يعتبر الحراطون أنفسهم وهم الذين ينحدرون من الأرقاء السابقين وأغلبهم من البشرة السمراء مواطنين من الدرجة الثانية في موريتانيا، حيث يعانون من التهميش والاضطهاد ويمارس ضدهم شتى أنواع الرق والعبودية، والتمييز في التعليم والصحة والعمل، وعادة ما يخرجون بشكل دوري في تظاهرات تقودها منظمات حقوقية على رأسها “ميثاق الحراطين”، ينادون بضرورة إنهاء التمييز والظلم الواقع ضدهم.
وعلى الرغم من الجهود الحكومية المضنية في مواجهة ظاهرة الرق والعبودية، يؤكد الحراطون أنهم حصلوا على بعض الامتيازات لكنها غير كافية، وأن رقًا واستعبادًا لا يزال يمارس ضدهم، مطالبين بضرورة المساواة بشكل كامل بينهم وبين مكون العرب (البيضان كما يطلق عليها الموريتانيون).
وأطلقت موريتانيا يوم الثلاثاء، حملة وطنية جديدة للتوعية بأهمية القضاء على ظاهرة الرق والممارسات الاستعبادية والتمييز العنصري في البلاد، وذلك في محاولة لفرض وتعزيز المساواة بين مواطنيها ومحاربة الفوارق الاجتماعية، وتشرف على هذه الحملة التي ستجوب كل مناطق البلاد، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ومنظمات أخرى.
الزراعة والتعليم.. الاستعباد مستمر
قال إبراهيم بلال رمضان، رئيس هيئة الساحل للدفاع عن حقوق الإنسان (منظمة حقوقية غير حكومية في موريتانيا)، إن فئة الحراطين يصل عددهم لأكثر من 50% من مجموع الشعب الموريتاني، بحسب تقدير المنظمات الدولية العاملة في مجال التنمية بالدولة، وهم فئة عانت جميعها من الاستعباد في الماضي، والبعض منهم لا يزال يعاني من الرق على شكله التقليدي، أو من مخلفاته.
إبراهيم وهو واحد من أولئك الحراطين، قال لـ”سبوتنيك”، إنه “عانى من الاستعباد والرق لمدة زادت على 20 عامًا، لكنهم استطاع التغلب عليها بعد دخوله التعليم، كما استطاع انتشال أخيه وأسرته من حياة الرق”، مشيرًا إلى أن “هناك قوانين تجرم هذه الظاهرة، ومحاكم مخصصة لها، لكن القانون غير مطبق، ويقف أمامه مجتمع الأسياد، وهذه المحاكم ولدت ميتة، إذ أن إجراءاتها ناقصة ولا تمارس أي عمل رغم كثرة الملفات الموجودة على رفوفها، حيث دائمًا ما يفلت مجرمو الاستعباد والرق من العقاب”.
“لا نزال نعاني من الغبن في المجال الاقتصادي وعدم تساوي الفرص في التعليم والسكن والماء، وفي ملكية الأراضي الزراعية”، هكذا يصف بلال أوضاع الحراطين في موريتانيا، مشيرًا إلى أنهم يمارسون الزراعة لكنهم محرومون من ملكية الأراضي الزراعية التي يملكها قبائل العرب في الأصل، والذين تحفظوا بملكية هذه الأراضي ويستخدموها للضغط على الحراطين في موسم الانتخابات، وفي التأثير على ممارستهم لحرياتهم، والدول التي تقف إلى جانب “الأسياد”، الذين يسيطرون على الدولة.
وأوضح أن الحكومة الموريتانية وافقت عام 1983 على قانون عقاري يؤكد أن الأرض ملك للدولة، وهي تمنحها لم هو مستعد لاستغلالها، لكن هناك من ضغط على الحكومة، وأبقى القانون غير مطبق، ما دامت ملكية هذه الأراضي تعود لـ “الأسياد”، الذين لا يمارسون الزراعة، لذلك المعاناة ستبقى متواصلة، ولا يبدو بأن هناك إرادة لحلها، خاصة وأن الجنوب الموريتاني معظمه من الأراضي الزراعية، وهي مناطق سكن العبيد السابقين حيث كانوا يمارسون مهنة الزراعة.
أما في مجال التعليم، يكمل رمضان بالقول: “أكثر ما نعانيه نحن الحراطون هو مجال التعليم، حيث كانت الدولة لا تهتم بالتعليم في أوساط الحراطين، ومدارسهم إما غير موجودة أو لا تحتوي على مباني، أو هناك نقص في طاقمها التعليمي، بينما يتعلم أبناء “الأسياد”، في مدارس جيدة ترعاها الدولة تسمى مدارس الامتياز، وهي خاصة بهم”.
الرق من الاحتلال إلى الاستقلال
يقول يربه ولد نافع، رئيس ميثاق الحراطين (يضم مجموعة من القوى والحركات والشخصيات الحقوقية والناشطين في مجال مكافحة العبودية)، إن هذا المكون يعيش وضعية صعبة منذ عقود طويلة، حيث استخدام السكان الجدد لموريتانيا الدين كوسيلة لاستعباد السكان الأصليين وكذلك القوة، فبات هناك طبقات مختلفة من النفوذ والتعليم، وهذا قبل الاستقلال.
وبحسب حديثه لـ “سبوتنيك”، مع استقلال موريتانيا، وتحديدًا ما بين عام 1958 و1960، اجتماع مكون العرب (يطلق عليهم في موريتانيا البيضان) ومكون الزنوج لوضع الأسس لموريتانيا الحديثة، والتي تتضمن أن يكون الحراطون مكونًا أساسيًا لهم كل الحقوق في الوطن، لا سيما وأن التقديرات تشير إلى أن هذا المكون يتراوح نسبته ما بين 50 إلى 55% في موريتانيا.
وتابع: “وقت الاستعمار ساعد الاحتلال مكون “البيضان” على استعباد الحراطين من أجل الحصول على خيرات البلاد، والتحكم في زمام المجتمع وتوجيهه طبقًا لسياسة المستعمر، حتى جاءت دولة الاستقلال، وبدأ دستور عام 1961م والذي أقر بأن جميع الموريتانيين متساوون أمام القانون، لكنه لم يتضمن أي مواد تحارب ظاهرة الرق والاستعباد أو يعاقب المسترقين”.
“أما اليوم، حافظت دولة الاستقلال على الدولة القديمة التي تعطي الامتيازات لشيوخ القبائل، حيث يهيمن على موريتانيا القبلية وأبناء الأسر النبيلة، وكلهم من العرب (البيضان)، هو من يسيطرون على زمام الأمور، وأغلب التعيينات والامتيازات يحصلون عليها، حيث يتحكمون في كل مصادر الرزق والتعيينات والحكومة والانتخابات، أما مكون الحراطين فهم في الحضيض يعانون ويلات الرق والعبودية”، هكذا يقول ولد نافع والذي أكد أن هناك تحسنًا وتطورًا فيما يتعلق بالتعيينات لكنها ضعيفة وطفيفة وبشروط منها الإنكار لوجود ظاهرة العبودية في موريتانيا والخنوع للمكون الآخر.
ثلاث أنواع للعبودية في موريتانيا
ويرى أنه لا يزال هناك 3 أنواع من العبودية التي تمارس ضد مكون الحراطين في موريتانيا، الأول الاسترقاق في الجيوب والأرياف، حيث نفوذ القبائل الذين لا يزالون يسترقون الناس في المزارع، وهم متمركزون على الحدود المالية الموريتانية، وكذلك الحدود الجزائرية وفي بعض مناطق الوسط.
أما النوع الثاني وهو أكثر تطورًا، حيث يستغل صاحب النفوذ أو الوزير أو السياسي، أو المدير علاقة الاستعباد القديمة مع أسرة أو أكثر من أسرة، حيث يجلبها معه إلى مكان عمله من أجل خدمته وخدمة أولاده، الذين يذهبون إلى المدارس بينما يظل أبناء الحراطين في المنازل من أجل التنظيف.
أما النوع الثالث، بحسب ولد نافع يتمحور حول أرباب العمل فأغلبهم إن لم يكن كلهم، من مكون “البيضان” يسيطرون ويهيمنون على الثروة والأماكن ويمارسون الاسترقاق والعبودية ضد الحراطين، إما عن طريق العمل في الباطن بدون عقد أو اتفاق، أو بمبالغ زهيدة وفي حال احتج العامل يفرضون عليهم الحصار، بل يطردوهم من العمل ويستبدلوهم بمكونات أخرى.
وفيما يتعلق بجهود الحكومات الموريتانية في إنهاء ظاهرة العبودية، يؤكد رئيس ميثاق الحراطين، أن الاستجابة بدأت مع قانون عام 1981، والذي وضع بعد استدعاء مجموعة من الأئمة الذين حرموا الاسترقاق والعبودية لكنه لم ير النور ولم تخرج لها مراسيم تطبيقية، وبعد ذلك قانون 2007، وهو يعد أهم القوانين في هذا الصدد، حيث حدد العقوبات ضد من يمارس الرق، لكنه يحتوي على الكثير من الثغرات.
وأنهى حديثه قائلًا: “رغم تحسن الأوضاع، لا يزال يمارس ضد مكون الحراطين العبودية، في بعض القضايا، أهمها التعيينات والانتخابات التشريعية والبلدية التي تخضع لمعايير قبلية، والاستفادة من رخص التعدين والامتيازات، وكذلك التعليم، حيث تظهر مسابقات التعيين وكأنها ديمقراطية إلا أنها الكفة تكون في صالح مكون واحد فقط هم البيضان.
جهود حكومية
من جانبه أكد أباب ولد بنيوك، النائب في البرلمان الموريتاني، أن كل الأنظمة والحكومات التي حكمت موريتانيا منذ الاستقلال وحتى الآن، أولت هذه الظاهرة اهتمامًا كبيرًا، رغم اختلاف المعالجات وأولوياتها، إلا أن هذه الظاهرة وطرق معالجتها شكلت مدخلا للحضور السياسي لدى بعض النخب من مكون الحراطين، وجعلهم في مواجهة مع الأنظمة الحاكمة، حيث ترى أن المعالجة يجب أن تتم من خلالها كقاعدة لهذه الفئة، فيما لم تتعاط الأنظمة التي حكمت موريتانيا معها في هذا، على اعتبار أن المعالجة يجب أن تكون شاملة وتبتعد عن الإطار السياسي والمناكفات السياسية وتوضع لها برامج وسياسات ذات بعد اقتصادي واجتماعي من أجل النهوض بهذا المكون.
وبحسب حديثه لـ “سبوتنيك”، استشعرت الحكومات التي حكمت موريتانيا بأهمية معالجة هذا الموضوع ووضع البرامج المخصصة للقضاء عليه مع مرور الزمن، وكانت هناك مجموعة برامج اجتماعية واقتصادية لتشجيع تلك الفئات على الاستقلال، والدخول في الجيش، ووصل الأمر إلى إصدار مرسوم في عام 1983 يحرم الاستعباد والعبودية، كما استحدث الرئيس وقتها مفوضية مكافحة الفقر والدمج وهي معنية بخدمة هذه الشريحة، عبر بناء المدارس والمستشفيات وتوفير التعليم والصحة ورفع مستويات الدخل.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بحسب ولد بنيوك، كان هناك بالمقابل سياسة موازية لدمج كل حملة المؤهلات من هذه الفئة لتعيينهم في المناصب الحكومية والوزراء والمديريات، كخبراء ووزراء وقادة للمؤسسات العسكرية من أجل فتح المجال أمامهم وتمكينهم للدخول في الدولة ومؤسساتها، وخلق طبقة منهم تكون قادرة على العمل وأن تكون نواة وأسوة للشباب الآخرين من هذه الفئات والمتعلمين منها من أجل التعلم وممارسة الأعمال الحرة والمستقلة.
الغبن والتهميش
وأوضح أن الحكومات المتتالية اعتمدت سياسات جديرة بالاحترام، حتى الرئيس محمد الغزواني ركز على البعد الاقتصادي والاجتماعي، ودشن مندوبية لمحاربة الرق والعبودية تهدف إلى مكافحة هذه الظاهرة ومواجهة الغبن والتهميش وهي موجهة أساسا لتلك القرى والفئات التي لم تجد الاستفادة الكاملة من برامج الدولة، وخصص لها أموالا ضخمة، حيث تمكنت المندوبية من وضع برامج مهمة للتأمين الصحي، 90% من المؤمنين صحيًا من هذه الفئة، وكذلك تولت التوزيعات النقدية المباشرة على الأسر، فالنسبة الأكبر من المستفيدين من هذه الشريحة، ناهيك عن بناء المدارس والمراكز الصحية، إلى غير ذلك الكثير من البرامج التي اعتمدتها الدولة.
وأكد البرلماني الموريتاني أن الرئيس الحالي دشن مشروع سند الاجتماعي، من أجل بناء آلاف الوحدات السكنية، والمستفيد الأساسي منها سيكون من هذه الفئة، حيث يعتبر من أكثر الرؤساء الذين بذلوا جهودًا كبيرًا في مكافحة ظاهرة الرق وآثارها ومخلفاتها وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة اختفت بشكل شبه كلي ولم تعد كما كانت، ولم تعد مقبولة في المجتمع، وتبقى هذه الفئة هي التي لم تنل حظها من التعليم، ولم تستفد من الدولة بالشكل المطلوب في السابق بحكم الوضعية التي كانت عليها، وهناك مخلفات للعبودية والرق وهذه الوضعية التي كانت قائمة تنعكس اليوم في انتشار الفقر والأمية بين هذه الفئة لكن المعالجات قائمة وأدت لنتائج مهمة جدًا.
وشهدت موريتانيا العديد من القوانين التي تجرم الرق، بدأت عام 1905 عندما أصدر الاستعمار الفرنسي قانونا لإلغاء الرق في كل المستعمرات. وفي عام 1960 مع استقلال موريتانيا، صدر قانون لإلغاء كل مظاهر الرق أيضا، وفي عام 1980، صدر قانون بإلغاء الرق ثم في عام 2018، صدر قرار بتجريم ممارسة العبودية، باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، حيث يحكم على من يدان بذلك في موريتانيا بالسجن حتى 10 سنوات.
وفي شهر يونيو الماضي، قدّر تقرير للمجموعة الدولية لحقوق الأقليات، عدد “أحفاد العبيد” في موريتانيا بنحو 40% من مجموع السكان، مبيناً أن الكثير منهم “يتعرضون للاستغلال”، مشيرا إلى أن العبودية “ممارسة متأصلّة في المجتمع”.
وفي مايو الماضي، أكدّ المقرر الأمم المتحدة المعني بأشكال الرق المعاصرة تومويا أوبوكاتا، خلال زيارة لموريتانيا دامت قرابة 10 أيام، أن البلاد أحرزت تقدما مهما للقضاء على العبودية، لكنّه أشار إلى أنّ “الإنفاذ الكامل لتشريع مكافحة الرق في موريتانيا لا يزال بعيد المنال”.
المصدر : “سبوتنيك”