في مناخ دولي غير مسبوق تحاول روسيا إعادة عقارب الزمن إلى فترة الحرب الباردة باستقطاب حلفاء من جنوب العالم وشرقه على رغم التحولات والتطورات العالمية اللافتة التي تحيط بها، والمحرك الأساس لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو “حلم الإمبراطورية الروسية”، ومع أن مسرح تحقيق هذا الحلم واسع، لكنه انطلق بسرعة كبيرة نحو أفريقيا مستغلاً تدفق الموارد وقلة القيود الغربية، خصوصاً من الولايات المتحدة، التي بدت أخيراً وكأنها في حاجة إلى تشكيل سياسة خارجية أميركية جديدة.
وتبلور النزوع الروسي نحو إقامة علاقات مع دول القارة لخدمة تطلعاتها من دون أن تنسى وضع حساب للنزوع الأميركي، فجاءت القمم الأميركية – الأفريقية، والروسية – الأفريقية على نهج التسابق، كان آخره عقد القمة الروسية – الأفريقية الثانية خلال 27 و28 يوليو (تموز)، في سانت بطرسبورغ، ولكن بمشاركين أقل من المتوقع من رؤساء الدول الأفريقية، إذ حضر 17 رئيس دولة أفريقية فقط، أي أقل من نصف القادة الأفارقة البالغ عددهم 43 الذين حضروا القمة الأخيرة، عام 2019، واتهم المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الحكومات الغربية بـ”محاولة تخريب” القمة.
وكان بوتين يأمل في أن تعزز قمة هذا العام علاقات موسكو مع القارة السمراء للمساعدة في مواجهة العزلة الدولية لروسيا الناتجة من قراره بالتدخل في أوكرانيا، وانتهز الفرصة ليشيد بدور أفريقيا في “النظام العالمي متعدد الأقطاب” الناشئ، مشيراً إلى أن “عصر هيمنة” دولة واحدة أو دولتين تراجع إلى الماضي، ومع التغيرات العالمية السريعة سياسياً واقتصادياً، تغير أيضاً السياق الذي تتفاعل فيه أفريقيا وروسيا، وكان أحد أهداف القمة هو معرفة ما تم إنجازه في السنوات الأخيرة، وتطوير العلاقات مع القارة السمراء.
حضور فاعل
وبدأ الاتحاد السوفياتي علاقاته مع أفريقيا منذ أربعينيات القرن الماضي، وتحولت العلاقة إلى حضور فاعل في عهد الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، تزامناً مع حصول معظم دول القارة على استقلالها، ووضع الكرملين حينذاك سياسة كبرى طويلة الأمد للتعامل مع أفريقيا، وبفضلها كان الاتحاد السوفياتي حاضراً لعقود طويلة، ويعمل من أجل تقويض النفوذ الغربي ونفوذ “الناتو”، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات الرأسمالية مع الدول الإمبريالية الغربية.
ومرت العلاقات بتذبذبات كثيرة، حتى عادت أفريقيا إلى وضعها تحت منظار موسكو خلال فترة ولاية بوتين الثانية، بعد فرض العقوبات الغربية على روسيا، عام 2014، على أثر ضمها شبه جزيرة القرم، وخلال السنوات الماضية، قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارات عديدة إلى القارة، لتحتل روسيا موقعاً ضمن منافسين دوليين آخرين في مقدمتهم الولايات المتحدة والصين، بحثاً عن المصالح الاقتصادية والنفوذ، وفي الوقت الحالي، تستفيد موسكو وبكين من عدم رضا عدد من الدول الأفريقية عن السياسات الغربية ضدهما، وتركز موسكو على تمتين الروابط الاقتصادية والعسكرية، خصوصاً الاستثمار في مجال الطاقة، وتوجد شركات الطاقة الروسية العملاقة “غازبروم” و”لوك أويل” و”روساتوم”، ومجموعة شركات الدفاع الروسية “روستيك” في دول أفريقية عدة مثل أوغندا ونيجيريا وأنغولا، كما وعدت بعض الدول، ومنها مصر، بأن تساعدها في إنشاء محطة نووية.
وتعمل موسكو على توسيع نطاق وجودها العسكري واتفاقاتها الأمنية وبرامجها التدريبية لتشمل القارة الأفريقية، وتدعم شركة “فاغنر” القادة المحليين في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي والسودان وليبيا وأنغولا وزيمبابوي وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا وغينيا بيساو ومدغشقر، وغيرها، وطلب بعض هذه الدول من روسيا المساعدة في محاربة الجماعات الإرهابية، لينتعش بذلك الطلب على خدمات “فاغنر” الأمنية وعلى توريد الأسلحة إلى أفريقيا في ظل عدم الاستقرار الأمني والسياسي وتهديد المتمردين والجماعات الإرهابية.
وعود بوتين
وأدت القمة السابقة، عام 2019، إلى توقيع 92 اتفاقية وعقداً ومذكرة تفاهم تزيد قيمتها على 11 مليار دولار، خصوصاً في مجالات توليد الطاقة والتعليم، ولكن جاءت القمة الأخيرة، وسكان أفريقيا البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة بدولها الـ54 يواجهون أزمات متصاعدة من سياسات الحكم والانقلابات والكوارث الطبيعية وأزمة كلف المعيشة، كما تتعرض القارة لنتائج الحرب الروسية – الأوكرانية التي أحدثت زيادات حادة في أسعار الأسمدة والحبوب، مما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة انعدام الأمن الغذائي في القارة، إضافة إلى بطء الاستراتيجية الروسية في الاستثمار، فهناك ما يتعلق بالدول الأفريقية، إذ إن مصلحة الطبقة الحاكمة تميل إلى حجب المصالح الوطنية واستفادة البلدان من هذه الاتفاقيات، وهذا ما يقلل من قدرتها التفاوضية في استثمارات أخرى سوى مع الدول الغربية أو الصين.
وفي القمة السابقة، عرضت روسيا على الدول الأفريقية محطات طاقة نووية وطائرات مقاتلة وأنظمة دفاع صاروخي، وتم إبرام صفقات بقيمة 12.5 مليار دولار، لكنها كانت مذكرات تفاهم لم تؤد إلى استثمار حقيقي حتى انعقاد القمة الأخيرة، ومع وعود بوتين بزيادة التجارة مع أفريقيا إلى 40 مليار دولار سنوياً، يظهر أن النفوذ الاقتصادي الروسي في الدول الأفريقية لا يزال ضئيلاً مقارنة بغيره مثل الصين، كما تعوقه العقوبات الأميركية المتجددة، وهذا يدل إلى أنه ليس لروسيا استراتيجية واضحة تجاه أفريقيا، وأن الحديث عن الجنوب العالمي، وأن “مستقبل البلاد يكمن في آسيا وأفريقيا” هو حديث ظرفي أكثر منه واقعياً.
أما فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، فإن الدول الأفريقية منقسمة ما بين مؤيد لروسيا أو محايد، لا سيما أنه معروف عنها تاريخها الطويل في عدم الانحياز، وهناك التعقيد الخاص بالدور المثير للجدل لمجموعة “فاغنر” في عديد من البلدان الأفريقية، والخلاف الجذري بين الحكومات التي تستعين بها وبين شعوبها.
جدوى العلاقة
وعلى رغم أن سجل العلاقات الروسية مع الدول الأفريقية يأخذ منحى متصاعداً، فإن جدواها تخضع لعوامل عدة، العامل الأول أن نهج الشراكة الروسية مثل الصينية جاذب للدول الأفريقية وغير مقيد مثل الغربية، كما أن القارة توفر لروسيا مسرحاً لاستعراض وضعها الجيواستراتيجي بمحاولات الحصول على قواعد عسكرية في البحر الأحمر وغيره، ولكن حال الاقتصاد الروسي تحد من قدرة بوتين على تقديم أية مساعدة اقتصادية ذات مغزى لأفريقيا، وعليه، يمكن ألا تجني البلدان الأفريقية الفوائد المأمولة، وستتبدد وعود بوتين بمواصلة الجهود لتخفيف عبء ديون القارة، كما سيخضع الوفاء بوعده لست دول أفريقية بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا بمدها بشحنات مجانية من الحبوب إلى مخرجات تفاوضه مع الغرب حول صفقة الحبوب.
والثاني، وعلى رغم أن الدول الأفريقية تشكل أكبر كتلة تصويتية في الأمم المتحدة يمكن أن تستفيد منها روسيا بشكل كبير، إذ يمكن أن تدعم روسيا في الأمم المتحدة أو المحافل الدولية الأخرى، كما يمكن لموسكو أن تساعد في دفع جدول أعمال الدول الأفريقية في مجلس الأمن بامتلاكها لحق النقض “الفيتو”، لكن هناك مداً وجذباً فيما يخص القرارات الصادرة من مجلس الأمن ضد الدول الأفريقية، والصادرة من الأمم المتحدة ضد روسيا، فتخضع المواقف إلى مبدأ المنفعة المتبادلة أكثر من كونها تعاوناً ومساندة.
أما العامل الثالث فإن القمة نقلت تصوراً عن عودة الأمور إلى طبيعتها بعد التدخل الروسي في أوكرانيا، وأمر المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على بوتين بتهمة ضلوعه في جرائم الحرب، ومحاولة تمرد زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين، وعلى رغم محاولة روسيا إظهار أنها منسجمة دولياً، وأن أفريقيا تمثل رقماً مهماً في سياستها الخارجية، فقد قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بثماني زيارات إلى أفريقيا منذ أن شنت روسيا هجومها، في 24 فبراير (شباط) 2022، على أوكرانيا، ومع ذلك، فإن حضور 17 زعيماً أفريقياً فقط، لم يخدم التأييد الضمني للقادة الأفارقة لبوتين نحو ما يعده الغرب انتهاكات روسية، وهو ما كانت تبحث عنه موسكو، بإقامة القمة بشكل عاجل، وذلك إضافة إلى تدهور الأمن في الدول الأفريقية التي تنشط فيها قوات “فاغنر”، وتصاعد الاحتجاجات ضد تمكين هذه القوات اقتصادياً في مناطق تعدين الذهب والتنقيب عن النفط ومناجم ألماس، وغيرها.
حشد النفوذ
وفي إطار محاولته بناء مشاعر معادية للغرب ركز بوتين على اجترار تاريخ الاستعمار الغربي على أفريقيا، متهماً الغرب بأنه يسعى من خلال نظرته العنصرية إلى تقسيم العالم إلى مناطق من الدرجة الأولى والثانية، وعلى رغم العلاقات الودية لروسيا مع بعض الدول الأفريقية، فإن من غير الواضح أن هناك ما يدعم بشكل مطلق النظرة القائلة إن أفريقيا كلها تميل نحو روسيا، وعلى رغم اتهامات الدول الأفريقية للغرب بالنفاق لفرضه شروط مساعدة مجحفة، وربطها بحقوق الإنسان والديمقراطية في بعض الدول، في الوقت الذي يسعى فيه الغرب للحفاظ على مصالحه في القارة بالتغاضي عن هذه الشروط في مناطق أخرى، فإن هناك دولاً تميل إلى تفضيل الغرب، وهذا من شأنه خلق تعقيدات في العلاقات الخارجية للدول الأفريقية وتضارب مصالحها.
وكانت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية التي لها علاقات تاريخية مع القارة الأفريقية، ترى أن الصين هي المنافسة الرئيسة لها، وراحت تروج بأن استثماراتها هي نوع من الاستعمار الحديث، لكنها الآن تنظر بقلق عميق إلى عودة روسيا إلى أفريقيا وتوسع المنافسة بين القوى الدولية، وأدت الحرب الأوكرانية إلى افتراض توقعات حول الطموح الروسي الذي قد لا يقتصر على التعاون فقط، وإنما على فرض نفوذ سياسي واقتصادي مُوازٍ للنفوذ الغربي الذي يحشد المساعدة الدولية لمواجهة تحديات التنمية والأمن.
المصدر: إندبندنت عربية