“الزائفة الزنجارية” بكتيريا عصوية طولها يقاس بالميكرون وتشبه رائحتها تورتيا الذرة حين تُستزرع في مختبر.
تغزو هذه البكتيريا الانتهازية الأنسجة المتضررة من أي نوع، وقد تكون فتّاكة، إذ تصل وفياتها نصف المصابين إن كانوا من الفئات الأشدّ ضعفاً، ولعلّ أبرز ما يميزها هو صعوبة القضاء عليها، فالأنواع الأقوى من الزائفة الزنجارية مقاومةٌ للمضادات الحيوية، تعربد مهما استخدم الأطباء من عقاقير لقهرها.
رُصدت سلالة منها خبيثة إلى حد غير مألوف لأول مرة في الولايات المتحدة في مايو 2022 لدى مريض وصل إلى أحد مستشفيات لوس أنجلوس، ثمّ سُجلت ثلاث إصابات أخرى خلال صيف ذاك العام. انكب الأطباء على محاربة هذه البكتيريا، فيما باشر مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تتبع منشأها من خلال تحري كافة المواقع والعوامل المشتركة بين المصابين.
يمكن للزائفة الزنجارية الانتشار حتى وسط من لم يتعرّضوا قطّ للمصدر الأصلي، فقد ظهرت البكتيريا في كونيتيكت، ثمّ في يوتاه، وعُثر عليها في رئات المصابين وفي دمّائهم، واستغرق المركز ثمانية أشهر حتى اكتشف سبب انتشار البكتيريا: قطرات عينية تباع دون وصفات طبية.
كانت هذه القطرات المتوفرة تحت علامتين تجارتين واسعة الانتشار، وتباع بأسعار تقل عن نصف أسعار ما يوازيها من صنع العلامات التجارية الأشهر، ولم تكن هذه القطرات مزيفة أو مهربة إلى البلاد، بل إنها صُنعت في الهند وتبيعها شركتا توزيع في الولايات المتحدة في علب مختومة تحمل رقم جرد خاص بالأدوية صادر عن إدارة الغذاء والدواء الأميركية.
سُحبت القطرات العينية التي سوقتها “إزري كير” (EzriCare) و”ديسلام فارما” (Delsam Pharma) بعدما تسببت بكتيريا الزائفة الزنجارية بوفاة أربعة أشخاص وفقدان 18 للبصر وإصابة عشرات بها.
تبدو التفاصيل مروّعة، فقد انتشرت البكتيريا بسرعة هائلة لدى أربعة من المصابين، لدرجة أن الأطباء اضطروا لاجتثاث مقل أعينهم لإيقاف الانتشار، وتحولت قرنيات البعض الآخر إلى خراجات من النسيج الندبي سببت لهم غشاوة في الرؤية، فيما أصيب آخرون بالصداع النصفي وإفرازات من العينين وحساسية من الضوء ما اضطرّهم للبقاء في الظلام لأيام، بل حتى لأشهر في بعض الحالات.
فجوة الرقابة
تسببت بهذا التفشي البكتيري فجوة ضخمة في الآلية التي تعتمدها إدارة الغذاء والدواء في مراقبة العقاقير التي تُعطى دون وصفة طبية. فهذه الأدوية لطالما كانت في أسفل أولويات الإدارة، على فرضية أنها إن لم تنفع، فهي على الأرجح لن تقتل أحداً.
بالتالي، عادةً ما تُنتج هذه الأدوية وتباع استناداً إلى نظام قائم على الثقة، فالشركة المنتجة ليست ملزمة بأن تثبت لإدارة الغذاء والدواء سلامة دوائها وفعاليته، أو أنه يُصنع في ظروف ملائمة، كما لا إلزام باختبارات أو تفتيش، فيكفي أن تشهد الشركة أنها تستخدم مواداً معتمدة وأنها تلتزم بمعايير التصنيع الملائمة. بمعنى أخر، هي غير مطالبة سوى بتقديم أوراق.
تبيّن أن القطرات العينية الملوّثة كان يبيعها رجلُ أعمال بلا خبرة ولا تربط بينهما أي علاقة، لكنّ تصادف أنهما وقعا على شركة صغيرة في شيناي في الهند تصنع ذاك الدواء ويفترض أن يكون معقّماً.
الرجلان هما: إسرائيل غرين، موزع أدوية بالجملة في نيوجرسي، وكوبوسامي أروموغام، صيدلانيّ في حيّ برونكس في نيويورك.
لم يكن أي منهما قد باع أدويةً لحسابه قبل القطرات العينية تلك. كما تشير السجلات إلى أن الشركة المصنّعة “غلوبال فارما هيلثكير” (Global Pharma Healthcare) لم يسبق لها تصدير أي أدوية إلى الولايات المتحدة، وفيما يتعلق بضمان تصنيع قطرات العيون في بيئة معقّمة، وهي عملية مجهدة ومكلفة، سُمح لـ”غلوبال فارما” بشحن مئات آلاف قوارير قطرات العيون دون أن تعاين إدارة الغذاء والدواء معملها.
سُوّقت القطرات العينية على أنها خالية من المواد الحافظة، ولكن ذلك يعني أيضاً أنها تفتقر للمواد الكيميائية التي تمنع نموّ البكتيريا. فيما يبيع معظم المنتجين الآخرين مثل هذه القطرات في عبوات لاستخدام واحد، أو في قوارير مصمّمة بشكل خاص للاستخدام المتعدد تحافظ على التعقيم، وكلا النوعين أعلى تكلفة.
أما قطرات “غلوبال فارما” الخالية من المواد الحافظة فأتت في قوارير عادية أرخص وتحوي عدة جرعات.
الأدوية الجنيسة
لم تكشف الآلية المؤتمتة التي تعتمدها إدارة الغذاء والدواء لإدراج الأدوية التي لا تتطلب وصفة طبية ذلك الخلل الخطير، كما لم تتنبّه إلى أي من مؤشرات الخطر الأخرى مثل عدم كفاية المعلومات عن الشركة المصنّعة وعن الموزعين.
قال المتحدث باسم إدارة الغذاء والدواء، جيريمي كان، إن الإدارة تلغي اعتماد الشركات التي لا تلبي معاييرها، وهي تعمل على تطوير طرق لتحسين رقابتها. كما شدّد على أن “حماية الصحة العامة تتصدر سلّم أولويات” الإدارة، ويتضمّن ذلك التوصية بسحب بعض المنتجات طوعياً وتنسيق عمليات السحب وإصدار الإشعارات العامة والتفتيش على الشركات وإجراء محادثات معها، كما أوضح، أن الإدارة تراقب الوضع فيما يخصّ القطرات العينية الملوّثة.
توسّعت صناعة الأدوية الجنيسة حول العالم بهدف إنتاج عقاقير بأسعار أرخص، إلا أن الهيئات الرقابية أخفقت في مواكبة هذا التوسع، فلا تُطبق القوانين في بعض الأماكن، كما أن القوانين قد تكون غير ملائمة في أماكن أخرى، ما من شأنه التسبب بنقص في بعض الأدوية وسحب أخرى من السوق وبمخاطر صحية.
أعلنت إدارة الغذاء والدواء عن سحب أكثر من 900 منتج في 2022، بزيادة ثلاثة أضعاف مقارنة بالرقم المسجّل قبل أربع سنوات. وتخضع الهند المصنّعة لخمس الأدوية الجنيسة في العالم إلى تدقيق مشدد على خلفية مشاكل في جودة بعض المنتجات.
على سبيل المثال، أدت هفوات في تصنيع الأدوية الجنيسة المعالجة للسرطان إلى نقص في الأدوية ما اضطر المرضى هذا العام لانتظار علاجات قد تنقذ أرواحهم، وإلى ذلك، عزت منظمة الصحة العالمية وفاة أكثر من 60 طفل في غامبيا إلى أدوية سامة مصنوعة في الهند.
من جهتها، تدافع حكومة الهند بشراسة عن هذه الصادرات الأساسية. فقد اختصرت التحقيق في مصدر السموم في الأدوية المصدرة إلى غامبيا، كما دافع مسؤولون محليون عن شركة “غلوبال فارما”.
إلا أن موقف الهند كان مترافقاً مع فجوات تعتري الإجراءات الناظمة على امتداد سلسلة الإمداد العالمية للأدوية الشائعة، يعرّض أناساً في شتى أرجاء العالم للخطر.
بقايا ملوّثة
حين دخل مفتشو إدارة الغذاء والدواء أخيراً منشأة التصنيع المعقّمة التابعة لـ”غلوبال فارما” في فبراير، عثروا على بقايا بنية اللون خلّفها عمّال غير مدربين يرتدون أغطية أحذية متسخة عاودوا استخدامها. بحلول ذلك الوقت، كانت “غلوبال فارما” قد سحبت طوعياً قطرات العين.
اختبرت إدارة الغذاء والدواء قوارير غير مفتوحة من قطرات “إيزري كير” ووجدت أنها ملوّثة ببكتيريا، إلا أنها لم تحدد بشكل حاسم نوع البكتيريا أو مصدرها، في حين رفضت “غلوبال فارما” تحمّل المسؤولية.
حصل كوبوسامي أروموغام على رخصته في الصيدلة في 1977 بعدما هاجر من الهند، وهو يدير حالياً صيدلية “فرماسيا سنترال” في حيّ البرونكس، وهي متجر ضيق مليء بالأدوية الجنيسة وبعض المستلزمات المنزلية الأخرى، مثل عديد من المتاجر الصغيرة في نيويورك.
أمّا إزرايل غرين فنشأ في بروكلين وحاز على ماجستير في الدراسات التلمودية من مدرسة يهودية (يشيفا) ثمّ دخل قطاع الأعمال، حيث كان يبيع في البداية أشرطة اختبار الغلوكوز في الدم ثمّ لحوم اللانشون، وأسس في 2016 شركته “إزري ركس” (EzriRx) لتوزيع الأدوية عبر الإنترنت، ثمّ شركة “إزري كير” بعدها بأربع سنوات من ذلك بغرض توزيع الأدوية تحت علامته التجارية.
لدى سؤال كلّ منهما كيف وصلا إلى بيع قطرات عينية مصنوعة من المكوّنات نفسها لدى الشركة ذاتها بفاصل بضعة أشهر في 2020، أثارت أجوبتهما أسئلةً بقدر ما حملت من تفسيرات.
نظام قديم
بدأ أروموغام التسويق للقطرات العينية في يوليو من ذلك العام مع بداية تفشي وباء كوفيد-19. في ذلك الوقت، كان هناك شحّ في بعض الأدوية فيما كان البعض قد احتكر أدويةً أخرى، لكنه يقول إنه لم يخطر له أي من ذلك.
قدّم أروموغام روايات مختلفة حول دخوله إلى هذه التجارة، تبدأ أحدها بتعرضه لاحتيال من زبون كان قد طلب قطرات عينية عبره، وتنتهي جميعها باتصاله مع “غلوبال فارما” عبر استشاري في الهند.
لقد تمكّن بمساعدة استشاري آخر من تسجيل قطرة العيون التي تحمل اسم “الدموع الاصطناعية من ديسلام فارما” (Delsam Pharma’s Artificial Tears) ضمن نظام الإدراج الإلكتروني التابع لإدارة الغذاء والدواء الأميركية، وجاء وصف القطرة في الملصق القارورة بأنها مشابهة لإحدى العلامات التجارية المعروفة التي تحمل اسم “ريفرش بلس” (Refresh Plus) الخالية من المواد الحافظة وتباع في قوارير تستخدم لمرة واحدة.
بعد أربعة أشهر، استعانت شركة غرين أيضاً باستشاري لتسجل علامتها التجارية” الدموع الاصطناعية من إزري كير” المصنوعة من المكوّنات نفسها، والتي تمّ وصفها بالطريقة عينها.
قال أحد محامي غرين إن موكّله اعتمد على “غلوبال فارما” ووسيط توفي العام الماضي، وأشهرت شركته إفلاسها هذا العام، ليتولى كافة الإجراءات، وهو يدرك الآن أنه أخطأ لأنه وثق بهما.
قال المحامي ريك لوير في رسالة إلكترونية: “تشعر (إزري كير) بالأسى مع من تأثروا كما جاء في التقارير الأخيرة عن إصابات بعدوى خبيثة فتاكة في العيون”.
كان هذان الموزعان الأميركيان غير المتوقعين للقطرات العينية من “غلوبال فارما” قد تمكّنا من بيع منتج حسّاس دون أن يطرح عليهما أحد أيّ سؤال حول سلامته.
يعود نظام الأدوية المباعة دون وصفة طبية إلى عام 1972، حين أدركت إدارة الغذاء والدواء حاجتها إلى وسيلة أكثر فعالية لتواكب كافة إنتاج الأدوية التي تباع دون وصفات طبية، بما يشمل المسكنات والمراهم وأدوية السعال.
حدّدت الإدارة معايير المنتجات المباعة دون وصفة طبية عبر الاستعانة بخبراء أوصوا بالمكوّنات الآمنة عن كلّ فئة، وقد بدت البحوث التي أجروها أشبه بكتيب لوصفات الطهي. إلا أن التداولات بشأنها استغرقت سنوات، وأحياناً عقود، ولم تنته البحوث حول القطرات العينية إلا في 1988، وهي تبدو وكأنها تنتمي إلى زمن غابر من تاريخ التجارة في الولايات المتحدة، إذ ترد فيها أسماء شركات تصنيع محلية أغلقت منذ زمن أو انتقلت إلى الخارج.
شروط بسيطة
لم يفرض النظام المؤتمت الذي تعتمده إدارة الغذاء والدواء إلا بعض الشروط البسيطة على “إزري كير” و”ديسلام فارما” من أجل إدراج قطرات العيون الخاصة بهما في النظام، فيكفي أن تذكر اسم الدواء والعيار والمحتويات وصورة عن ملصق القارورة يتضمن المعلومات حول طريقة الاستخدام والتحذيرات التي ترافق عادةً كلّ الأدوية.
حصل بعدها كلّ منتج على رمز دواء وطني مختلف، ورد في مكتبة طبية على الإنترنت تابعة لمعاهد الصحة الوطنية، وفيه يرد سجل “غلوبال فارما” على أنها الشركة الصانّعة. وهذا كلّ ما في الأمر، وكذلك هناك إخلاء مسؤولية مرفق بالإدراج لمن يهمّه قراءته يفيد بوضوح أن وكالة الدواء والغذاء لم توافق على الدواء ولم تراجعه، إلا أن الشركات ليست ملزمة بأن تذكر ذلك في إعلاناتها وغالباً ما تجد طرقاً لتدّعي عكس ذلك.
كان دخول السوق الأميركية شأناً كبيراً بالنسبة لشركة “غلوبال فارما”، التي تأسست عام 1986 ويديرها فينكاتيش راجيندران الذي درس الطبّ، ويوصف على أنه متحدث لبق ومحبوب بين زملائه في القطاع.
لدى راجيندران شبكة علاقات واسعة، وكان قد شغل حتى العام الماضي عضوية لجنة رفيعة المستوى في “فارميكسيل” (Pharmexcil) وهي جمعية تجارية متنفذة أسسها وزير التجارة الهندي لدعم صادرات الأدوية الهندية. مع ذلك، فإن “غلوبال فارما” ليست ذات وزن كبير في قطاع الأدوية الهندي المقدرة قيمته بـ50 مليار دولار.
كانت الشركة تبيع على مدى عقود أدوية لحوالي عشرين دولة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، ومن بين منتجاتها حقن مضادات حيوية وقطرات عينية، يتطلب إنتاج كلّ منها عملية تصنيع معقّمة.
قال أشخاص مقرّبون من راجيندران، إن السوق الأميركية جذّابة لأنها تفتح أبواب الفرص لبيع كميات أكبر مع إمكانية ربح أوسع.
وكانت إيرادات الشركة، حسب آخر تقرير سنوي صادر عنها، قد ارتفعت بحوالي 50% خلال السنوات الخمس الماضية، مع ذلك لا تتجاوز هذه الإيرادات 674 مليون روبيه (8.2 مليون دولار).
معايير العالم الثالث
يقع معمل الشركة في مبنى مكسو بزجاج عاكس ضمن مجمّع الشركات الصيدلانية الوحيد في ولاية تاميل نادو ويقع في أحد ضواحي شيناي. قال ثلاثة أشخاص مطّلعين على “غلوبال فارما” طلبوا عدم كشف أسمائهم لحماية علاقتهم مع الشركة ومع الهيئات الرقابية في الهند، إن المنشأة تعتبر مناسبة لما يصفونه بالأسواق “شبه المنظمة” أو “المنظمة بدرجة أقل”، حيث متطلبات الاختبارات والمعاينة أقلّ من تلك المفروضة في الولايات المتحدة وأوروبا.
وصف أحدهم، وقد زار عمليات “غلوبال فارما” قبل حوالي خمس سنوات، الوضع فيها بأنه مقبول، “لكن فقط بما يكفي لمعايير دول العالم الثالث”. رفض راجيندران التعليق على هذه التوصيفات أو الردّ على أسئلة عن الوضع الحالي للمعمل.
شحنت “غلوبال فارما” 100 ألف قارورة من الدموع الاصطناعية إلى شركة أروموغام في يونيو 2021، حسب شركة “إمبورت جينيوس” (ImportGenius) التي تتبع بيانات الشحن العالمية، فيما شحنت 500 ألف قارورة أخرى إلى الجهة المستوردة بالنيابة عن “إزري كير” في سبتمبر 2021 ومايو 2022.
كان غرين فخوراً بطريقة التغليف التي تعتمدها شركته، وكتب في منشور عبر “لينكد إن” العام الماضي: “تقول فلسفتنا إن الأدوية الجنيسة الرخيصة التي لا تتطلب وصفة طبية يجب أن تبدو جميلة أيضاً”.
حتى لو كانت معظم الأدوية المباعة دون وصفة طبية في الولايات المتحدة غير خاضعة للمراجعة، ثمّة طرق لتتبع المشاكل إذا ما طرأت لاحقاً. إلا أن دولاً كثيرة، ومنها الهند، تفتقر إلى آليات التبليغ ولشبكات الرقابة التي تساعد على إثبات أن دواء معيّن تسبب بأمراض أو وفيات، بحسب غانادهيش كامات الذي تقاعد في 2021 من منصبه كمسؤول عن الجودة الشاملة في مختبرات “دكتور ريدي” (Dr. Reddy’s Laboratories)، أحد أكبر شركات صناعة الأدوية الجنيسة في الهند.
قال: “حين يموت أحد ما، يقولون هذه مشيئة الله، أو أن خطأً قد وقع، لكنه كان متقدماً في السنّ على أي حال. لكن حين يحصل ذلك في الولايات المتحدة، يتتبعون تاريخ الأحداث السلبية، ويحاولون ربط ما جرى بدواء ما”.
مقاومة الأدوية
وصل المريض الأول إلى مستشفى في مقاطعة لوس أنجلوس في مايو 2022 وهو يعاني من التهاب في عينه التي كان يسيل منها صديد أصفر. خلصت المستشفى إلى أن عينه مصابة بسلالة من بكتيريا الزائفة المقاومة بشدّة للمضادات الحيوية، وأبلغت السلطات الصحية المحلية. بحلول أغسطس، كان ثلاثة أشخاص زاروا طبيب العيون نفسه قد أصيبوا بالعدوى أيضاً، وعلى إثر ذلك، رفع مسؤولو مقاطعة لوس أنجلوس الأمر لرئيسة فريق مقاومة المضادات البكتيرية في مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها مارويا ولترز.
بحسب تقديرات المركز، تُسبب الجراثيم المقاومة للأدوية 2.8 مليون عدوى وما يصل إلى 35 ألف وفاة سنوياً في الولايات المتحدة. ردّت ولترز قائلةً: “يبدو هذا التحقيق مثيراً للاهتمام واستثنائياً”، ثمّ طلبت من المسؤولين المحليين مراجعة التاريخ الطبي للمرضى وتبيان ما إذا كانوا قد سافروا خارج البلاد أخيراً، وعاين المسؤولون في مقاطعة لوس أنجلوس أدوات قياس الضغط التي تلمس عيون المرضى وغيرها من المعدّات في عيادة طبيب العيون ليتبينوا ما إذا كانت ملوّثة.
في ذلك الصيف، اكتشف مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن أكثر من 30 شخصاً في دار رعاية للمسنين في يوتاه وكونيتيكت أصيبوا أيضاً ببكتيريا الزائفة، ولم يعانِ معظمهم من أي أعراض، بل اكتُشفت إصابتهم خلال فحوصات اعتيادية. كما ظهرت البكتيريا في الرئة أو لعاب مرضى آخرين وليس في أعينهم.
في البداية، اشتبهت ولترز وطاقم مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في أن تكون جميع الحالات مرتبطة بأحد العاملين في مجال الرعاية الصحية أو مريض زار العيادة ودار الرعاية، إلا أن مراجعة السجلات الطبية أدت إلى استبعاد هذا الاحتمال. وفي سبتمبر، توفي رجل سبعيني بعد إصابته بعدوى في مجرى الدم بعد نقله إلى المستشفى في ولاية واشنطن، وقد أشار تسجيل الإصابات في أربع ولايات إلى احتمال أن يكون انتشار بكتيريا الزائفة يعود إلى منتج واحد.
فقدان البصر
بدأ مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها يعمل بدأب لجمع أسماء العلامات التجارية وأرقام دفعات التصنيع ومصنّعي كلّ منتج استخدمه المرضى، وخطر لولترز حتى أن تكون المشكلة ناجمة عن أحد المكوّنات الشائعة، إذ كانت النرويج قد ربطت بين سبع وفيات على الأقل في مارس 2022 نتيجة سلالة أخرى من الزائفة وبين مناديل مبللة من صناعة شركة بريطانية.
سألت ولترز وفريقها عن المناديل المبللة والكريمات والمراهم ومنتجات الاستحمام وملينات الهضم والقطرات العينية، لكن لم يبرز أي منها مشتبهاً به، لأن الفريق وثّق فيما يخصّ قطرات الدموع الاصطناعية، استخدام المرضى لأكثر من 10 علامات تجارية.
لكنهم سمعوا في بداية نوفمبر عن مجموعة غير مألوفة من الإصابات المقاومة للأدوية التي تعاند الأطباء في معهد في “سابكوم بالمر” للعين في ميامي منذ أشهر.
قال غويليرمو أميسكوا، أحد الاختصاصيين في المعهد، إنهم كانوا يستقبلون ما يصل إلى ألف عدوى شديدة في قرنية العين سنوياً. وفي العادة، يتمكنون من التوصّل إلى علاجات من خلال مزج مجموعة من الأدوية، ولكنّهم أخفقوا في العثور على علاج هذه المرّة.
حضرت أخصائية التجميل المتقاعدة كلارا أوليفا إلى المستشفى في أغسطس وهي تعاني من سيلان للدموع وتورّم في عينها اليمنى، وهي عينها الجيدة الوحيدة بما أنها مصابة بضعف نظر في عينها اليسرى منذ الطفولة، وحاول الأطباء اتباع علاج يقضي على الجراثيم باستخدام الضوء والمواد الكيميائية، ثمّ جربوا الأدوية المضادّة للفطريات، كما أدخلوا إبرة من أجل سحب السائل من عينها دون جدوى.
كلّما كانت أوليفا تعود إلى المستشفى، كان الخراج على قرنيتها يبدو أكبر، وبحلول سبتمبر، خشي الأطباء أن ينتشر الالتهاب إلى بقية جسدها، فأجروا لها عملية لاستبدال عينها اليمنى بعين بلاستيكية، وانتقلت أوليفا، التي باتت كفيفةً بالتعريف القانوني، لتسكن مع أحد أبنائها ليساعد في رعايتها.
اكتشاف التلوّث
كانت رينيه مارتري، التي تعمل مساعدة إدارية في لكسينغتون في جنوب كارولاينا، في طريقها إلى بنسلفانيا في ذلك الصيف في رحلة تخييم برفقة خطيبها، وقد نسي إحضار مصباح يدوي فيما نسيت مارتري قطراتها العينية، فاشترت بعض قطرات الدموع الاصطناعية من نوع “إزري كير” على الطريق، ولم تكن قد سمعت بهذه العلامة التجارية من قبل ولم تلق بالاً للاسم على الملصق، بل اهتمت بالسعر فقط.
قالت مارتري: “لم أكن أفكر في السابق باسم العلامة التجارية، ولكنني الآن أفعل”. بعد بضعة أيام من عودتهما إلى المنزل، احمرّت عين مارتري اليمنى وتورّمت، فحثّها خطيبها على زيارة الطبيب، وساعدتها المضادات الحيوية، ولم يشكّ أحد في أن تكون قطرة “إزري كير” السبب، فاستمرت باستخدامها، لكنها بدأت تشعر بحرقة في عينها في ديسمبر، وهذه المرّة كانت معالجة الألم والتورّم صعبة.
قالت، إن الأطباء شخصوا أنها أصيبت بسلالة بكتيريا الزائفة مثل الآخرين. في نهاية المطاف، تسببت الندوب بغشاوة على عينها اليمنى، ما تسبب لها بالصداع وباتت تشعر وكأنها تنظر عبر نافذة متسخة. اضطرّت بعدها لترك عملها، وهي تستصعب مغادرة المنزل.
في نهاية العام، أحرز المحققون في مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تقدماً كبيراً وبدؤوا بفحص قوارير القطرات العينية المفتوحة المتبقية في دور رعاية المسنين،و في يناير، حددت النتائج الأولية البكتيريا المقاومة للأدوية في سبع قوارير مفتوحة من قطرات عيون “إزري كير” في ولايتين لم يفصح عنهما المركز بعد، وقد أصدر على الإثر نشرة للأطباء في 20 يونيو طلب منهم فيها التوقف عن استخدام قطرات الدموع الاصطناعية “إزري كير” على الفور.
تلقت طبيبة العيون ساندرا براون في كارولاينا الشمالية الإشعار عبر البريد الإلكتروني في رسالة من الأكاديمية الأميركية لطبّ العيون.
وبراون هي عضو أيضاً في جمعية “العين الجافة” غير الربحية في ضواحي سياتل التي تنشر توصيات حول سلامة استخدام قطرات العيون.
رأت براون أن القوارير متعددة الاستخدام من “إزري كير” بحدّ ذاتها مؤشر خطر، فهي رديئة، حتى أنها تفتقر إلى ثقب ما يجعلها أشبه بمواسير اللاصق من حيث إن الغطاء له طرف مدبب كي يحدث مستخدم الدواء ثقباً يسمح بخروج القطرات، وتساءلت براون ما إذا كانت تلك الأغطية هي مصدر التلوّث.
فوجئت أيضاً بأن مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أرسل هذا الإشعار المهم بطريقة لا تلفت الانتباه، فأصدرت هي وريبيكا بتريس، رئيسة الجمعية، اشعاراً آخر، ونشرتا مقطع فيديو في 23 يناير تحدثتا فيه عن عيوب الغلاف الذي اعتبرتا أنه ربما ينتهك القانون الاتحادي الذي يفرض أن تستخدم القطرات متعددة الاستخدام مواداً حافظة ملائمة أو أسلوب تغليف يقي من مخاطر التلوّث.
سحب المنتجات
وجّه أحد محامي “إزري كير” خطاباً للجمعية يطالبها بالكفّ عن النشر، فأزالت الفيديو. بحلول ذلك الوقت، تلقّى أروموغام رسالة إلكترونية من شخص لا يتذكر اسمه أبلغه فيها عن مخاوف “إحدى جمعيات طبّ العيون”، وعمد بعدها لسحب قطراته من السوق رغم اعتقاده بأنها آمنة، إذ لم تكن قد رُبطت بعد بأي عدوى. قال: “لم أرغب بمواجهة أي مشاكل قانونية، ووجدت أنه من الأفضل ألا أبيع شيئاً”، وبعد أسبوع، تلقى اتصالاً من مسؤول في إدارة الغذاء والدواء أبلغه أن “غلوبال فارما” وافقت على سحب طوعي لقطرات الدموع الاصطناعية “ديسلام فارما” و”إزري كير”.
من باب الصدفة، كانت إدارة الغذاء الدواء قد حظرت قبل أسابيع فقط استيراد كافة منتجات “غلوبال فارما”. فالشركة تصنع أيضاً أدوية للسعال، وكان حينها دواء للسعال محطّ شبهات على خلفية وفاة الأطفال في غامبيا، و فيما لم تكن الشركة على علاقة بذلك الحادث، إلا أن إدارة الغذاء والدواء ارتأت أن تجري تحقيقاً يشمل المصنّعين في ما وصفتها بـ”المناطق الجغرافية المثيرة للقلق”، إلا أن الشركة لم تستجب بالشكل الملائم على طلب الحصول على سجلاتها.
في 2 فبراير، صدر إعلان عام بسحب كلّ قطرات العيون التي تصنعها “غلوبال فارما” دون الالتفات إلى تاريخ صلاحيتها، ولم يكشف أحد ما إن كان المسؤولون في إدارة الغذاء والدواء يعرفون كيف سبقتهم جمعية صغيرة غير ربحية لتنبيه المواطنين من منتج يحتمل أن يكون خطراً.
شعرت بتريس بالتعاطف حين قرأت الأخبار المريعة عن إصابات بالعيون. فهي كانت قد افتتحت متجرها الإلكتروني “دراي أي” ” Dry Eye Shop” لبيع المراهم وقطرات العيون وغيرها من المنتجات في 2005، بعدما تسببت لها جراحة عينية بتقنية الليزك بضعف في الرؤية وجفاف في العين وألم مزمن، وعادت وأسست جمعية “العين الجافة” في 2018 وتهدف إلى دعم حقوق المرضى، ودعت براون التي كانت تقدّم لها الاستشارات حول الأسئلة الطبية للانضمام إلى مجلس إدارة الجمعية.
بدأت بتريس العمل أخيراً على جمع قطرات العيون التي تبدو لها غير آمنة، ورغم أنها حددت قطرات تنتمي إلى عشرات العلامات التجارية وأبلغت إدارة الغذاء والدواء بها، إلا أن كثيراً منها ما يزال متوفراً على موقعيّ “أمازون” أو “وول مارت” أو كليهما.
تطالب بتريس وبراون إدارة الغذاء والدواء بعدم الاكتفاء بملاحقة العلامات التجارية التي تظهر فيها مشاكل، بل أيضاً بإصلاح العيوب في النظام الذي أتاح طرح هذه المنتجات في السوق من الأساس.
كيف بلغت بكتيريا فتاكة معمل “سيميلاك” وسببت أزمة حليب أطفال؟
ثقافة الجودة
حتى قبل أن تتراكم الأعمال على إدارة الغذاء والدواء في فترة الوباء، كانت تواجه صعوبة بالتحقق من معامل الإنتاج، بالأخص تلك الواقعة خارج البلاد، حتى أن بعض تلك المعامل ليست مسجلة أصلاً لدى الإدارة.
منذ 2015، لم تعاين إدارة الغذاء والدواء إلا 52% من المعامل المسجلة كمنتجة للأدوية المباعة دون وصفة طبية و53% من المعامل التي تصنع أدوية تباع بوصفة طبية، بحسب “فارم 3 ر” (Pharm 3r) المتخصصة بتحليل صناعة الرعاية الصحية، أمّا معدّل المدة الفاصلة بين معاينات منشآت صنع الأدوية المباعة دون وصفة طبية فتبلغ سنتين ونصف.
زار مفتشان تابعان لإدارة الغذاء والدواء منشأة “غلوبال فارما” قرب شيناي في 20 فبراير وعاينا المنشأة لمدّة أسبوعين. وقد كشف تقريرهما الذي جاء في 14 صفحة عن مشاكل عديدة، وقال تيم ساندل، الخبير البريطاني في مجال الصناعة التعقيمية، إنه أحد أطول التقارير التي رآها في حياته، معتبراً ما فيه دلالةً على “ضعف ثقافة الجودة”.
تتطلّب الصناعة التعقيمية غرفاً خاصة يدخلها الهواء عبر مرشح من مدخل أوحد لمنع تسرّب الجسيمات الدقيقة واستقرارها في أي مكان. إلا أن القطرات العينية من “غلوبال فارما” التي شُحنت إلى الولايات المتحدة، بدا وكأنها أتت من غرفة معدة لتصوير برنامج تلفزيون واقع عن إصلاح منزل، فقد كانت المسامير تبرز من جدرانها التي كانت فيها مادة لمنع التسرب قد تشققت. وحين مسح المفتشان وعاء إحدى آلات التعبئة بقطعة قماش، تجمعت عليها رواسب بنية دهنية.
حتى أن بعض الموظفين الذين يتولون أعمالاً مهمة لم يتلقوا أي تدريب، لدرجة أن أحد مديري ضمان الجودة وافق على صلاحية دفعة من قوارير القطرات باستخدام نموذج يحمل موافقة قبل أن يتحقق من المواصفات، كما لم توثق “غلوبال فارما” فعالية أجهزة الترشيح المستخدمة في تعقيم المحاليل.
لا أحد يراقب
دعم التقرير في جزء منه نظرية براون حول طريقة انتشار التلوّث، حيث أشار إلى أن “غلوبال فارما” اشترت أغطية القوارير من مورّد مجهول ولم تخضعها لأي اختبار للتأكد من تعقيمها، كما لم تجرِ أي اختبارات لنظام إغلاق القوارير، مكتفية بالتحقق من عدم حصول تسربات باستخدام النظر.
رفض راجيندران إجراء مقابلة معه من أجل إعداد هذه التقرير، لكنه قال في تخاطب عبر “واتساب”: ” انسوا أمر القوارير”، مؤكداً أن اختبارات إدارة الغذاء والدواء لقوارير القطرات العينية المغلقة لم تكشف أي تلوّث بالزائفة الزنجارية، (إلا أن تلك الاختبارات أظهرت وجود تلوثٍ بكتيري لم يتحدد نوعه بعد)، وأضاف أن شركته تتعاون مع إدارة الغذاء والدواء “وهم استجابوا وتعاملوا جيداً مع الإجراءات التي اتخذناها”، فيما رفض الإدلاء بأي تصريح إضافي.
تعليقاً على ذلك، قال الأستاذ في كلية الطبّ في جامعة ستانفورد كيفن شولمان: “على الأميركيين أن يعلموا أن لا أحد يراقب… ليس خطأ إدارة الغذاء والدواء أنها تفتقر للموارد اللازمة لتفعل ذلك، لكن لا يجب أن يتظاهروا بأنهم قادرون على ذلك.”، كما اعتبر شولمان أن استخدام بروتوكولات تفتيش قديمة ومصممة للسوق المحلية، حيث يسهل إجراء معاينات غير معلن عنها مسبقاً، لمراقبة منشآت حول العالم، أمر غير واقعي.
لا تملك إدارة الغذاء والدواء الموارد الكافية أيضاً لإجراء اختبارات، وقال المسؤول السابق في الإدارة ديفيد غورتلر إن الإدارة “حادت عن مهمتها الأساسية التي تقتضي ضمان أن القارورة تحوي فعلاً ما يجب أن تحويه”، وهو يرى أنه ينبغي للإدارة اختبار كلّ دفعة من الأدوية قبل السماح بدخولها البلاد، وإن لم تكن قادرة على تغطية التكلفة، فلا بدّ أن يتحمّلها المستوردون.
يمكن أيضاً لمتاجر البيع بالتجزئة وشركات البيع بالجملة والصيدليات أن تختبر الأدوية التي تريد شراءها، ولكن إدارة الغذاء والدواء أبدت بعض التحفظات على ذلك، على اعتبار أن النتائج قد لا تكون موثوقة.
حذّر إيريك لوفغرين، الخبير الوبائي المتخصص بالأمراض المعدية في جامعة ولاية واشنطن أنه على الرغم من أن كلّ الأذى الذي تسبب به قطرة العيون الملوثة، فإن تلوّث أدوية أخرى تباع دون وصفة طبية بجراثيم مقاومة للمضادات الحيوية قد يسبب أضراراً أفظع.
كما في حالة قطرات العيون، فإن تعقب المصدر قد يستغرق أشهراً، وقال لوفغرين: “لن يتصدر خبر عن وفاة الآلاف في يوم واحد عناوين الصحف… لكن سيكون الحال أن الجميع في كلّ مكان يصبحون أقلّ أماناً”.
دعاوى قضائية
أقرّت مديرة مركز تقييم وبحوث الأدوية التابع لإدارة الغذاء والدواء باتريزيا كافازوني بوجود “بعض الثغرات التي تعتري قدرتنا على ضمان بأن الأدوية المباعة دون وصفة طبية هي من أعلى جودة”، جاء ذلك خلال عرض قدمته في أبريل أمام مجموعة ضغط تطالب بمنح إدارة الغذاء والدواء مزيداً من التمويل.
كانت الميزانية الأخيرة التي تقدمت بها إدارة بايدن قد تضمنت اقتراحاً من إدارة الغذاء والدواء من شأنه معالجة إحدى الثغرات الرئيسة التي رُصدت خلال سحب القطرات العينية، بحيث تفرض على المصنّعين الذين ينتجون أدوية تباع دون وصفات طبية للمرة الأولى بإبلاغ إدارة الغذاء والدواء قبل ستّة أشهر من بدء بيعها، لإفساح مجال للمعاينة.
كما تدرس الإدارة اتباع طرق أوسع من أجل معالجة المشاكل المتعلقة بجودة الأدوية، حسب تقرير من بلومبرغ نيوز في مايو، وتشمل الإجراءات التي يمكن أن تلجأ إليها مزيد من التفتيشات غير المعلنة واختبار الأدوية المستوردة وتحديد نظام علامات جديد للمصنعين لتقييم الجودة، لكن كلّ هذه الإجراءات تتطلّب المال، وحتى داعميها يرون أن تحقيق مطلب الإدارة برفع تمويلها بنسبة 10% في ميزانية العام المقبل سيكون صعباً.
كما أن محاسبة من تسببوا بانتشار العدوى ليس بالسهولة التي يبدو عليها. أوليفا، المتقاعدة التي أصيت بالعمى في فلوريدا، ومارتري، المرأة المتحدرة من جنوب كارلولاينا التي لم تبق لها إلا عين واحدة صالحة، من بين عديد من الناس الذين تقدموا بدعاوى قضائية ضدّ “غلوبال فارما” أو “إزري كير” أو “ديلسام فارما”.
لكن قد يتبادل الموزعون والمصّنعون الاتهامات أو يلوموا الوسطاء في المحكمة كما يفعلون خارجها، حتى إنه بإمكان “غلوبال فارما” أن تعتبر نفسها خارج صلاحيات القضاء الأميركي من الأساس، وإلى ذلك، توجّه بعض الدعاوى الأخرى الاتهامات لبائعي التجزئة مثل “أمازون” و”وول مارت” الذين غالباً ما ينجحان في تجنب تحمل مسؤولية أي منتجات معيبة من خلال تحميل الموزّع المسؤولية، وعلى ذلك فقس.
تبرئة هندية
في تاميل نادو، يبدو أن المسؤولين برؤوا “غلوبال فارما”. فقد قالوا في مارس إنهم لم يعثروا على أي أثر للزائفة الزنجارية في العينات التي أخذوها من معمل الشركة. كما جرت العادة في الهند، لم ينشر المسؤولون نتائج تحقيقهم. وكانت مسؤولة الرقابة على الأدوية في الولاية بي. في، وفيجايالاكشيمي قد رفضت خلال مقابلة قبيل تقاعدها في أبريل الإجابة على معظم الأسئلة المتعلقة بالتحقيق، محتجةً بسرية المعلومات، واعتبرت بعدها النبرة المستخدمة في طرح الأسئلة مهينة وأنهت المقابلة، كما لم يستجب خلفها لطلب إجراء مقابلة معه.
بعد بضعة أسابيع فقط من الحظر الأميركي على استيراد منتجات “غلوبال فارما”، اجتازت الشركة تفتيشاً أجرته السلطات الصحية السلوفاكية، التي اعتبرت أن معملها يرقى إلى معايير الاتحاد الأوروبي الخاصة بصناعة الأدوية غير المعقّمة، حسب سجلات “إمبورت جينيوس”، فقد تلقى موزعون في البرتغال وفرنسا شحنات من “غلوبال فارما” هذا العام، بينها أقراص لمعالجة الارتجاع الحمضي ومضادات الحساسية وكريمات معالجة فطريات سعفة الفخذين.
فيما خصّ الموزعين الأميركيين، يمكن لإدارة الغذاء والدواء أن تتعاون مع وزارة العدل من أجل توجيه تهم جنائية تصل عقوباتها إلى فرض غرامات والسجن، وقال المحامي بيل مارلير الذي سبق أن مثّل ضحايا تلوّث بكتيري في الأطعمة: “يمكنني تخيّلهم يتحققون بشدّة من باعة المنتجات وأن يطرحوا أسئلة بالغة الأهمية عليهم حول ما يعرفونه”، وتشمل الأسئلة: “هل قاموا بأي تحقيقيات؟ هل يفهمون شيئاً عن المنتج؟”.
زار المفتشون مستودع “إزري كير” الكائن في مجمّع صناعي في لايكوود في نيوجرسي في مارس، حيث اكتشفوا نقصاً في مراقبة الجودة والإشراف لدى المصنّعين، بحسب الوثائق التي حصلت عليها بلومبرغ بموجب قانون المستندات العامة، وردّ بنجامين إنغلند، الموظف السابق في إدارة الغذاء والدواء وأحد محامي “إزري كير” أن الشركة كفّت عن توزيع أي منتج يحمل علامتها التجارية وستتلف كامل مخزونها من الكريمات والمراهم. وأبلغ إدارة الغذاء والدواء أن “تركيبة الدموع الاصطناعية وتصميم نظام تغليفها وعملية التصنيع” تولتها “(غلوبال فارما) وليس (إزري كير)”.
فشل الإجراءات
زار المفتشون أيضاً صيدلية أروموغام في البرونكس وحرروا لها مخالفة بسبب التقصير في التحقق من “غلوبال فارما”. قال أروموغام من خلف نضد متجره “لا يمكنني مراقبة ما يجري من هنا”، ووجدت إدارة الغذاء والدواء أن أروموغام خزّن بعض قطرات العين في منشأة تخزين عامة تفتقر للمراقبة الحرارية لمعظم صيف 2021.
أفاد التقرير أنه منذ سحب القطرات، قُدمت خمس شكاوى على الأقل حول إصابات بالعيون على صلة بمنتجات “ديسلام فارم”، فيما لا تملك الشركة أي آلية لتتبع الأحداث السلبية التي قد تحصل، بخلاف ما هي ملزمة به من قبل إدارة الغذاء والدواء.
قال أروموغام “وكّلت محاميّاً بالاهتمام بالأمر”، حيث إن العدوى خطرة بالفعل، إلا أنه لم يتم تحديد كونها ناجمة عن الزائفة الزنجارية.
في مايو، أجرت مؤسسة “العين الجافة” اختباراً جديداً لدفاعات إدارة الغذاء والدواء، فأنشأت بيتريس وبراون شركة “أوشن تيرز” (Ocean Tears)، التي يفترض أنها متخصصة بصناعة القطرات العينية ودفعتا نحو 500 دولار لإنشائها والحصول على رقم “دن وبرادستريت” لتعريف الشركات، وهو ما يشترطه البرنامج الإلكتروني الخاص بإدارة الغذاء والدواء على الجهات التي تدرج منتجاً جديداً يباع دون وصفة طبية، ولقد اختلقتا مادةً وادعتا أنها أحد المكوّنات غير النشطة في المنتج، وبالفعل تمكنتا من إدراج المنتج في النظام.
منح ذلك المرأتين مزيداً من الجرأة، فاختلقتا قطرة عيون أخرى أطلقتا عليها تسمية “دموع الحورية” (Mermaid Tears) قالتا إنها تهدف “للحماية من تهيّج العين في المياه المالحة… وتمكّنك من الرؤية كحورية تحت الماء”، وكتبتا تحذيراً على الملصق جاء فيه “هذه قطرة عيون لا تحتوي على مواد حافظة، موضوعة في قارورة قطرات عيون عادية بشكل غير مناسب”، وأنه على أي شخص يبتلعها عن طريق الخطأ أن يطلب المساعدة الطبية، والأفضل أن يكون ذلك في حوض أسماك.
لم تواجه بتريس وبراون أي مشاكل بخصوص هذه القطرات أيضاً. ثمّ بعد شهرين، وبعد تساؤلات من “بلومبرغ” منعت إدارة الغذاء والدواء شركتهما الوهمية من إدراج أي منتجات جديدة، لكن لو أرادتا أن تصنعا قطرات “دموع الحورية” وتبيعانها فعلاً، يبدو أن أحداً لم يكن ليمنعهما.
المصدر: Bloomberg