مع فجر الأربعاء الماضي، شهدت الغابون انقلابا عسكريا مباشرة بعد إعلان علي بونغو فوزه في الانتخابات الرئاسية السبت بنسبة 64.27% من الأصوات، وهو ما دفع بفرنسا إلى إدانته ودعم أصدقائها في مستعمرتها السابقة من عام 1882 إلى 1960.
لكن تشبث باريس بموقفها الداعم “للديمقراطية” في الغابون ورئيسها، المتهم بالتلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية، من شأنه أن يضعها في تناقض مع موقفها الدبلوماسي الذي دافعت عنه في النيجر منذ الانقلاب ضد محمد بازوم.
ومما لا شك فيه، فإن استمرار عدوى الانقلابات يحيي المخاوف الفرنسية من خسارة جديدة قد تؤدي إلى انكسار عمودها الفقري لـ”أفريقيا الفرنسية”.
انتكاسة فرنسية
يرى رئيس المركز الدولي للتأمل والدراسات حول منطقة الساحل والخبير في الشأن الأفريقي صديق أبا، أن الانقلاب في الغابون يُعد انتكاسة حقيقية لفرنسا، لأنه يفتح صفحة من القلق وعدم اليقين حول ما ستؤول إليه العلاقات بين البلدين.
وقال أبا في حديثه للجزيرة نت: “إذا كانت فرنسا ترغب في الحفاظ على نفوذها وثقلها في أفريقيا، فعليها تغيير دبلوماسيتها ومراقبة المنافسة القوية عن كثب في المنطقة التي تشهد اليوم إقبال لاعبين جدد”.
ومن وسط القارة إلى غربها، تختلف الغابون عن النيجر، فالأولى لا تقع في بيئة عابرة للحدود الوطنية شديدة النزاعات وإنما تواجه أزمة سياسية داخلية وليست متعددة الأبعاد، كما أن الوجود العسكري الفرنسي في الغابون أقدم لكنه أقل أهمية منه في النيجر حيث يوجد 1500 جندي.
وأعرب الجنرال السابق في الجيش الفرنسي والخبير في العلاقات الدولية فرانسوا شوفانسي، عن استغرابه ممن يدعون أن أجهزة الاستخبارات لم تكن على علم بالانقلابات في النيجر أو الغابون، لأن التقارير أرسلت بالفعل إلى الرئاسة الفرنسية في الإليزيه لكنها لم تلق آذانا مصغية.
وأشار شوفانسي، الذي خدم في ساحل العاج، إلى توقع المتدربين آنذاك حدوث الانقلاب في البلاد، مشيرا إلى أنه اكتشف الأمر بعد 3 أشهر “وهذا بسبب سياسة تتبعها فرنسا منذ نحو 30 عاما إذ لم نعد نضع الجنود والضباط الفرنسيين داخل الجيش المحلي في رتب ثانوية مثل النقباء والملازمين الذي يكونون على اتصال مباشر مع صغار المديرين التنفيذين المطلعين على كل الأمور”.
من جهة أخرى، لا يعتبر الجنرال السابق أن الانقلاب يمثل انتكاسة لفرنسا في حالة الغابون، معتبرا وجود فرضية واحدة تفسر ما حدث وهي “أننا سمحنا بحدوث الانقلاب رغم علمنا به لأن الرئيس بونغو لم يكن ديمقراطيا بمعاييرنا. أما في حالة النيجر، ولو كانت أفريقيا فرنسية كما يدعي البعض، لتدخل جنود قواتنا الخاصة خلال 24 ساعة فقط وأعادوا الرئيس بازوم إلى السلطة”.
علاقات متصدعة
وعند العودة إلى تسلسل الأحداث بين البلدين الحليفين، نرى أن رئيس الغابون السابق عمر بونغو عاصر العديد من رؤساء الجمهورية من ديغول وميتران إلى شيراك حتى وفاته عام 2009، وكان يعرفهم جيدا وتربطه بهم علاقات وطيدة حتى أنه كان قادرا على اختيار الوزراء داخل الإليزيه.
فعلى سبيل المثال، ربط كثيرون سبب طرد جان ماري بوكيل، الذي كان يشغل منصب نائب الدولة للتعاون الفرنسي الأفريقي في حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي، بجرأته على مهاجمة عمر بونغو علنا.
وفي سياق متصل، يرى الخبير في العلاقات الدولية شوفانسي في حديث للجزيرة نت أن قضية المكاسب غير المشروعة ساهمت في تلويث صورة أسرة الرئيس الغابوني، وهو ملف لم يهضمه الشعب الغابوني بأي شكل من الأشكال، خاصة بعد تسليط القضاء الفرنسي الضوء على حيثياته أمام وسائل الإعلام.
واتفق رأي الكاتب والخبير النيجيري صديق أبا مع الرأي السابق، مضيفا أن عمر بونغو اختار عيادة في برشلونة حيث توفي بدل باريس لأنه كان غاضبا من فرنسا، لاعتباره أنه خدمها طوال حياته لكنها لم تكن ممتنة له ولابنه عندما تولى السلطة بعد التحقيق في هذه الأموال القذرة، وهو ما دفعه إلى التنويع وتحرير الغابون تدريجيا من التفرد الفرنسي القديم.
خسارة اقتصادية ثقيلة
وقد يكون من السابق لأوانه تقييم تكلفة الانقلاب على الاقتصاد الفرنسي بدقة، لكنها تبقى على أولويات النقاش نظرا لأهميتها، فعلى سبيل المثال، تسيطر شركة “توتال” الفرنسية على نفط الغابون منذ أكثر من 80 عاما، وشركة “إراميت” للتعدين تستغل المنغنيز وتوظف حوالي 8 آلاف شخص، معظمهم من السكان المحليين.
وأوضح الخبير في الشأن الأفريقي أنه في حال قرر منفذو الانقلاب الاستمرار في سياسة عائلة بونغو الممتدة لـ 55 عاما، بمعنى آخر أن يظلوا حماة مصالح فرنسا في الغابون- فلن تضطر باريس إلى القلق على مشاريعها، لكن إذا رأوا أن هناك فرصا للتعاون مع شركاء جدد مثل الصين وتركيا والمغرب، فهذا سيكون ضربة قوية لفرنسا ويضعها في موقف منافس.
وأشار صديق أبا، إلى استقطاب علي بونغو للصينيين للاستثمار وإستراتيجيته الاقتصادية لفتح البلاد أمام الأنغلوسكسونيين لتصبح الغابون عضوا في الكومنولث، حتى أن الرئيس المطاح به عندما طلب المساعدة عبر الفيديو كان باللغة الإنجليزية بدل الفرنسية.
من جانبه، ذكر الجنرال السابق في الجيش الفرنسي أن باريس تواجه نكسة اقتصادية أكثر منها عسكرية، معتبرا أنها أمام مسؤولية إقليمية في هذه الدولة، التي تعد رابع أكبر منتج للنفط في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث أدى الفساد إلى توزيع غير عادل للثروات على شعبها البالغ 2.5 مليون نسمة.
لكن شوفانسي يصر على التخفيف من حدة الخسائر الفرنسية، قائلا إن “الوقت قد حان لترك المكان لجهات أخرى مثل الصينيين والأتراك والغاربة، لأن تجارتنا اليوم موجهة أكثر نحو أوروبا الشرقية منذ 30 عاما”.
وأضاف: “هناك بالفعل مصالح اقتصادية هائلة وشركات تستغل المواد الخام من النفط والمنغنيز، فضلا عن وجود نحو 12 ألف مغترب فرنسي في الغابون. لكن دعونا لا ننسى أن التجارة الخارجية مع هذه الدول لا تتجاوز 3%، مما يعني أن أفريقيا ليست سوقا بالنسبة لنا”.
ويبدو أن للأمر بُعدا آخر بحسب الخبير الأفريقي، لأن باريس ستكون الخاسرة الأكبر اقتصاديا بسبب موقعها المهيمن في صناعة النفط أو الكوبلت، فضلا عن القطاع المصرفي وقطاع الخدمات والتأمين، لافتا إلى أن الخسارة لا تتعلق بالشركات الكبيرة فقط وإنما بالشركات الصغيرة والمتوسطة أيضا التي تقوم بأعمال تجارية كثيرة في الغابون، بما في ذلك تأجير السيارات والعقارات وقطاعات أخرى.
وجدير بالذكر أن أكثر من 80 شركة تابعة للشركات الفرنسية موجودة في الغابون، ويبلغ حجم مبيعاتها التراكمية نحو 3 مليارات يورو.
وكانت مجموعة “إراميت” أول من رد على الانقلاب بإعلان تعليق أنشطتها، موضحة أنها اتخذت هذا القرار “لحماية موظفيها ومنشآتها”. وتسبب هذا الإعلان في تراجع سهم الشركة في بورصة باريس بنسبة 18% صباح الأربعاء، في حين انخفض سهم “توتال الغابون” بنحو 14%.
خريف أفريقي بنكهة عسكرية
ورفض صديق أبا، وصف الانقلابات الحالية بـ”الربيع الأفريقي”، لأن الربيع يرمز للديمقراطية والوضع اليوم أشبه بالخريف، على حد تعبيره.
وفسر ذلك بتراجع الديمقراطية بشكل كبير في دول مثل بوركينا فاسو ومالي وغينيا بسبب الأنظمة العسكرية التي تحظر الكثير من الأمور، بما في ذلك حرية الصحافة والحريات الفردية المهددة.
من جهته، اختار الخبير في العلاقات الدولية ما يحدث في الغابون بـ”الربيع الأفريقي بلون الجيوش الكاكي” الذي يقسم أفريقيا إلى قسمين من الغرب إلى الشرق، فضلا عن وسط أفريقيا وجنوب الغابون، غير مستثنيا المخاطر في ساحل العاج وبنين وتوغو.
وأكد شوفانسي على ضرورة فك الارتباط عن أفريقيا الناطقة بالفرنسية وترك شعوب المنطقة تحل مشاكلها بنفسها، فضلا عن التخلي عن “منطق الأبوية” والحلم الفرنسي في نشر لغته وثقافته في أنحاء القارة.
وتابع بالقول “أتفهم أنه يجب الإطاحة بالسلطة غير الشرعية للحصول على حكم أفضل، لكن هل الجيش جاهز وقادر على القيام بجميع وظائف الدولة؟ لا أعتقد ذلك. والجدل الرئيسي حول الانقلابات العسكرية في أفريقيا منصب حول عدم منح الجيش فرصة ثانية للمدنية لتولي الحكم مرة أخرى”.
المصدر : الجزيرة