شهدت الأراضي المعروفة تاريخياً ببلاد الرافدين تدشين أولى المراكز الحضارية في العالم، وبلاد الرافدين هي الحوض المشترك لنهري دجلة والفرات، وتعددت النظريات حول نشوء هذا الحوض غير أن النهرين العظيمين يبقيان العاملان الرئيسيان في خصوبة هذه الارض.
وخلال الفترة المحصورة مابين أوائل القرن الخامس قبل الميلاد ونهاية القرن الأول بعد الميلاد تغير مجرى نهري دجلة والفرات مراراً بعدما امتلأت القنوات بالترسبات وارتفعت نسبة الملوحة في التربة، مما جعل كثيراً من الأراضي في هذا الحوض غير صالحة للزراعة.
فكرة إنشاء مشروع زراعي للاكتفاء الذاتي
بدأت الحكومة العراقية عام 1963 درس مشروع زراعي لاستصلاح الأراضي الزراعية وسط وجنوب العراق عبر تدشين نهر صناعي يتضمن إنشاء شبكة من المبازل تمنع خلط المياه المالحة بمياه نهري دجلة والفرات وتحويلها إلى الخليج العربي، ولهذا الغرض كلفت إحدى الشركات الأميركية بإعداد خريطة لشبكات المبازل المحصورة بين نهري دجلة والفرات، وقد أسهمت شركات بريطانية وألمانية غربية وهولندية في إجراء دراسات وإعداد لهذا المشروع العملاق الذي يصل طوله إلى 172 كيلومتراً.
كان الهدف المعلن للمشروع هو تحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاع الزراعي، وعلى إثره عقد اتفاق مع شركة برازيلية في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين لاستئناف العمل في لمشروع وتنفيذ المنشآت الواقعة تحت نهر الفرات، ومنها إنشاء ستة جسور للسيارات وجسريين للقطارات، لكن عملية غزو الكويت أوقفت تنفيذ المشروع الذي بات يعرف بـ “نهر صدام”.
وتزامنت هذه التسمية مع وجود ظروف سياسية وأمنية غير ملائمة وخطرة شهدها العراق نتيجة غزو الكويت عام 1990، وبعد مرور عامين على غزو الكويت استأنفت وزارة الموارد المائية في الحكومة العراقية العمل بإمكاناتها المحلية منجزة بذلك الأعمال التي لم تستكمل حتى ذلك الوقت.
المعارضة العراقية تروج ضد المشروع
وكانت المعارضة العراقية المدعومة من إيران نقلت نشاطها إلى بريطانيا وبعض الدول الغربية، إذ شنت حملة دعائية ضد المشروع زاعمة بأن “نهر صدام” هو مشروع أمني اعتمدته الحكومة العراقية لتجفيف الأهوار بغية تهجير سكانها والسيطرة الأمنية على المنطقة الحدودية التي تفصل العراق عن إيران، محذرة من تداعيات هذا المشروع وأضراره البيئية والانسانية، مما جعل المقرر الخاص للأمم المتحدة فان دير ستول، وهو هولندي الجنسية، يدرج هذه التحذيرات ضمن تقريره الخاص بالعراق.
وجاء في وثيقة تضمنها الأرشيف قوله إن “العراق يحرز تقدماً سريعاً في تدشين مشروع واسع النطاق للتحكم في موارد المياه في منطقة الأهوار الجنوبية، وفي حال نجاحه فسينقل المشروع المياه من نهر دجلة بعيداً من الأهوار”.
وتضيف الوثيقة، “يتضمن المشروع خطتين، أولاً بناء السدود والجسور في اتجاه الغرب والشرق من الأهوار وغرب مدينة قلعة صالح، والبناء بدأ في أوائل أغسطس (آب)، وبحلول الـ 18 من سبتمبر 1992 بنيت ثلاثة أجزاء من سد مزدوج مع طرق داعمة تؤدي من شط المؤمنة إلى منطقة قلعة صالح، وثانياً ترتبط السدود والجسور بقناة محفورة عبر المستنقعات السابقة المستصلحة من قلعة صالح جنوباً إلى نهر الفرات غرب القرنة على مسافة حوالى 50 كيلومتراً، إذ بحلول الـ 18 سبتمبر اكتملت القناة بنسبة 80 في المئة، وقد دمر المشروع ما لا يقل عن 23 قرية في مناطق السدود والجسور منذ بدء تدشينه”.
وعلى رغم ذلك يشير التقرير إلى أن “الهدف الأساس للمشروع هو الزراعة، وللمنطقة تاريخ من استصلاح الأراضي للأغراض الزراعية، ومنذ أن لوحظ النشاط الحالي للمرة الأولى في أغسطس تم حرث مناطق من المستنقعات السابقة قرب القناة الجديدة على ما يبدو استعداداً للزراعة، ومن شأن التوسع في الزراعة في المنطقة أن يسهم في تحقيق هدف العراق المعلن منذ فترة طويلة وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي”، لكن التقرير يتضمن ملاحظة مهمة توحي بأن المشروع له طابع عسكري، وقد يكون الهدف من تدشينه تحسين الاتصالات البرية دعماً للعمليات العسكرية المحتملة، إذ يضيف “ويوفر المشروع أيضاً ميزة عسكرية تتمثل في تحسين الاتصالات بين الطرق بين الشرق والغرب في منطقة ينشط فيها المتمردون بشكل خاص”.
صراع في أروقة الأمم المتحدة
وتنقل لنا الوثائق البريطانية نص رسالة رفعها مندوب العراق الدائم لدى الأمم المتحدة عبدالأمير الأنباري إلى الأمين العام بطرس غالي في الـ 25 من أغسطس 1992، يتهم فيها المندوب الإيراني الدائم لدى الأمم المتحدة بالوقوف خلف الحملة الدعائية الموجهة ضد العراق من خلال استغلال القضايا العراقية والتظاهر بحماية السكان المدنيين وربطها بمسألة الأمن والسلم الدوليين.
وقال، “أتشرف بأن أحيل إليكم الادعاءات والافتراءات الواردة في الرسالة المؤرخة في الـ 10 من أغسطس عام 1992 الموجهة من القائم بالأعمال الموقت للبعثة الدائمة لإيران لدى الأمم المتحدة، وذلك استناداً إلى ما تسميه ’مصادر مستقلة متنوعة‘ تنقل الرسالة الإيرانية تقارير كاذبة وادعاءات لا أساس لها في شأن الوضع في جنوب العراق، الذي تصفه بأنه تهديد للسلم والأمن الإقليميين والدوليين، وإن الرسالة المذكورة التي تتظاهر بالاهتمام بمعاناة السكان المدنيين العراقيين وتحاول ربطها بمسألة الأمن والسلم الدوليين تكشف في الواقع جوانب الدور الإيراني في المخطط الأميركي والبريطاني والفرنسي الرامي إلى شن عدوان جديد على العراق، ووضع أمنه ووحدة أراضيه وسيادته الوطنية في خطر فادح وانتهاك لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وقد أكدت الأحداث الأخيرة بأدلة مادية ووثائقية أن هناك تورطاً إيرانياً في المخطط المعادي للعراق يتمثل في إرسال متسللين للقيام بأعمال تخريبية في مناطق الأهوار العراقية”.
وأضاف، “إن هذا التدخل وتوقيته لا يمكن إلا أن يثير تساؤلات رئيسة حول العلاقة بين أعمال التدخل في الشؤون الداخلية للعراق التي انخرطت فيها إيران والسياسة الشائنة للولايات المتحدة وحلفائها التي لها الهدف نفسه، واستعدادهم المعلن رسمياً لاستخدام القوة الغاشمة من أجل تقسيم العراق، ويجدر بإيران أن تمتنع من التدخل في الشؤون الداخلية للعراق وأن تستجيب لمبادرة العراق الداعية إلى إقامة علاقات حسن جوار، على النحو الوارد في الرسالة المؤرخة في الـ 14 من أغسطس عام 1990 الموجهة من رئيس جمهورية العراق إلى رئيس جمهورية إيران”.
المعارضة العراقية تكثف جهودها
وبالتزامن مع الصراع الدائر بين الوفد العراقي في الأمم المتحدة من جهة والوفد الإيراني والأطراف المعادية للعراق من جهة أخرى، كثفت “اللجنة الوطنية العراقية لحماية الوسط والجنوب” في بريطانيا مراسلاتها المكثفة تحت عنوان “حماية الشيعة في جنوب العراق” مع الجهات الرسمية ووسائل الإعلام في الدول الغربية والمنظمات الأهلية، بخاصة تلك الجهات المعنية في شأن حقوق الإنسان والتلوث البيئي مما دفع بكثير من الجهات الرسمية والإعلامية إلى البحث عن معلومات إضافية عن الوضع في العراق بشكل عام ومنطقة الأهوار الجنوبية بخاصة.
وتشير إحدى الوثائق البريطانية إلى نوعية الأسئلة الملحة، مثل “كم عدد عرب الأهوار في أهوار الحويزة والعمارة والحمار؟ كم عدد المدنيين الفارين الذين لجأوا إلى هناك؟ كم عدد النساء والأطفال الذين فروا إلى الأهوار ولا يزالون عالقين هناك؟ هل هم أساساً في أهوار العمارة والحمار، وغير قادرين على العبور إلى الحويزة عبر طريق العمارة – القرنة؟ كم عدد المتمردين والمقاتلين هناك”؟
وتساءلت كذلك عن الحاجات الإنسانية لسكان الأهوار، ومستويات سوء التغذية داخل وخارج الأهوار، وما هي الأدلة على زيادة مستويات المرض، وهل تلوث مياه الأهوار بسبب ضخ مياه الصرف الصحي فيها، وهل هناك أي دليل على أن المياه يتم تسميمها عمداً؟
واستفسرت إلى أي مدى ذهبت إعادة توطين قرى الأهوار منذ أن وافقت الجمعية الوطنية العراقية على الأمر في ربيع هذا العام؟ كم عدد القرى التي دمرت؟ هل هناك أي مؤشر على المكان الذي أخذ إليه القرويون الذين تم نقلهم من قراهم؟
ثم ما هي درجة النجاح التي تحققها السلطات العراقية في مخططاتها لتجفيف الأهوار؟ وهل هذا جزء من مخطط النهر الثالث أم أنها عملية مصممة خصيصاً لتجفيف تلك المناطق التي تجري فيها مقاومة لبغداد من أجل قمع تلك المقاومة؟
تحذير من إضفاء الطابع الشيعي
لكن لخبراء قسم البحوث والتحليل في وزارة الخارجية البريطانية رأي آخر يختلف تماماً مع الطابع الطائفي الذي كانت تتسم به مراسلات اللجنة الوطنية العراقية، إذ تعتقد دائرة الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية أن إضفاء الطابع الشيعي على الجنوب العراقي والإفراط في الحديث عنه سيشكل خطراً على السياسة الخارجية البريطانية، وسيثير النعرات والعداء الطائفي في العراق، مؤكداً ان الانتفاضة التي اندلعت في فبراير (شباط) عام 1991 في الجنوب لم تكن انتفاضة شيعية، بل إن عدداً من قادتها كانوا من ضباط الجيش العراقي ومن أهل السنّة، علماً أن الانتفاضة أخذت طابعاً شيعياً وعرفت بالانتفاضة الشعبانية آنذاك.
وجاء في الوثيقة ما نصه، “آلمني أننا في خطر التأكيد على الطابع الشيعي للجنوب العراقي أكثر من اللازم، مما يساعد في تأجيج المخاوف من أننا نعمل من أجل تقسيم العراق ونميل إلى استعداء السنّة العراقيين الذين أخبرهم صدام حسين أن هيمنتهم على البلاد ستنتهي بسقوطه، ويجب أن نتذكر أن عدداً من قادة الانتفاضة في الجنوب خلال فبراير 1991 كانوا من ضباط الجيش السنّة، وقد يكون بعض هؤلاء يعملون في الأهوار، ويجب أن نتذكر أيضاً أن البصرة والزبير في الجنوب لديهما أيضاً مجتمعات سنيّة كبيرة، والمناطق الواقعة شمال خط العرض 32 بها مجتمعات شيعية كبيرة، ليس فقط في كربلاء والمناطق الواقعة جنوب ديالى إلى الشرق من بغداد، ولكن أيضاً في العاصمة نفسها، وهناك مجتمعات كردية وشيعية كبيرة جداً في بغداد، فلقد عانى السنّة والشيعة على حد سواء من بطش أجهزة صدام حسين الأمنية، كما تعرض الشيعة أخيراً إلى القمع خلال ممارسة تقاليدهم الدينية”.
كما تتطرق الوثيقة إلى دور الصحافة الغربية السلبي في التركيز على طائفية القضية العراقية، وتابعت “ندرك أن الصحافة الغربية التي تبحث عن التبسيط ملزمة بالحديث عن حماية الشيعة والجنوب الشيعي، لكن هذا التبسيط المفرط لا يساعد قضيتنا في الخليج وأجزاء أخرى من العالم العربي بسبب المخاوف العربية من التشيع القومي الإيراني، ويساورنا القلق إزاء الذين يعانون انتهاكات صدام حسين لحقوق الإنسان ضد سكانه، سواء كانوا من السنة أو الشيعة أو الكلدان أو التركمان، والمثال الأكثر بغضاً والذي تم لفت انتباه الأمم المتحدة إليه أخيراً كان في جنوب العراق، وبالنظر إلى رفض صدام لمراقبي الأمم المتحدة هناك فإننا نستخدم الطائرات”.
الصحاف يرد
وتخبرنا الوثيقة الآتية التي تحمل عنوان “مشروع النهر الثالث في العراق” عن تحرك وزارة الخارجية العراقية لدحض تقرير فان دير ستول الذي يدعي أن مشروع النهر الثالث في العراق سيؤدي إلى كارثة بشرية وبيئية، فقد كان يترأس الخارجية العراقية آنذاك الوزير محمد سعيد الصحاف الذي تسلم في ما بعد وزارة الاعلام عند احتلال العراق 2003.
وأوضح الرد أن “الغرض من القناة التي تم إنشاؤها بين نهري دجلة والفرات هو توجيه مياه الصرف الملوثة إلى البحر بدلاً من السماح لها بالتسرب إلى النهرين والأهوار، مما يتسبب في أضرار بيئية”، ويضيف الصحاف أن التقرير المتحيز الذي قدمه فان دير ستول هو ذريعة استخدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لتبرير قرارهم بمنع الطيران فوق الجنوب.
وتشير الدراسات إلى أن العراق يعتمد “على التدفقات الأساس من المصدر التركي لنهري دجلة والفرات وحزمة روافد تغذي نهري دجلة وشط العرب من إيران، والتي يصل مجموعها في أفضل السنوات إلى 72 مليار متر مكعب سنوياً، بينما يستقبل العراق الآن أقل من 41 مليار متر مكعب سنوياً”.
ويتوزع سكان الأهوار وفق الظروف المعاشة إلى صنفين، الأول رعاة الجواميس الذين يجيدون حياكة أنواع المفارش والحصير المصنوعة من القصب ويطلق عليهم اسم “المعدان”، أما الصنف الثاني فهم مزارعون وتشكل الزراعة أساس اقتصادهم، كما تعتمد بعض الأسر على صيد السمك والطيور الحرة.
وينتشر الصابئة المندائيون في المناطق الجنوبية من العراق والأهوار، حيث يشكوا الناس هناك ندرة المياه وسوء جودتها، كما يمارسون مهنة صوغ الذهب والفضة والحدادة وصناعة أنواع المشاحيف الخشبي.