يظهر السيدتين وهما تسحبان 18 ألف بطاقة اقتراع مزورة من حقيبة وتعملان على إدخالها بصورة غير قانونية من خلال آلات التصويت).
وقد هرع أفراد إلى منزلهما وطرقوا على بابه، مما اضطرهما إلى الاختباء، وقالت السيدة فريمان أثناء اتصالها بخط الطوارئ 911 لموظف الدوام “أين هي الشرطة بحق السماء؟”.
قد يفترض مراقب محايد أيضاً أنه نظراً إلى أن جلسات استماع كثيرة عقدتها “لجنة 6 يناير” كانت تركز على ما قام به السيد ترمب أو ما لم يقم به، فإن أية إحالة بالتالي إلى وزارة العدل يجب أن تكون مرتبطة به، لكن في الواقع كثيراً من الجوانب الأخرى التي ينبغي النظر فيها، فالرئيس السابق يخضع منذ فترة لتحقيق يقوم به مدع خاص عينته وزارة العدل الأميركية للنظر في كل من أحداث “السادس من يناير” وفي تخزينه المزعوم لوثائق سرية في منزله في فلوريدا. (إدانات تتعلق باحتيال ضريبي في تعاملات تجارية لترمب، وهي مسألة منفصلة، وجرى التعامل معها من المدعين العامين في ولاية نيويورك).
من هنا قد يكون الرئيس السابق من بين الأشخاص الذين أحالتهم “لجنة 6 يناير”، لكن قد يكون هناك آخرون، فخلال الأيام الأخيرة صدرت أخبار عن خلافات داخل اللجنة مع ليز تشيني التي اشتهرت بقولها عن ترمب إن “رئيس الولايات المتحدة استدعى هؤلاء الرعاع وقام بجمعهم وأشعل شرارة الهجوم الذي قاموا به”، في محاولة منها لإبقاء التركيز النهائي لتقرير اللجنة على الرئيس السابق وحده.
كما يرغب “الديمقراطيون” على ما يبدو في المقابل بدفع الاستنتاجات قدماً إلى ما هو أبعد من ذلك، والنظر في دور شرطيي إنفاذ القانون ودور الحزب “الجمهوري” في الهجوم على مبنى الكابيتول.
جانب آخر يجب أخذه في الاعتبار وهو أن وزارة العدل في ظل الرئيس جو بايدن التي يشرف عليها المدعي العام ميريك غارلاند قد تجد صعوبة في توجيه اتهامات جنائية لرئيس أميركي سابق، وستكون الصعوبة تحديداً الآن بعد إعلان دونالد ترمب ترشحه رسمياً لمنصب الرئيس، إذ إنه سيحاول بالتأكيد تصوير أية محاكمة له على أنها محاولة من خصمه لعرقلة وصوله إلى البيت الأبيض.
وفي هذا الإطار سارع الرئيس السابق فعلاً إلى التنديد بالمدعي الخاص جاك سميث، معتبراً أن تكليفه هو ذو طابعٍ سياسي، وقال لشبكة “فوكس نيوز” أخيراً “ثبتت براءتي من كل شيء على مدى ستة أعوام، بدءاً بإجراءات العزل الزائفة ومروراً بموضوع (المستشار الخاص السابق روبرت) مولر الذي لم يثبت وجود أي تواطؤ، والآن يتعين علي أن أقوم بالمزيد. إنه لأمر غير مقبول وغير عادل، وخلفية ما يحصل سياسية بامتياز”.
الأمر الآخر هو أن هذه المسألة عشناها في السابق مرات عدة، فقد يفقد المتابع لمسار الحالات التي قيل لنا فيها إن فعلاً ما قام به دونالد ترمب، سواء لجهة تسجيلات برنامج Access Hollywood (تسجيلات صوتية له وهو يتحدث مع المقدم بيلي بوش في حافلة مزينة عندما كانت ميكروفونات مثبته عليهما تسجل حديثهما غير الرسمي)، أو رد فعله على احتجاج مدينة شارلوتسفيل، أو تعرضه للعزل مرتين، أو تناوله العشاء مع شخص معروف بتأييده لتفوق العرق الأبيض، سيشكل نهاية له مع أنصاره والحزب “الجمهوري” بشكل عام، إلا أن ترمب في جميع تلك المحطات خرج سالماً إلى حد كبير، أو حتى عزز وضعه، وعلى نحو ثابت في ظل رقابة أو انتقادات أكثر تواضعاً وبلا معنى، من جانب شخصيات بارزة في الحزب “الجمهوري”.
إن الواقع المتمثل في أنه حتى مع كل ما قام به دونالد ترمب لا يزال يحظى بدعم نحو 40 في المئة من الناخبين في الولايات المتحدة، يجب أن يدفع بالأميركيين إلى طرح أسئلة صعبة على أنفسهم.
والحقيقة هي أنه بغض النظر عن الأشخاص الواردة أسماؤهم في الإحالات ومن دين في نيويورك، ومهما كان التقدم الذي تحرزه وزارة العدل، يظل الرهان مبرراً على أن يكون دونالد ترمب مرشح “الجمهوريين” للرئاسة سنة 2024، وإذا كانت هذه هي الحال فإن أي شيء يمكن أن يحدث.
المصدر: “إندبندنت عربية”