خيم الضباب على مستقبل العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين، بعد إعلان سفير الاتحاد الأوروبي لدى بكين، خورخي توليدو، عن أن المفاوضات مع بكين فشلت في تحقيق نتائج مرضية في القضايا التجارية خلال الأعوام الأربعة الماضية.
وفي حديثه عن تطورات المفاوضات بين الجانبين، عبر سفير الاتحاد الأوروبي لدى بكين، في تصريحات له الأسبوع الماضي، عن حزنه لعدم تحقيق المفاوضات التجارية بين الجانبين أية نتائج جوهرية ولو حتى تقدما محدوداً على مدار السنوات الماضية، ومما قاله:
- الاتحاد الأوروبي بحاجة لتحقيق إنجاز ملحوظ في هذا السياق خلال العام الجاري.
- من المقرر إجراء محادثات اقتصادية رفيعة المستوى بين الجانين شهر سبتمبر المقبل.
وتمر العلاقات الأوروبية الصينية بحالة من “الترقب الحذر” بين الطرفين لأكثر من عام، وقد أعلن الاتحاد الأوروبي في مايو تعديل موقفه تجاه الصين لتقليل الاعتماد الاقتصادي عليها، في ظل الشكوك المرتبطة بعلاقات بكين وموسكو فيما يخص الحرب في أوكرانيا، وهو ما يعد من أكثر الملفات التي يحتد حولها الخلاف بين أوروبا وبكين.
وهرول مسؤولون أوروبيون على مدار الشهور الأخيرة إلى الصين، في زيارات متعددة للتباحث حول عديد من الملفات، وضمن خطوات لتحقيق اختراقات في القضايا العالقة، فضلاً عن مناقشة الوضع في أوكرانيا، لا سيما وأن بكين سبق وأن قدّمت ما يمكن وصفه بـ “المبادرة” لحلحلة الأزمة.
ولا يستبعد محللون خلال حديثهم لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” ألا تسفر المفاوضات عن أي تقدم مستقبلاً على الرغم من استمرار المسار التفاوضي.
ملفات ساخنة وراء صعوبة التوصل لاتفاق
في هذا الصدد توقع الخبير في الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، صعوبة التوصل لإبرام اتفاق تجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين؛ خاصة مع الأزمات الحالية بين الطرفين والضغوطات الأميركية لحث الصين للضغط على روسيا لوقف الحرب والانسحاب من الأراضي الأوكرانية.
ووفق رجائي -خلال حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”- فإنه من الصعب استعادة المفاوضات من جديد بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي لإبرام اتفاقيات كما كان من المفروض أن يجري، مرجعاً ذلك لأسباب عديدة؛ أبرزها غياب الثقة بين الصين والاتحاد الأوروبي سواء كاتحاد وأيضاً على المستوى الثنائي مع الدول الأعضاء فيه، موضحاً أن هذه الثقة أصبحت تغيب يوماً بعد يوم لاسيما اعتبار الصين من قبل الاتحاد أنها تشكل منافساً شرساً من الناحية الاقتصادية، وهو ما يؤدي إلى زيادة التوتر في العلاقات.
وأضاف لهذا السبب أسباباً ودلالات أخرى من شأنها أن تعزز صعوبة إبرام اتفاقات بين الجانبين، من بينها:
- تبني الاتحاد رؤية خاصة مفادها “ضرورة إيجاد بديل للصين” وتخفيض الاعتماد عليها من الناحية الاقتصادية في عديد من المجالات كي لا يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه عندما اعتمد على روسيا من ناحية تمويل الاتحاد بالغاز والنفط والمواد الأولية الأخرى.
- زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إلى دول في أميركا اللاتينية للحصول على مواد أولية كبديل لما يستورده الاتحاد من الصين، وهو ما يؤثر على العلاقات بين الجانبين.
- وأيضاً لا يخفى عن الصين ما يجري حالياً، وخاصة الحرب في أوكرانيا، وأنها كشفت النقاب عن أن حلف شمال الأطلسي يعتبر الصين خطر نوعاً ما على الغرب.
- خطة العمل التي تبناها رؤساء وحكومات الدول الأعضاء في حلف الأطلسي، وهي خطة تم تبنيها قبل عامين تقريباً أي قبل بدء الحرب في أوكرانيا، والتي كان عنوانها “مواجهة الخطر الروسي”، والولايات المتحدة الأميركية أرادت أن تضيف “الصيني” باعتبار أن بكين تشكل خطراً على دول الاتحاد الأوروبي والغرب.
وقال إن جميع ما سبق “أمور تجعل من الصعب التوصل لإبرام اتفاقيات ناجحة بين الجانبين، رغم أن الصين تعتبر أول دولة في العالم لديها مبادلات تجارية مع أوروبا التي تعتمد بنسبة كبيرة من وارداتها على الصين، وكذلك الصين لديها استثمارات كبيرة وهامة في دول الاتحاد خلال الثلاثين عام الماضية”.
تمثل الصين لأوروبا قوة اقتصادية مؤثرة، حيث ارتفع إجمالى حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين بنسبة حوالي 23 بالمئة في 2022 مقارنة بالعام 2021، ليصل إلى 856.3 مليار يورو (912.6 مليار دولار)، بحسب يوروستات.
استمرار المسار التفاوضي.. والضغط على بكين
لكن على الجانب الآخر، استبعد الباحث في العلاقات الدولية، محمد ربيع الديهي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فكرة فشل المفاوضات في الوقت الراهن، معللاً ذلك بأنه ستجرى جولة ثانية من المفاوضات في سبتمبر المقبل بحسب ما أعلن الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن المسار التفاوضي مازال موجوداً، ذلك على الرغم من إعلان سفير الاتحاد الأوروبي لدى بكين، خورخي توليدو فشل المفاوضات التجارية.
وأشار إلى أنه لازالت هناك نقاط خلاف لم تتم تسويتها مع المفاوض الصيني، خاصة وأن الصين لم تقدم تنازلات كثيرة لأوروبا، مفسراً التصريح الغربي بأنه بمثابة محاولة أوروبية للضغط على الصين للاستجابة للمطالب الأوروبية؛ خاصة أن قادة الدول الأوروبية ليست لديهم رغبة الآن في الصدام أو إشعال خلاف مع الصين، في ظل تطورات المشهد الأوكراني وتداعياته على الاقتصاد العالمي.
وحول طول مُدة المفاوضات، لفت خبير العلاقات الدولية إلى أن المفاوضات مع الصين دائماً ما تستغرق وقتاً طويلاً؛ فعلى سبيل المثال توصلت الدول الأوروبية والصين إلى اتفاقية الاستثمار في نهاية العام 2020، ذلك بعد مفاوضات استمرت 7 سنوات، منوهاً إلى أن السلوك التفاوضي مع الصين للوصول إلى اتفاق يأخذ وقت طويل، وأن مدة أربع سنوات ربما تعني البداية في عمليات التفاوض.
وأوضح أنه لم تكن هناك استراتيجية واضحة للدول الأوروبية في التعامل مع الصين، وذلك نظراً لوجود خلافات بين الدول الأوروبية حول آليات التعامل معها، فضلاً عن الضغوط الأميركية على دول الاتحاد الأوروبي، لافتاً إلى أن عدداً من القادة الأوروبيين يرون ضرورة عدم إشعال الأزمة التجارية مع الصين في الوقت الراهن وتأجيلها إلى حين تعافي الاقتصاد الأوروبي من الأزمات التي يمر بها فضلاً عن تداعيات الحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا، إضافة إلى أن بعض القادة يرون أن الخلاف مع الصين هو خلاف طويل ويحتاج لوقت أكبر حتى يتم التوافق بشأن آليات التعامل مع بكين.
أعلن مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في وقت سابق، عن اتفاق وزراء خارجية الاتحاد على ضرورة إعادة النظر في استراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه الصين.
أرجع المسؤول الأوروبي ذلك إلى “التطور الداخلي الأخير في الصين ومسار السياسة الخارجية”، مؤكدا على ضرورة تقليل الاعتماد الاقتصادي على الصين.
مستقبل العلاقات
ورأى الديهي أن فشل التوصل إلى اتفاقية بين الاتحاد الأوروبي والصين لن يؤثر على مستقبل العلاقات بين البلدين في القريب (..) مشددً على أن الملفات الخلافية والمخاوف الأوروبية من التطور الاقتصادي الصيني أمر معروف للجميع، وأن ما كشف الأمر بصورة أكبر هو تأكيد مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، على أن وزراء خارجية الاتحاد اتفقوا على ضرورة إعادة النظر في استراتيجية الاتحاد تجاه الصين (..).
وتوقع أن يستمر القادة الأوروبيون في المسار التفاوضي مع الصين، ولكن بآليات مختلفة واستخدام وسائل ضغط متعددة مع بكين لإنجاز اتفاقية، وهو الأمر الذي قد لا تتسرع فيه الأطراف الصينية خاصة وأن الطرف الصيني يستغرق وقتاً طويلاً في عمليات التفاوض ولدية حالة من التأني في اتخاذ القرارات بهذا الشأن بهدف كسب مزيد من الوقت والفرص وتحقيق المزيد من الاهداف والمزايا.
أوراق الضغط الأوروبية تجاه الصين
ورأى خبير العلاقات الدولية أن الدول الأوروبية هي من تعاني من مأزق خطير نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع معدلات التضخم والانعكاسات الواسعة على الداخل الأوروبي، والتي عبرت عنها التظاهرات في فرنسا وإسبانيا وألمانيا وعديد من الدول الأوروبية الأخرى، فضلاً عن زيارات المسؤولين الأوروبيين الأخيرة إلى بكين وتصريحاتهم بضرورة عدم تبني نفس المقاربة أو النهج الأميركي في التعامل مع الصين، موضحاً أن أوروبا لديها تطلع نحو بناء مرحلة جديدة تجاه العلاقات مع الصين، على أساس تطوير العلاقات الاقتصادية، ولا سيما في ظل الضغوطات التي تواجهها الاقتصادات الأوروبية تحت وطأة الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا.
وأوضح أن الدول الأوروبية ليس لديها الكثير من أوراق الضغط على بكين باستثناء ورقة تايوان، وليس لدى تلك الدول الرغبة في استخدام هذه الورقة لخطورتها، مؤكداً أن الآليات الأوروبية في مواجهة الصين باتت ضعيفة، وأنها (أوروبا) سوف تعتمد بصورة أو بأخرى على التصريحات لإبداء تخوفها من فشل المفاوضات مع استخدام ورقة الاستثمارات الأوروبية في الصين أو حتى ملف حقوق الإنسان الذي أشهره البرلمان الأوروبي لعرقلة تمرير اتفاقية الاستثمار التي أبرمت في العام 2020، أو حتى محاولة رفع صفة دولة نامية عن الصين وجعلها تتعامل كدولة متقدمة، مما سيحرمها من العديد من الميزات التجارية وكذلك المنح التنموية.
الدخول في نفق مظلم
من جانبه، أوضح أستاذ العلاقات الدولية، الدكتور حامد فارس، أن الدعوات تتزايد داخل الاتحاد الأوروبي بضرورة تقليص الاعتماد الاقتصادي على الصين خاصه مع زيادة التقارب الصيني الروسي، والذي يقلق الغرب بشكل عام من كون الصين من الممكن أن تدعم روسيا عسكرياً ضد أوكرانيا على الرغم من إعلان بكين أكثر من مرة وبشكل رسمي أنها محايدة وتسعى لإنهاء الحرب.
وأضاف في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن إعلان الصين عن ذلك يأتي في ظل أن الغرب حريص على إعادة الاتصال وإيجاد معايير جديدة في علاقاته معها في وجود مناخ جيوسياسي مضطرب وغير مستقر، وبالتالي فإن فشل المفاوضات التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي يجعل العلاقات تدخل في “نفق مظلم” وتزيد الأمور تعقيدًا وتشابك.
وأرجع السبب وراء تعقد الأمور إلى أن الاتحاد الأوروبي يعتمد اعتماداً واسعاً على الصين تجارياً واقتصادياً، والتي تعد الشريك التجاري الأول له، وهو ما يطلق عليه “الاعتماد الانتحاري” في ظل وجود اختلالات تجارية بينهم خاصة مع فتور العلاقات منذ أوائل العام 2021 عندما توقفت المفاوضات حول الاتفاقية الشاملة للاستثمار التي سعت لتحقيق أقصى استفادة للطرفين، وتمثل إطاراً قانونياً موحداً يسير عليه الطرفان وتحل محل 20 اتفاقية ثنائية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي في مجال الاستثمارات.
ملفات شائكة تنعكس على مسار المفاوضات
وأضاف أن أوروبا لا تستطيع الاستغناء عن المنتجات الصينية ولكن هناك خلافات سياسية انعكست بشكل كبير على عدم التوصل إلى تفاهمات اقتصادية، من بينها الموقف الصيني من الحرب في أوكرانيا والاتهام بدعم روسيا عسكرياً، إضافة إلى تعويضات كوفيد 19 والتوترات في مضيق تايوان، فضلاً عن مشكلة الأمن الاقتصادي الأوروبي الذي أصبح في قبضة الصينيين تقريباً.
ولفت إلى أن فشل المفاوضات بين الطرفين على مدار أربعة أعوام له دلالة واضحة بأن الخلافات بينهما تزداد يوماً بعد يوم، وأن التوصل لتفاهمات أصبح أمراً مستحيلاً؛ في ظل أن الصراع الآن تحول إلى صراع حول من يجلس على كرسي رئاسة العالم، مشيراً إلى أن الصين أصبحت أحد الاقطاب المؤثرة في النظام العالمي الجديد سواء سياسياً أو اقتصادياً، وأن النظام الغربي يسعى إلى استمرار هيمنته على العالم ويعلم أن الصين أصبحت أكبر تهديد طويل الأمد للنظام الدولي وفقاً لتصريحات رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بأن الصين “تمثل تحديًا للنظام العالمي”.
ورأى أستاذ العلاقات الدولية، أن الاتحاد الأوروبي سيكون غير قادر على فرض الاستراتيجية الأوروبية تجاه الصين، ولن يكون هناك موقف أوروبي موحد خاصة أن أوروبا لا تستطيع الاستغناء عن المنتجات الصينية التي تحقق مبيعات كبيرة.
وتابع: “الصين شحنت في العام الماضي 6.4 مليون حاوية إلى أوروبا، بينما شحن الاتحاد الأوروبي 1.6 مليون حاوية فقط”، كما أن استثمارات الاتحاد الأوروبي في الصين قد تراجعت بنسبة تصل إلى 50 بالمئة، وبالتالي فإن أوروبا غير مستعدة للاستغناء عن الصين في الوقت الراهن لما له من مخاطر على الأمن الاقتصادي الأوروبي.
المصدر: سكاي نيوز عربية