رايت رايتس

القرض حديث الساعة في مصر

الديسك المركزي
كتبه الديسك المركزي تعليق 14 دقيقة قراءة
14 دقيقة قراءة

الجهود غير المسبوقة للمواطنين للاطلاع على المعلومات الصادرة من صندوق النقد فتحت أبواباً عاتية أمام التحليلات الشعبية

- مساحة اعلانية-

لا حديث في “فرن الإخلاص” لصاحبه الحاج محمد العيسوي إلا عن رفع الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بنصف في المئة، ولا صوت يعلو في بقالة “الأسرة السعيدة” على صوت القرض المرتقب والصندوق المكروه وعلاقتهما بالبيضة ذات الجنيهات الثلاثة والدجاجة الهزيلة التي لا يتعدى وزنها 950 غراماً ذات الـ90 جنيهاً.

معارك الزبائن الكلامية مع العمال، حيث الاعتراض على قفزة الـ10 جنيهات الكاملة في كيلو البسكويت، والجنيه المتكامل في رغيف خبز الساندوتشات، لا تنتهي إلا بقول فصل من الحاج العيسوي، معلناً أنها إرادة الصندوق ولا راد لإرادته إلا معجزة من السماء أو إعادة عجلة الزمن إلى الوراء.

- مساحة اعلانية-

عجلة الزمن

عجلة الزمن التي تستوقف ملايين المصريين هذه الآونة ليندبوا على دورانها ويتحسروا على مآلها ليست إلا حائط مبكى يعلم الجميع أنه بلا جدوى، جدوى السجال العنيف الذي يدورعلى مدار الساعة منذ علم المصريون أن مباحثات قرض “الصندوق” بدأت، وأن النتيجة ستدق على الرؤوس، إن لم يكن اليوم فغداً، ليست إلا صمام أمان تنفس من خلالها زبائن “الأسرة السعيدة” الغفيرة عن ضغوطها الاقتصادية وتوتراتها النفسية وتحسباتها العصبية مما ستؤول إليه البيضة التي كانت في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة أعوام بجنيه واحد.

الجنيه المغدور والبيضة الأبية التي لم تعد في متناول حامل الجنيه، ومعهما الدجاجة التي خارت قواها فبلغ وزنها أقل من كيلوغرام واحد وبقية القائمة من بنود الصحة والمواصلات الحيوية، والكساء المتحول إلى بند الكماليات، والغذاء الترفيهي المتمثل في لحوم وأجبان باتت عصية على التدبير، جميعها موضوعات يصول المصريون ويجولون في أغوارها.

- مساحة اعلانية-

بينما كان مسؤولو “الصندوق” يجهزون “أسئلة أساسية عن مصر” ويخطون إجاباتها النموذجية لعلها تخفف الضغط الشعبي على الحكومة، بحثاً عن معلومة، والتوتر الجماعي الناجم عن معرفة ما يحمله الغد من رياح يزدريها المواطن المثقل بالأحمال، وينتظرها التاجر المتشوق إلى مضاعفة الأرباح ضعفين، الأول منطقي متوقع نظراً إلى سعر الدولار، والثاني خبيث شرير يقولون إنه عقيدة أثرياء الحرب.

عتاد حرب الأسعار

عتاد وقوام وذخائر حرب الأسعار الدائرة رحاها في مصر هذه المرة ليست ثمن البيضة ومصير الدجاجة وحلم اقتناء اللحوم أو الأجبان المستوردة، كما أنها ليست فقط “هبداً” (الإفتاء الشعبي) على رأس الحكومة من منطلق ستينياتي قائم على “أموية” الدولة الواجب عليها إطعام صغارها المواطنين في أفواههم، أو “أبوية” السبعينيات، حيث جسارة الأب أسفرت عن سياسة انفتاح فتحت شهية الملايين على ثقافة استهلاك عاتية مع تحقيق أرباح مذهلة عبر “بيزنس” التجار متناهي الصغر وصغار مستوردي المياه الغازية والحلويات والملابس والورد الصناعي وكل ما تشتهيه الأنفس الخارجة لتوها من “ديمقراطية اشتراكية تعاونية” لا مجال لعشق الرفاهية أو الوله بالاستهلاك فيها، ما يجري حالياً يتأرجح بين نوستالجيا لما ثار عليه المصريون في 2011 من جهة، وبين الإغراق في شؤون القروض الدولية وجهات التمويل الأممية والتبحر في التحليل الشعبي حول سعر الجنيه الحقيقي والإفراط في الإفتاء الاقتصادي حول ما ينبغي وما لا ينبغي من جهة ثانية.

وتبقى هناك جهة ثالثة تشكل عمود الخيمة، حيث مصير البيضة والدجاجة وساندوتش المدرسة وعلاج الضغط والسكري وأقساط المدرسة والشقة الجديدة والسيارة القديمة، ومصير الأسرة، لا بحسب رؤية 2030 أو توقعات 2050، بل في 2023 الذي يدق على الأبواب.

أبواب الاجتماع المغلقة

الأبواب المغلقة لوقائع اجتماع “صندوق النقد الدولي” مع مصر، الذي تكلل بـ”النجاح” يوم الجمعة الماضي انفتحت ليتفاجأ الجميع بأن ملايين المصريين يحاولون استراق ولو نظرة عبر ثقب المفتاح لمعرفة ما يجري.

ما جرى بالأرقام هو أن مصر ستحصل على قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار أميركي ضمن برنامج مدته 46 شهراً، وتتسلم الدفعة الأولى وقيمتها 750 مليون دولار خلال أيام.

الحسابات الشعبية قسمت 750 مليوناً على 104 ملايين نسمة، فخرج كل مواطن بـ75 ألف دولار تحل مشكلاته ومشكلات الأهل والجيران، “ويا دار ما دخلك شر” وتترك الحكومة والحكومات المقبلة تحل “مشكلاتها” من دون صداع شكوى الغلاء ومضايقات مطالبات الزيادة والعلاوات.

المنهج نفسه ساد من قبل عشرات المرات أحدثها وأشهرها كان إبان الحديث عن “الأموال المنهوبة” في إشارة إلى ما أعتقد أنها مليارات “نهبها” الرئيس السابق الراحل مبارك وأسرته ووزراؤه وتم تهريبها إلى خارج مصر. وهي الأموال التي عاش على أمل استعادتها الملايين مستخدمين المنهج الحسابي نفسه، حيث أمضى قطاع من بسطاء المصريين أشهراً يقسمون 130 مليار دولار أميركي على 84 مليون مصري (تعداد مصر في عام 2011)، لكن لا الأموال “المنهوبة” عادت، ولا تأكدت صحة غالبها من الأصل.

المتحرك الوحيد كان زيادة تعداد المصريين من 84 مليوناً في 2011 إلى 104 ملايين في 2022.

تعويم الجنيه

عام 2022 كان عاماً عام فيه الجنيه المصري كما لم يعم من قبل، وتجرع فيه كثيرون مرارة “الإصلاح” الاقتصادي كما لم يتجرعوا من قبل، فإن الجرعة الأخيرة التي تنهي العام الصعب كشفت الستار عن إفراط شعبي في البحث عن “مصر” و”الاقتصاد” و”الصندوق”، وبالطبع رفيقي السوء، السوق “الجنيه” و”الدولار”، كما لم تشهد الشبكة العنكبوتية من قبل.

الشبكة العنكبوتية المتاحة على الهواتف المحمولة لنحو 64 مليون مصري تقول إن المصريين في حالة حراك اقتصادي عارم وعراك نفسي يتنازعه البحث عن مباريات ما تبقى من كأس العالم وحادثة تصادم بين سعد الصغير وطليقته ومباراة “الأهلي” و”فيوتشر”.

هذا البحث لا ينافسه في الثراء والانخراط سوى نشاط الجموع الغفيرة من الشعب على منصات الـ”سوشيال ميديا” التي لم تترك تحليلاً حول قرض الصندوق إلا وأعادت تدويره “بتصرف”، أو تكهناً حول مصير الجنيه والأسعار إلا وشاركته باعتباره “عاجلاً” أو “شاهد قبل الحذف”.

جهود حذف الآراء والتعليقات من على منصات الـ”سوشيال ميديا” خوفاً من أن يكون بعضها مضللاً أو كاذباً أو مفبركاً لأهداف سياسية أو لجهالة اقتصادية أو لأنه “منقول” والعهدة لا تقع على الناقل وصلت عند البيان الصحافي رقم 22/441 المنشور على موقع “صندوق النقد الدولي” باللغتين العربية والإنجليزية وتوقفت.

بيان كاشف

البيان الرسمي المؤكد المعضد بصورة المدير العام كريستالينا غورغييفا أخبر الجميع أن “المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي وافق على عقد اتفاق مدته 46 شهراً مع مصر في إطار “تسهيل الصندوق الممدد” بقيمة 2350.17 مليون وحدة حقوق سحب خاصة (أي ما يعادل 115.4 في المئة من حصة العضوية في الصندوق أو نحو ثلاثة مليارات دولار أميركي)” إلى آخر البيان.

العيون المتصفحة في لهفة تغاضت عن الأرقام وتوقفت عند العبارات، “المساعدة في تلبية حاجات ميزان المدفوعات ودعم الموازنة”، و”عمليات البيع الجارية للأصول المملوكة للدولة”، و”سياسات الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي واستعادة الاحتياطات الوقائية”، و”تحقيق نمو مستدام وشامل بقيادة القطاع الخاص”، و”التحول الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن”.

إضافة إلى “تخفيض معدلات التضخم تدريجاً تماشياً مع أهداف البنك المركزي”، و”إلغاء دعم برامج الإقراض”، و”زيادة الإنفاق الاجتماعي وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة”، و”تقليص بصمة الدولة عبر إصلاحات هيكلية”، و”ضمان المنافسة العادلة بين الكيانات الاقتصادية”، وغيرها دق على أوتار بعضها معروف، والبعض الآخر متوقع أو متكهن.

نقص معلوماتي

الجهود غير المسبوقة للمواطنين للاطلاع على المعلومات والتصريحات الصادرة رأساً من “صندوق النقد الدولي” فتحت أبواباً عاتية أمام مزيد من التحليلات الشعبية والتكهنات المتأرجحة بين علم نافع وآخر شبه نافع وثالث لا هو نافع ولا هو علم من الأساس.

الموضوعات الاقتصادية الحساسة التي يتداولها البعض من المصريين على مدار الأشهر القليلة الماضية في ظل نقص معلوماتي رسمي تارة، وغموض الإجراءات الاقتصادية المتخذة تارة أخرى صارت مفتوحة على مصاريعها.

مسائل مثل المشروعات الكبرى والمتوسطة والصغرى التي تنفذها الدولة، ودور القطاع الخاص المتقزم، ومصير الأصول المملوكة للدولة، ومآل برامج الإقراض، وموقف شبكات الأمان الاجتماعي وغيرها أصبحت مدرجة على جدول النقاش الشعبي، بعيداً من الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي.

الانعكاس الأول لبيان الصندوق تمثل في تركيز إعلامي على ما من شأنه أن “يهدئ من الروع” و”يقلص من القلق”، فبين متخصص في الشأن الاقتصادي يجري مداخلة على الهواء مباشرة شارحاً باستفاضة كيف أن قرض الصندوق هو حماية للأسر محدودة الدخل”، إنها العبارة السحرية التي تمس حياة نحو 14.3 مليون مستفيد من برنامج مثل “تكافل وكرامة”، أو 23 مليون بطاقة تموين يستفيد منها 64 مليون مصري وغيرهم من الفئات الأكثر احتياجاً.

الاحتياج الحالي

لكن الاحتياج الحالي، الذي تعبر عنه مجريات الشارع يتعدى الفئات الأكثر احتياجاً، فالطبقة المتوسطة المهروسة بين مخملية الطبقة العليا البعيدة نسبياً عما يجري بحكم اكتفائها ذاتياً من مواردها وممتلكاتها وبعضها مؤمن خارج البلاد، وبين الأكثر احتياجاً التي أبلت الدولة بلاءً رائعاً في توفير حاجاتها وتأمين متطلباتها وتوفير “حياة كريمة” اسماً وسكناً ودعماً، سقطت سهواً من الحسابات، ووجدت نفسها تستيقظ ذات صباح على وقع قرض الصندوق وتصريحات مديرته التي وجدها البعض مثيرة للقلق.

قلق التعافي إثر أزمة عامين من “كوفيد-19” لم يكد يهدأ ويخفت حتى باغتته حرب روسيا في أوكرانيا، ما ضرب “تسارع وتير التعافي الاقتصادي خلال عام 2021” وتركه في غيبوبة.

مديرة الصندوق غورغييفا قالت في البيان الذي شغل عموم المصريين إن “مصر تصدت بصلابة لأزمة (كوفيد-19)، وعلى رغم تسارع وتيرة التعافي الاقتصادي خلال عام 2021، بدأت الاختلالات في التراكم نتيجة ثبات أسعار الصرف وارتفاع مستويات الدين العام وتأخر خطى الإصلاح الهيكلي”.

كلمات المديرة لم تحمل الحرب في أوكرانيا أكثر مما تحتمل، قالت، “أسهمت الحرب في أوكرانيا ببلورة مواطن الضعف القائمة (في الاقتصاد)”.

مواطن الضعف التي تم تسليط الأضواء الكاشفة عليها فجأة قبل ساعات عبر بيان الصندوق فيها كثير مما يراه أبناء الطبقة المتوسطة مدعاة للذعر، فبين خروج التدفقات الرأسمالية واستمرار تثبيت سعر الصرف وتراجع احتياطات البنك المركزي من النقد الأجنبي وانخفاض صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك وتفاقم اختلالات أسعار الصرف “باتت هناك حاجة إلى حزمة شاملة من السياسات الاقتصادية الكلية والهيكلية للحد من هذه الاختلالات”.

ملامح الاختلالات

ملامح عديدة للاختلالات واضحة وضوح الشمس في الشارع المصري، فبين هرع صغار التجار لإضافة خمسة أو 10 أو 15 جنيهاً قبل اجتماع الصندوق، ثم هرولتهم لإضافة مزيد عقب صدور البيان، ثم نزع بطاقات الأسعار من على السلع لعل كلمة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تجد لهم منفذاً لمزيد من الإضافة، وما خفي من تحركات على مدار الأيام القليلة المقبلة كان أعظم، يجد المصريون أنفسهم على قلب رجل واحد باحث عن “تسعيرة ترضي ربنا”.

تسعير السلع والمنتجات لا يخضع لقواعد رضا السماء أو بركة الأرض أو طيبة قلب التاجر أو سعة جيب المستهلك أو ضيقه، استراتيجيات التسعير معروفة لشعوب الأرض وحكوماتها، كل بحسب النظام الاقتصادي المعمول به، ومعروف أن المطالبة بـ”التسعير الحكومي” على رغم استحالتها هي أشبه باستغاثة المكلوم والمضرور والمضروب.

المقدمة اللطيفة التي مهدت بها الحكومة قبل أيام لما تدور رحاه حالياً تشغل البعض المتمسك بتلابيب الأمل، التصريحات المتواترة والتحذيرات المتعاقبة بأن على جميع أصحاب المنافذ التجارية وضع الأسعار على السلع، وإلا تعرضوا لإجراءات حاسمة تصل إلى مصادرة السلع وإغلاق المنفذ تعامل معها كثيرون باعتبارها خطوات ورقية وتحذيرات نظرية عادة ما تتبخر في هواء ضعف التطبيق وتهاون التفعيل.

موضوع الساعة

لكن الوضع الحالي يتطلب ما هو أكثر، القرض الآتي من الصندوق، والبيان المتداول في محلات البقالة وعلى محطات الباص ومنصات الـ”سوشيال ميديا” ودوائر المعارف والأصدقاء موضوع الساعة.

فبين علم العالمين ببواطن أمور الاقتصاد وإدارة القروض وتحديد أسعار الفائدة والصرف والتعامل مع أذون الخزانة والصناديق السيادية واستدامة القدرة على تحمل الديون، وفتاوى المتضررين واجتهادات المتألمين القائمة على نظريات في الاقتصاد مولودة من رحم اللحظة وحلول للميزانيات قائمة على حسابات لا معقولة تقسم أموال القرض على محتويات القنبلة السكانية وتتبقى بضعة ملايين للمواليد الجدد الذين يدقون الباب كل 20 ثانية، تنتظر جموع المصريين ما ستسفر عنه الساعات القليلة المقبلة.

ويلمح البعض إلى أن الصندوق بادر إلى “تسويق” قرضه و”تلميع” سيناريو التعامل معه في تلك الأجواء الملبدة بغيوم الدولار وغياهب الموازنة والدين والقطاع الخاص ومشروعات الدولة وبرامج “الغلابة” عبر كبسولة إجابات رداً على خمسة أسئلة ستدور بشكل أو بآخر في ذهن كل مصري، لماذا تشكل مرونة سعر الصرف أهمية لمصر؟ تواجه مصر فجوة كبيرة في التمويل الخارجي فكيف يتم سدها؟ كيف يوفر هذا البرنامج الحماية للأسر محدودة الدخل؟ ما تدابير البرنامج التي تهدف إلى تنمية القطاع الخاص؟ وماذا يفعل الصندوق لتحقيق مزيد من الشفافية فيما يخص السياسات في مصر؟

الإجابات الواردة على موقع صندوق النقد الدولي لا تجيب مباشرة عن سيناريوهات التعويم الكامل، وكوابيس الغلاء المرشح للزيادة، ومخاوف الاستمرار في المشروعات الكبرى العملاقة بالوتيرة نفسها، وتكهنات الخطوات المتوقعة في ضوء القرض الجديد، لكنها بمثابة خريطة طريق لما هو متوقع وليس بالضرورة “متمنى”.

المصدر: “إندبندنت عربية”

تم وضع علامة:
شارك هذه المقالة
ترك تقييم