انشغل إريك ليتكه خلال أغلب فترة عمله لدى “أديداس” على مدى عقدين بمغني الراب كانييه ويست، الذي بات يسمى يي، فقد عمل ليتكه مع المغني والمصمم منذ تولى إدارة الماركات العالمية في الشركة الألمانية في 2014، بغرض جعل علامة “ييزي” التجارية بالشراكة مع “أديداس” نشاطاً حجمه مليار دولار.
انهار كل ذلك في أكتوبر، بعدما أطلق يي سلسلة تصريحات منفلتة من عقالها دفعت “أديداس” لإنهاء تلك الشراكة، وحينها كان ليتكه قد غادر منذ فترة، إذ ترك “أديداس” ليصمم حذاءً قد يساهم في إنقاذ الكوكب.
فكرة رحيل ليتكه عن الشركة بادرته في 2014 حين عرض خبير العلامات التجارية سيريل غاتش على “أديداس” فكرة تصنيع أحذية رياضية من بلاستيك يُعاد تدويره، وغاتش، 51 عاماً، هو مؤسس “بارلاي فور ذا أوشنز” (Parley for the Oceans)، وهي مجموعة تعمل على ترويج حلول مصممة لإنقاذ البيئة البحرية.
المفارقة أنَّ ليتكه كان آنذاك يعمل على تطوير “بوست” (Boost)، وهي تقنية لنعل موسّد إسفنجي طوّرته “أديداس” بالتعاون مع شركة الكيماويات الألمانية العملاقة “بي إيه إس إف” (BASF). لكن غاتش ترك انطباعاً قوياً لدى ليتكه، وهو سبّاح شارك في مسابقات ومحب لركوب الأمواج يتمتع بموهبة في الجانب التقني لتطوير الأحذية وفي فن تسويق المنتجات الجديدة.
قال ليتكه: “يمكنك أن تروي قصة رائعة عن إنقاذ كائنات المحيط… إنها صورة قوية جداً للترويج، كأن تقول: بإمكانك أن تكون جزءاً من الحل من خلال شراء هذا المنتج المصنوع من بلاستيك جُمع من المحيطات”.
جهود متعددة
اقتنعت “أديداس” بالفكرة، واعتمدت في البداية على البنية التحتية لمنظمة “بارلاي” لجمع البلاستيك المطلوب لتصنيع الأحذية من شواطئ جزر المالديف، الذي تحوله بعد ذلك شركة “فار إيسترن نيو سنشري” (Far Eastern New Century) التايوانية العملاقة للمنسوجات إلى خيوط عالية الجودة، وبعد فترة قصيرة، كان على الأطراف توسيع نطاق جهود جمع البلاستيك لتشمل دول منها الدومينيكان والفليبين لمجاراة الطلب.
“أديداس” ما بعد “ييزي“
تنامى الاهتمام بشركة الامتياز بعدما عرض ليتكه أول زوج أحذية رياضية من إنتاجها في مؤتمر المناخ الذي عقدته الأمم المتحدة في يونيو 2015، وصُنع الحذاء من مواد مستخلصة من شباك بلغ طولها 72 كيلومتراً استخرجتها فرق “سي شيبرد كونزرفيشن سوسايتي” من المحيط أثناء مطاردة سفينة الصيد الجائر “ثاندر” (Thunder) قبل ذلك بأشهر قليلة، وقد كان بول واتسون، مؤسس “سي شيبرد”، صديق غاتش.
قال ليتكه للحضور في مؤتمر الأمم المتحدة: “هذا من أعلى منتجات الجري أداءً في هذا القطاع. هكذا يمكن أن يكون المستقبل. نحن لا نقبل بأي حلول وسط”.
نشاط ضخم
منذ ذلك الحين، أضحى امتياز “أديداس” للمنتجات المصنوعة من البلاستيك المستخلص من المحيطات نشاطاً حجمه مليار دولار، وأنتجت الشركة نحو 27 مليون زوج من الأحذية الرياضية تحتوي على خيوط بلاستيكية من إنتاج “بارلاي أوشن” العام الماضي، وهي تستخدم الآن تلك المادة لاستبدال البوليستر البكر في منتجات مثل الأحذية المستخدمة في الماراثون وقمصان كرة القدم الاحترافية.
قالت “أديداس” إنَّ زوج الأحذية الواحد من طراز “بارلاي إكس أديزيرو”، البالغ ثمنه 120 دولاراً، تقتصر بصمة انبعاثاته على ما يعادل 3.5 كيلوغرام من ثاني أكسيد الكربون طيلة “فترة استخدامه”، وهذا نحو ربع متوسط الحذاء مخصص للجري، وفقاً لدراسة باحثين من شركة “أسيكس” (Asics) ومن معهد ماساتشوستس للتقنية في 2012.
لكن خطاب ليتكه في الأمم المتحدة كان أيضاً مقدمةً لما هو آت، إذ كان ليتكه قد فقد قدرته على قبول حلول الوسط، ورغم أنه كان فخوراً بالنجاح الذي حققته “بارلاي”، فقد أدرك ليتكه أنَّ حتى البلاستيك المُعاد تدويره يقتحم المحيطات وسلاسل الغذاء، لذا ترك ليتكه الذي كان قد أصبح نباتياً “أديداس” في 2019، وسرعان ما شارك في تأسيس “أنليس كولكتيف” (Unless Collective) مع ثلة من الخبراء المخضرمين ممن عملوا لدى”أديداس”، في بورتلاند بولاية أوريغون.
اسم الشركة يشير إلى جملة من قصة عن الإفراط الاستهلاكي اسمها “ذا لوراكس” (The Lorax) وكتبها ثيودور سوس غيزيل، جاء فيها: “ما لم يبذل شخص مثلك اهتمامه وبشدة، فلن يتحسن شيء”.
خالٍ من البلاستيك
كانت الخطة هي تصنيع أحذية وملابس أخرى خالية تماماً من البلاستيك، بحيث لا تخلف أي نفايات ضارة للبيئة.
في ديسمبر، أطلقت “أنليس” حذاء “ديجينيريت” (Degenerate)، وهو أول حذاء تصنعه الشركة من نباتات وعناصر معدنية قابلة للتحلل.
على مر أغلب فترات تاريخ البشرية، لم يكن هناك شيء مميز في الأحذية المصنوعة من مواد طبيعية، فلنأخذ على سبيل المثال أوتزي، رجل الثلج الذي كان مدفوناً لخمسة آلاف عام تحت ثلوج جبال الألب على ارتفاع 3200 متر على الحدود الحالية بين إيطاليا والنمسا.
كان حذاؤه، الذي يرجع للعصر النحاسي، مصنوعاً من جلود الدببة والأبقار ولحاء الشجر إلى جانب مواد أخرى، وكان محشواً بالقش حفاظاً على دفء القدمين في المرتفعات العالية.
لكن على مدى القرن الماضي، أضحت البشرية تعتمد على المواد المصنعة من النفط لتحسين متانة المنتجات ولتحسين ميزة التهوية، إلى جانب السعر والراحة التي توفرها، ويُعد الثمن البيئي لإنتاج هذه المواد أكبر.
تمثل صناعة الأحذية ما يُقدَّر بـ1.4% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وفقاً لـ”كوانتيس”، وهي شركة لاستشارات الاستدامة، ويميل القطاع للتصنيع في دول تعتمد على الوقود الأحفوري.
التصدي للمشكلة
تولِّد عملية تصنيع الأحذية أيضاً نفايات لا يختفي أثرها، وفقاً لأحد تقديرات “إيلين ماك آرثر فاونديشن”، فإنَّ محيطات العالم ستحتوي من البلاستيك ما سيفوق وزن أسماكها في 2050.
كان ليتكه يعلم أنه يرغب بأن يتصدى لجذر المشكلة، لكنه لم يكن متأكداً من كيفية ذلك في البداية، وتمتلئ الأحذية الرياضية بالأصماغ والخيوط وشبك البوليستر وغيرها من المواد المصنعة من النفط.
كان ليتكه بحاجة لابتكار أحذية خالية من البلاستيك يمكنها أيضاً أن تتسم بالتنافسية من حيث الأداء والسعر ليحدث ثورة في عالم صناعة الأحذية.
جاءت لحظة الإلهام في مارس 2020، حين التقى ليتكه ولوك هافرهالز، وهو أستاذ كيمياء في جامعة برادلي بولاية إلينوي وقد أسس ويرأس شركة “ناتشورال فايبر ولدنغ” (Natural Fiber Welding)، التي تستخدم “الكيمياء الخضراء وتقنيات المعالجة” لتصنيع منسوجات جديدة من النباتات والعناصر المعدنية.
حصلت شركة هافرهالز بالفعل على براءة اختراع لمنسوجات عالية الأداء من القطن والقنّب والصوف اسمها “كلارس” (Clarus)، إلى جانب مادة تشبه الجلد اسمها “ميرم” (Mirum)، وكانت شركته توردها لصالح “رالف لورين” و”بي إم دبليو”، بالإضافة لشركات أخرى. كما تملك “رالف لورين” و”بي إم دبليو” حصة أقلية في الشركة.
أما “أنليس”، فقد طوّرت مادة مطاطية خالية من البلاستيك اسمها “بليانت” (Pliant) لصناعة النعل الخارجي، إضافة إلى مطاط رغوي للنعل الأوسط مصنوع من المطاط الطبيعي والزيت النباتي والعناصر المعدنية والفلين اسمه”تونيرا” (Tunera).
الحذاء المستحيل
بعد تسميته “إمبوسيبل شو” (Impossible Shoe)، أي الحذاء المستحيل، حصل الحذاء الرياضي المصمم على غرار أحذية المتزلجين خلال مراحل التطوير، على اسم “ديجينيريت” في أول ظهور له في 2022، في إشارة إلى قدرته على التحلل العضوي وإلى تحديه لأعراف الصناعة.
يصف هافرهالز الحذاء بأنه “في عالم الأحذية يشبه سيارة (تسلا رودستر) في عالم السيارات”، وهي إشارة لباكورة إنتاج صانعة السيارات لسيارة كهربائية ظهرت للمرة الأولى في 2006 ولفتت الأنظار لكونها تشبه السيارات الرياضية وتعطي الانطباع بأنها كذلك.
الحذاء الذي يعني اسمه “المتحلل” قابل للتحلل عضوياً فعلاً، إذ يمكن إعادته بعد استعماله إلى “أنليس” مقابل خصم 20% على المشتريات التالية. تعمل شركة ليتكه على التخلص من تلك الأحذية مع شركة “أرغومين”في كاليفورنيا، وهي مختصة بتحويل الناتج إلى سماد. كما يمكن للأحذية من هذا الطراز أن تُدفن في حديقة المنزل رغم أن الأفضل هو دفنها بعد طحنها.
قال ليتكه: “الأمر بهذه البساطة. إنها نظيفة لهذه الدرجة، فهي تصبح غذاءً للديدان والنباتات”.
“أنليس” ليست الشركة الوحيدة التي تحاول تصنيع أحذية أكثر صداقة للبيئة. في العام الماضي، بدأت شركة “أون” (On) السويسرية للأدوات الرياضية تطرح طلب أحذية خالية من الصبغة ومصنوعة من البلاستيك العضوي القابل لإعادة التدوير التي تُعرف باسم “كلاودنيوز” (Cloudneos). كما كشفت شركة “أولبيردز”النقاب عن حذاء “موون شوت” (M0.0nshot) في يونيو، وهو حذاء يبلغ الكاحل مصنوع من صوف تنتجه مزارع تمتثل للمعايير البيئية ومن بلاستيك عضوي.
لكن لم تستطع أي شركة الوصول إلى التركيبة المثلى بعد، إذ ما تزال “أون” تحاول أن تستكشف كيفية بناء شبكة تتسم بالكفاءة لتدوير حذاء “كلاودنيوز”، ونال حذاء “موون شوت” جانباً من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب شكله الأخرق.
قال ليتكه، إنه يأمل أن تستطيع “أنليس” أن تجيد التحكم في سلسلة الطراز والاستدامة والانتشار.
نشاط متنام
رفضت الشركة الكشف عن عدد أزواج الأحذية من طراز “ديجينيريت” التي شحنتها في دفعتها الأولى محدودة الحجم، لكن الحذاء، الذي يبلغ سعره 139 دولاراً، نفد بسرعة. قالت “أنليس” إنها في خضم تجديد مخزونها، فيما يعمل ليتكه أيضاً على المنتج التالي للشركة.
في ديسمبر، تعاونت الشركة مع “ماموت” ، وهي علامة تجارية لملابس الأنشطة الخارجية، لإصدار خط من سترات بها أغطية للرأس وقمصان مصنوعة من مواد قابلة للتحلل العضوي، ويهتم ليتكه بأن تستمر الشركة بالنمو من خلال العمل مع علامات تجارية أكبر، بما فيها “نايكي” و”نيو بالانس” وحتى “أديداس”.
قال بيورن غولدن، رئيس “أديداس” التنفيذي، لـ”بلومبرغ نيوز” في الربيع: “لدى إريك قدر كبير من المصداقية في القطاع”.
أوضح غولدن، أنه تحدث مع ليتكه عن “أنليس” العام الماضي، حين كان غولدن رئيساً تنفيذياً لشركة “بوما” المنافسة.
وقال غولدن عن “بوما”: “لا أعلم ما إذا كانت الشركة ما تزال على تواصل معه، لكني تواصلت معه وسنلتقي حتماً في المستقبل القريب”.
رفض ليتكه التعليق على وضع محادثاته مع علامات تجارية أكبر، لكنه أكد أنَّ أهمية الابتعاد عن المنتجات القائمة على النفط يفوق قدرة شركة ناشئة مثل “أنليس” وحدها، وفي الأسابيع الأخيرة، عانى العالم من أعلى ارتفاع مسجل في درجات الحرارة، بما في ذلك في مياه شمال الأطلسي-ما يزيد الخطر الذي يحيق بالحياة البحرية التي تتهددها النفايات البلاستيكية.
أهمية الحاضر
قال ليتكه، إنه مستعد “للمساعدة والدخول كشريك مع أي شخص يود أن يحل بعض مشاكل العالم وفي الوقت نفسه يقدم منتجات جميلة”.
في صبيحة أحد أيام يونيو، وفيما غطى دخان حرائق الغابات الكندية سماء مدينة نيويورك، استعد واتسون الذي يعمل مع “سي شيبرد” للإبحار مع فريق آخر في حملة لمدة شهر لرصد سفن صيد الحيتان قبالة ساحل غرينلاند، ورغم كل الأنباء السيئة عن المناخ، كان واتسون يشعر بأن الحافز يفوق دواعي الاستسلام.
قال واتسون، 72 عاماً: “أنت لا حول لك على المستقبل. قوتك تسري على الحاضر، وما تفعله في الحاضر يحدد شكل المستقبل”.
انطلقت المجموعة من نيويورك في اليوم التالي وقد ارتدى أفرادها قمصاناً ومعاطف وسترات لها أغطية رأس خالية تماماً من البلاستيك من إنتاج شركة “أنليس”.
كان واتسون واثقاً أنَّ الخامة التي تعتمد على النباتات بإمكانها الصمود لأشهر في عرض البحر.
قال واتسون: “إريك على الطريق الصحيح. ومنذ ترك (أديداس)، فهو يسلك مساراً أفضل”.
المصدر: Bloomberg