الباطنية والحشاشون والإسماعيلية وأصحاب بيت الدعوة، وغيرها، أسماء أُطلِقت على فرقة من الشيعة نشأت عقب وفاة الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق في عام 143هـ/755م، وهو الإمام السابع من أئمة الشيعة الاثني عشرية، ولهذا السبب أُطلق عليهم لقب الشيعة السبعية أيضا، وقد عمدت هذه الحركة إلى مقاومة السلطة العباسية والقضاء عليها بهدف إنشاء دولة شيعية ترسخ لحكم أبناء إسماعيل بن جعفر الصادق.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف كان عليهم إنشاء “دعوة سرية” على غرار الدعوة السرية التي أقامها العباسيون في خراسان بالمشرق طوال ثلاثة عقود، التي نجحت في نهاية الأمر في القضاء على الأمويين وإنشاء الدولة العباسية.
وعلى هذا؛ استطاع الإسماعيلية أن ينشروا دعوتهم في بلاد فارس واليمن والعراق والشام ثم في المغرب الأوسط والأقصى، وكان فكرهم يقوم على أن للعقيدة ظاهرا وباطنا، ولهذا اشتهروا باسم الباطنية، وتكللت جهودهم في نهاية القرن الثالث الهجري بعد قرن ونصف من ظهورهم بإقامة الدولة الفاطمية التي امتدت من المغرب إلى مصر إلى بلاد الشام، وأصبحت تُمثل التهديد الأخطر للدولة العباسية.
ولم يقف نفوذ الفاطميين عند هذا الحد، ولكنهم استطاعوا أن يشتروا ولاء القائد العسكري التركي البساسيري الذي باع الخلافة العباسية وانقلب عليها، وبايع الفاطميين وارتفعت الدعوة إليهم من على منابر بغداد طوال عام كامل سنة 450هـ.
وفي عام 487هـ/1094م توفي الخليفة الفاطمي المستنصر مخلفا وراءه ابنين؛ هما المستعلي ونزار، وكلٌّ من الولدين كانت تتعصّب له فئة من الشيعة، حتى تحول الخلاف السياسي إلى خلاف عقدي، فنشأت الطائفة المستعلية التي نجح رجالها في إيصال الخليفة المستعلي بالله (487-495هـ) إلى كرسي الخلافة الفاطمية، بينما هُزم النزارية المتعصبون لنزار ابن الخليفة المستنصر وهربوا إلى بلاد الشام وفارس، وفي بلاد فارس أنشأ الحسن بن الصباح الإسماعيلي مجموعة من القلاع لنشر التشيع الإسماعيلي النزاري، وتمكنوا من إقامة الحصون والاستيلاء عليها وعلى رأسها قلعة أَلموت.
الحشاشون في فارس وبلاد الشام
ومن هذه القلاع العسكرية تمدد الهجوم الباطني الإسماعيلي وزاد خطره على الوجود السُّني، خاصة السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك من بعدهم، متخذا أشكالا مختلفة، على رأسها الدعوة إلى مذهبهم، واستقطاب بعض القادة السياسيين لجانبهم مثلما نجحوا مع رضوان بن تتش بن ألب أرسلان السلجوقي حاكم حلب، ومنها وهو الأشهر والأخطر القيام بالاغتيالات السياسية طوال عقود ضد مشاهير القادة المسلمين السُّنة ممن قادوا مشروع المقاومة العسكرية ضد الصليبيين وضد المذاهب المنحرفة، وعلى رأسهم نظام الملك الطوسي، وجناح الدولة أمير حمص، وخلف بن مُلاعب صاحب فامية، ومودود أتابك الموصول، بل إنهم حاولوا قتل صلاح الدين نفسه وأصابوه بالفعل، ولكن أراد الله له النجاة.
وزاد من بأس الإسماعيلية الباطنية في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية كثرة ما امتلكوه من حصون عسكرية، أشهرها مصياف والعليقة والقدموس والخوابي والكهف والرصافة وغيرها، ويبدو أن عداء الباطنية الشديد لأهل السُّنة جعلهم يتقربون إلى الصليبيين بالشام ضد الأيوبيين ثم المماليك، وفي الوقت نفسه رأى الصليبيون في الباطنية قوة مهمة يمكن من خلال التحالف معها الحد من بطش السلاطين والأمراء الأيوبيين ثم المماليك من بعدهم، وبلغ الحال من الود بين الإسماعيلية والصليبيين الفرنج أن هؤلاء الصليبين دأبوا على إرسال الهدايا لتعضيد أواصر العلاقات معهم، واتقاء شرهم لاشتهارهم بمسألة الاغتيالات السياسية، حتى عُرفوا أيضا باسم “الفداوية” و”الحشاشين”، وكلا الاسمين يشير إلى اشتهارهم بعمليات الاغتيال والقتل.
ومع اعتلاء السلطان بيبرس عرش المماليك في عام 658هـ/1260م، ومع القضاء على خطر التتار العدو الأكبر للحشاشين والمماليك أيضا، أرسل كبيرهم رضي الدين أبو المعارف ونجم الدين الشعراني وطلبا من بيبرس الاعتراف بما لهم من رسوم وأموال، وتسليم ضياعهم وأراضيهم التي كانت بأيديهم في أيام السلطان الناصر الثاني الأيوبي، وقد صاحب هذا الطلب نوع من التهديد والتكبر.
في المقابل أرسل السلطان بيبرس رده الحاسم على تهديدهم، ويذكر وزير خارجية ذلك العصر، ومؤرخ سيرة بيبرس محيي الدين بن عبد الظاهر صاحب “الروض الزاهر”، أن قوة الباطنية الحشاشين كانت معتبرة ويُعمل لها ألف حساب في القديم، ولكن بعد سحق التتار لحصونهم في بلاد فارس وبلاد الشام ومع صعود قوة المماليك فقد الحشاشون الكثير من نفوذهم.
والحق أن التعامل الدبلوماسي والسياسي للباطنية مع المماليك كان يتسم بالصلف وقلة الدراية، وبدلا من قراءة موازين القوى، والعمل على التقارب مع المماليك السادة الجدد للمنطقة، راحوا يستثيرون نقمة السلطان الجديد الذي عزم كل العزم على القضاء عليهم، وسط بيئة ملبدة بالأعداء من كل جانب مثل التتار والصليبيين والأرمن وغيرهم.
الضربة القاضية
ومع الخطر الماثل الذي مَثَّله الصليبيون في الشام ومصر، وتحالفهم مع التتار ومن ورائهم الباطنية، أدرك بيبرس أن القضاء على الإسماعيلية بات أمرا واجبا، ولكنه كان ذكيا في اختيار وسيلة القضاء المناسبة عليهم، لقد رأى بيبرس أن الصليبيين اعتادوا على دفع الأموال والهدايا للإسماعيلية الباطنية، ونظرا لانتصاره على الصليبيين في العديد من المعارك، فقد أجبرهم على دفع الضرائب الباهظة على هداياهم لشيخ الباطنية، لا سيما أنها كانت تمر في أراضي دولة المماليك.
ينقل المؤرخ بدر الدين العيني ما حدث قائلا إن الإسماعيلية كان نفوذهم قد امتد إلى الدولة البيزنطية والصليبيين الفرنج وغيرهم من القوى الدولية الأخرى آنذاك: “وصلت رسل الأنبرور (الروماني الإيطالي)، والفرتش، وملوك الفرنج، واليمن، بالهدايا إلى صاحب الإسماعيلية، فأمرَ السلطان بأن تؤخذ الحقوق الديوانية من هذه المراكب إفسادا لنواميس الإسماعيلية، وتعجيزا لمَن اكتفى شرهم بالهدية”، على حد وصفه.
والحق أن السلطان بيبرس بعد مجموعة من الانتصارات العسكرية على الصليبيين في الشام عقدَ هُدنة في شوال سنة 664هـ مع فرقة الإسبتارية الصليبيين، وقد لاحظَ أن الإسماعيلية الباطنية وإن كانت تأتيهم الهدايا والأموال من دول وقوى مختلفة، فإنهم في الوقت عينه كانوا يعطون جزية سنوية إلى فرقة الإسبتارية العسكرية الصليبية لإدامة المودة بينهم، وكي يدافع عنهم الإسبتارية إذا لزم الأمر.
لذا وضع بيبرس ضمن شروط الهدنة أن يتنازل الإسبتارية عن الإتاوات والجزية التي كانوا يفرضونها على الحشاشين الإسماعيلية، وقَبِل بالفعل الإسبتارية هذا الشرط مرغمين. وكان الظاهر بيبرس ذكيا في فرض هذا الشرط، فقد منع الإسبتارية من الاستفادة من رافد مالي كان يقويهم ويمدّ في نشاطهم وبقائهم، وفي الوقت عينه كان يدرك أن الباطنية الحشاشين أمسوا مضطرين لدفع هذه الجزية إلى السلطان نفسه، فضرب عصفورين بحجر واحد.
وبالفعل وصلت رسل الباطنية إلى القاهرة عاصمة المماليك لأول مرة في جمادى الآخرة سنة 665هـ/1267م، يحملون الجزية لبيت المال، بعدما “كان أصحاب بيت الدعوة فيما مضى من الزَّمان يُقطَعون مُصانعات الملوك، ويجبون القطعة من الخلفاء، ويأخذون من مملكة مصـر القطعة في كل سنة، فصاروا يحملِون القطيعة لذلك الظَّاهر بيبرس لقيامه بالجهاد في سبيل الله”، على ما يصف العلامة المقريزي في تاريخه، وقالوا: “هذا المال الذي كنا نحمله قطيعة (فريضة أو جزية) للفرنج قد حملناه لبيت المسلمين؛ ليُنفقَ في المجاهدين.
وبلغ من سطوة بيبرس وقوته أن جعل الباطنية في خدمة مشروعه الكبير لتحرير بلاد الشام من بقايا الوجود الصليبي الذي لم يتمكن السلطان صلاح الدين الأيوبي وخلفاؤه من بعده من إتمامه، فقد أمرهم بتنفيذ عملية اغتيال لزعيم من زعماء الصليبيين في الشام اسمه فيليب منتفرات سنة 668هـ، وأرسل أحدهم لاغتيال أمير صليبي آخر اسمه إدوارد، مما أسهم في خلخلة الجبهة الصليبية وإصابتها بالرعب.
لكن بيبرس نفسه لم يأمن مكر الإسماعيلية، لذا بمجرد أن استتب له حكم مصر والشام وحلب أقدم على خُطة فريدة لم يسبقه إليها حاكم من قبل.
لقد علم بيبرس أن الجزية السنوية التي فرضها على الباطنية ستصيبهم بالغضب والضجر، وأنهم لن يثبتوا على الولاء للمسلمين السنة أعدائهم التاريخيين، ولهذا السبب قرر بيبرس عزل شيخ هذه الطائفة الذي يُسمّى نجم الدين حسن بن الشعراني بسبب رسالة أرسلها إليه وهو يحاصر حصن الأكراد في بلاد الشام سنة 668هـ، يطالبه فيها بتخفيض الجزية التي يدفعها الباطنية لبيت المال.
ولما لم يقبل بيبرس ذلك منه؛ أمر على الفور بعزله وتولية صارم الدين مبارك بن الرضي صاحب العليقة، وهي إحدى قلاعهم، بدلا منه، وقَبِل صارم الدين هذه الولاية وتوجه إلى عاصمة بلاد الإسماعيلية في الشام مصياف ومعه مندوب من السلطان الظاهر بيبرس لمراقبة إذعانهم للدولة المملوكية وتنفيذ الشروط التي أُبرمت من قبل، خاصة فيما يتعلّق بالجزية وقيمتها (مئة ألف درهم سنويا)، فضلا عن تبعية العاصمة مصياف والمنيقة والعليقة والقدموس والرصافة للسلطان، وبهذا الإجراء الذكي أخضع بيبرس الإسماعيلية لسلطانه المباشر دون حرب.
يقال إن بيبرس دخل مع الحشاشين في مفاوضات انتهت بالاتفاق على تسليم حصونهم ومغادرة الشام إلى مصر مقابل إعطائهم إقطاعا ماليا مجزيا.
في ضوء ذلك، لم يرَ شيخُهم المخلوع نجم الدين الشعراني وولده بُدًّا من الدخول في طاعة بيبرس والخضوع لشرطه، فطلبا منه السماح لهما بالحضور بين يديه، فأجابهما بيبرس إلى ذلك، وعندما قدم نجم الدين واعتذر عما بدر منه، قَبِل منه بيبرس ذلك وقرر توليته حُصون الإسماعيلية بالاشتراك مع صارم الدين الشيخ الجديد، ثم فرضَ عليه أن يدفع له كل عام مئة وعشرين ألف درهم، وأمر صارم الدين الرئيس الجديد أن يدفع للخزينة المملوكية ألف دينار. وهكذا نجح بيبرس في زيادة الجزية السنوية المفروضة عليهم، وعمل في الوقت نفسه على شرذمتهم سياسيا وانقسام السلطة بين شيخين لهم بدلا من واحد.
وكان بيبرس مصمما على أن يتابع حملته ضدهم وألا يدعهم يقفون مرة أخرى في وجهه، ولهذا احتفظ بسيف الدين بن نجم الدين الشيخ الجديد للباطنية رهينة عنده في مصر. ويقال إن بيبرس انتهز فرصة اعتراف الحشاشين بخطئهم عندما طالبوه بتقليص الجزية أثناء حصاره لحصن الأكراد، وكونهم اعترفوا بالتعاون مع الصليبيين في السر للتخلص من بيبرس وهزيمة المماليك، ودخل معهم في مفاوضات انتهت بالاتفاق على تسليم حصونهم ومغادرة كلٍّ من الوالد والولد الشام إلى مصر مقابل إعطائهم إقطاعا ماليا مجزيا، وأما الرئيس الجديد للإسماعيلية فقد غضب عليه بيبرس لاحقا وسجنه في مصر، وكان القضاء على الرأسين معا الخطوة الحاسمة لسقوط حصون وقلاع الباطنية في بلاد الشام في يد السلطان بيبرس وسيادة المماليك عليها مباشرة دون وسيط كما كان من قبل.
وبالفعل سقط حصن العليقة في شوال سنة 669هـ/مايو/أيار 1262م، وتلاه سقوط حصن الرصافة في العام نفسه، وتحت وقع القوة المملوكية العسكرية القاهرة، واعتقال زعماء الباطنية في القاهرة، استسلمت بقية حصونهم بعد مقاومة لم تطل، لا سيما الخوابي والقليعة في عام 670هـ، والمنيقة والقدموس وحصن الكهف في سنة 671هـ.
والحق أن انتقال الإسماعيلية الحشاشين من حياة الحصون والحروب إلى الزراعة والاستقرار الحضري تسبب في القضاء على قوتهم، وضياع هيبتهم، وقد استغل السلطان بيبرس هذا الملحظ، وهو من علامات الذكاء العسكري والتكتيكي عنده، وهو منحى نلاحظه لدى كثير من الدول التي تنتهج المبدأ ذاته مع الحركات الانفصالية أو المسلحة إذا أعجزتها أو استنزفتها على المستوى العسكري، فتفتح لها الطريق لرغد العيش، والذوبان في الحياة المدنية والحضارية.