في مثل هذا الوقت من عام 1955 تنازل ملك كمبوديا “نوردوم سيهانوك” عن عرشه لأبيه الملك “نورودوم سوراماريت”، ثم أعادها عام 2004 عندما تنازل عن عرشه لابنه الأكبر “نوردوم سيهاموني” وبين هذين التاريخين تولى سيهانوك رئاسة بلاده مرتين.
ظل الرجل في طليعة السياسة الكمبودية على مدى نصف قرن حافل بالأحداث المفصلية، كحرب فيتنام والسنوات الدموية للخمير الحمر، وفي الواقع كان تاريخ سيهانوك الشخصي مضطربًا تقريبًا مثل تاريخ بلاده، فقد دعم أنظمة مختلفة ونُفي من البلاد، لكنه في كل مرة عاد فيها كان يلقى ترحيبًا حارًا من شعبه.
ما قصة نوردوم سيهانوك؟
ولد نورودوم سيهانوك في “بنوم بنه” في 31 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1922، وهو ابن الملك نورودوم سوراماريت والملكة كوساماك.
وكانت كمبوديا آنذاك تحت الحكم الاستعماري الفرنسي، وقد تلقى تعليمه في مدارس فرنسية في سايغون وباريس، ونَصّبت حكومة فيشي التي سيطر عليها النازيون في فرنسا سيهانوك ملكًا على كمبوديا وهو في الـ 18 من عمره خلفًا لجده مونيفونج في عام 1941، متجاوزةً والده على أمل أن يتم التلاعب به بسهولة.
وسرعان ما ثبت أنهم على خطأ، فقد صار الملك الجديد زعيمًا وطنيًا، وقاد حملة دولية بعد الحرب العالمية الثانية من أجل نيل الاستقلال الكامل عن فرنسا بعد نحو قرن من الاستعمار، وهو ما حدث في عام 1953 دون إراقة دماء، وبعد ذلك بعامين تنازل سيهانوك عن العرش لصالح أبيه وتفرغ للسياسة حيث أصبح رئيسًا للوزراء ووزيرًا لخارجية بلاده.
وبعد وفاة والده عام 1960، تُوج سيهانوك ملكًا للمرة الثانية، وتميزت السنوات العشر الأولى من حكم سيهانوك باستقرارٍ قلما نعمت البلاد بمثله منذ ذلك الحين، وتُوصف تلك الحقبة بالعصر الذهبي.
ووقتها قاد الرجل كمبوديا بنجاح نحو مسار محايد، ولكن مع تصاعد الحرب في فيتنام أصبح سيهانوك أكثر انتقادًا لأمريكا، متهمًا القوات الفيتنامية الجنوبية المدعومة من واشنطن بشن غارات متكررة على الأراضي الكمبودية.
وقد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في عام 1965 عندما قُتل كمبوديون في حرب فيتنام، وقال سيهانوك لـ بي بي سي في ذلك الوقت: “إن المأساة حدثت بسبب الإمبريالية الأمريكية”.
في غضون ذلك، اتهمت واشنطن سيهانوك بالسماح للقوات الفيتنامية الشمالية بالمرور عبر بلاده.
الخمير الحمر
في مارس/آذار من عام 1970، وبينما كان سيهانوك يزور الاتحاد السوفيتي، استولى الجنرال لون نول رئيس الوزراء الكمبودي آنذاك، على الحكم بدعم أمريكي، ودفع هذا الانقلاب سيهانوك للذهاب إلى المنفى في الصين، واتخاذ الخطوة الخطيرة المتمثلة بتحالفه مع الخمير الحمر، وهي جماعة ماوية متطرفة بقيادة سالوت سار، الذي غير اسمه لاحقًا إلى بول بوت.
بدأ الخمير الحمر في السيطرة على المزيد والمزيد من الأراضي في شمال كمبوديا، وحتى أنَّ سيهانوك صُوّرَ وهو يقف مع مجموعة من المتمردين في “المنطقة المحررة” في عام 1973، لكنه سرعان ما ندم على اتفاقه مع الخمير الحمر، فقد طردوا لون نول في عام 1975، وسيطروا على كمبوديا بأكملها، وأطلقوا عملية إبادة جماعية أسفرت عن مقتل أكثر من مليون شخص.
وسُمح لسيهانوك بالعودة إلى البلاد وظل من الناحية الفنية رئيسًا للدولة، لكنه قضى غالبية فترة حكم الخمير الحمر التي استمرت 4 سنوات تحت الإقامة الجبرية في القصر الملكي في بنوم بنه.
ولم يتمكن رغم ما كان يتمتع به من حنكة سياسية من منع المذابح التي شهدتها كمبوديا خلال حكم الخمير الحمر، وهي المذابح التي لم يسلم منها سيهانوك نفسه إذ فقد خمسة من أبنائه، وما لا يقل عن 15 حفيدًا.
ويقال إن سيهانوك تمكن من النجاة من بطش الخمير الحمر بفضل الصين -التي كانت أقوى داعميه- والتي أرادت بقاءه على قيد الحياة.
وفي وقت لاحق، قال سيهانوك إنه لم يكن على علم بتجاوزات الخمير الحمر التي شملت قتل حوالي مليون كمبودي.
الغزو الفيتنامي
وعندما قام الفيتناميون بغزو وتنصيب حكومة موالية لهم في كمبوديا في أوائل عام 1979، هرب سيهانوك إلى المنفى في الصين حيث مكث فيها وفي كوريا الشمالية 13 عاما.
وخلال العقد التالي، عمل سيهانوك من قواعده في الصين وكوريا الشمالية على طرد الفيتناميين من كمبوديا.
ورفض فض التحالف مع الخمير الحمر الذين ظلوا يحتفظون بقوة عسكرية كبيرة وقاتلوا إلى جانب الملكيين ضد الحكومة المدعومة من فيتنام بقيادة هون سن.
العودة
وفي عام 1990، انسحب الفيتناميون من كمبوديا، وكان سيهانوك في قلب المفاوضات المعقدة التي شارك فيها الملكيون والخمير الحمر وهون سين رئيس الوزراء المدعوم من فيتنام، لتشكيل حكومة جديدة وذلك بعد التوصل إلى اتفاق سلام توسطت فيه الأمم المتحدة.
وفي عام 1991 تم تعيين سيهانوك رئيسًا، ثم بعد ذلك بعامين ووسط التقلبات والانعطافات العديدة في السياسة الكمبودية، تُوج للمرة الثالثة ملكًا حتى تنازله عن العرش في أكتوبر/تشرين الأول عام 2004 بسبب اعتلال صحته.
كان سيهانوك قائدًا ماهرًا وغيَّر ولاءاته كثيرًا، لكنه حاول دائمًا الحفاظ على وحدة بلاده ومنع التهامها من قبل القوى الكبرى.
وفي الانتخابات العامة عام 1993، فاز حزب فونسينبيك الملكي برئاسة نجل سيهانوك الأمير نورودوم راناريده بأكبر عدد من المقاعد، لكن هون سين رفض التنازل عن السلطة وتم الاتفاق على شراكة حاكمة بينه وبين الأمير راناريده.
وفي السنوات اللاحقة، ظل الرجلان في طليعة السياسة في كمبوديا، وغالبًا ما كانا خصمين لدودين.
وقبل تنازله عن العرش في عام 2004 لنجله نوردوم سيهاموني بسبب اعتلال صحته، كان سيهانوك محبطا بسبب الخلافات السياسية التي لا تنتهي في بلاده، فقضى معظم وقته في الصين وكوريا الشمالية إذ كان صديقًا للزعيم الكوري الشمالي المهووس بالسينما كيم جونغ إيل.
“الولد الشقي“
اشتهر سيهانوك بأسلوب حياته الباذخ، وقد أتقن ملك كمبوديا الراحل ثلاث لغات -الخميرية والفرنسية والإنجليزية- وطور ذوقًا رفيعًا في الحياة.
تزوج سيهانوك 6 مرات وله ما لا يقل عن 14 من الأبناء، وكان عازف ساكسفون وكاتب أغاني وصانع أفلام وعاشقًا للمطبخ الفرنسي والنبيذ، كما كان محبًا للنساء، وقد اختار أخيرًا البقاء مع زوجته السادسة مونيك، وهي إيطالية كمبودية تزوجها عام 1952.
وقال ذات مرة: “الكمبوديون كلهم أولاد أشقياء، وهذا يشملني”.
ومع ذلك، كان قائدًا ماهرًا ولاعبًا سياسيًا غيَّر ولاءاته كثيرًا، ولكنه حاول دائمًا الحفاظ على وحدة بلاده ومنع التهامها من قبل القوى الكبرى.
الفصل الأخير
في سنواته الأخيرة غالبًا ما كان غائبًا عن بلاده للخضوع للعلاج الطبي من السرطان وسلسلة من السكتات الدماغية الخفيفة.
ربما كان سيهانوك في تلك الفترة ضعيفًا ومريضًا وفقد الكثير من نفوذه السياسي، لكنه لم يفقد دعم أبناء شعبه، الذين واصلوا تزيين شوارعهم ومنازلهم بصور ملكهم.
وتوفي سيهانوك بنوبة قلبية في أحد مستشفيات العاصمة الصينية بكين في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2012 عن عمر ناهز 89 عاما، وكان الملك الراحل قد كتب في عام 2009 بعد نجاته من السرطان 3 مرات، رسالة قال فيها: “إن طول العمر يثقلني بحمل لا أطيقه”.