في وقت تحرز خطوات المرحلة النهائية للعملية السياسية لحل الأزمة السودانية تقدماً مطرداً بانعقاد ورشة اتفاق “سلام جوبا” باتجاه الحل النهائي، وسط أجواء مشحونة وتعدد الرؤى، تلتئم في الوقت ذاته ورشة الحوار السوداني بالقاهرة لتضم المناهضين للاتفاق الإطاري، وعلى رأسهم الكتلة الديمقراطية، تحت شعار “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع”.
فما هي مآلات الحل السياسي وسط هذا الصراع المحتدم والحراك الدولي والإقليمي المحموم؟
مخاوف التراجع
في الأثناء برزت مخاوف حقيقية حيال موقف المكون العسكري من الاتفاق الإطاري على ضوء تصريحات عدة تلمح بعدم كفاية الوفاق الذي تمثله القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري كمخرج توافقي للأزمة السودانية المستفحلة منذ انقلاب الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
واعتبر عضو مجلس السيادة الانتقالي الفريق ركن شمس الدين كباشي أن التوافق الذي تمثله بعض القوى السياسية الموقعة على الاتفاق لا يعتبر كافياً، وقال “نريد حداً أدنى معقولاً ومقبولاً لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي بحيث يتمتع الاتفاق بتوقيع الحد الأدنى من القوى السياسية”، ودعا كباشي خلال مخاطبته مواطني مدينة كادوقلي الموقعين على الاتفاق الإطاري إلى فتح صدورهم وقبول الآخرين، لافتاً إلى أنه إذ كان ليس ممكناً أن يكون هناك وفاق كامل “فيجب أن يكون الاتفاق السياسي متوافقاً عليه بدرجة معقولة للناس، لأن المجموعة السياسية والعسكرية الموجودة فيه الآن، ونقولها بكل صراحة، ليست كافية لحل المشكلة”.
هل يُجمد “الإطاري”؟
ومع تجديده التأكيد بخروج القوات المسلحة من العملية السياسية بوصفها شأناً مدنياً ووقوفها على مسافة واحدة من مختلف المبادرات، أكد كباشي أنها لن تمضي قدماً في الاتفاق الإطاري ما لم تأت قوى أخرى معقولة ومقبولة، لأن الحل السياسي الذي ينتظر الخروج به سواء كان دستوراً أو خلافه ستقع مسؤولية حمايته في النهاية على عاتق القوات المسلحة.
وأضاف “لا يمكن أن تحضروا إلينا دستوراً وضعه 10 أشخاص ليطلب من القوات المسلحة حمايته”، منوهاً إلى أن المطلوب هو دستور انتقالي متوافق عليه للقيام بحمايته وفق مسؤوليتها القانونية في تأمين سيادة حكم القانون والحكم المدني الديمقراطي والأمن الداخلي والمهددات الخارجية للبلاد، قائلاً “نسأل الله أن يهدي السياسيين”.
وكان نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو رحب بالبيان الختامي لـ “مؤتمر جوبا لسلام السودان” واستكماله، معتبراً إياه خطوة مهمة في طريق إكمال القضايا الخمس للمرحلة النهائية للعملية السياسية.
وجدد دقلو في تغريدة على “تويتر” التزامه بتنفيذ الاتفاق الإطاري التزاماً كاملاً لا لبس فيه، كونه يمثل نافذة الأمل لشعب السودان في هذا الوقت الحرج، مؤكداً العمل بأقصى جهد للإسراع بخطوات الوصول إلى اتفاق سياسي نهائي يؤسس لسلطة مدنية تعبّر عن تطلعات الشعب وتقود المرحلة الانتقالية وصولاً إلى انتخابات عامة حرة ونزيهة.
وأكد نائب رئيس مجلس السيادة حرصه على تواصل الجهود لاستصحاب كل فاعل يرغب في استقرار البلاد وأمنها، وتحولها للحكم المدني الديمقراطي، بخاصة الذين لم يشاركوا في المؤتمر من الأطراف الموقعة على اتفاق السلام.
مبعوثون دوليون
ودفعاً لمساعي تقريب وجهات النظر وتحريك عملية المسار السياسي لتحقيق الانتقال الديمقراطي، يصل البلاد غداً الأربعاء ستة مبعوثين دوليين في زيارة رسمية تستغرق يومين، ويضم الوفد مبعوثي كل من الولايات المتحدة وفرنسا والنرويج وبريطانيا والمانيا إلى جانب مبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي آنيت ويبر.
وبحسب وكالة السودان الرسمية للأنباء (سونا) سيلتقي وفد المبعوثين المسؤولين في المجلس السيادي والمكونات المدنية والسياسية وبعثة الأمم المتحدة للسلام ومنظمات الأمم المتحدة العاملة في السودان للوقوف على برامج العون الإنساني التي تدعمها بلدانهم عبر الوكالات وبرامج الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
وفي هذا الوقت اتهم القيادي في “قوى الحرية والتغيير” رئيس الحركة الشعبية شمال (التيار الثوري) ياسر عرمان “فلول النظام السابق بالتغلغل داخل هياكل الدولة كافة”، معتبراً أن الصراع الحالي ليس بين المدنيين والعسكريين بقدر ما هو مع الدولة العميقة بمن فيها الموجودون في القوات النظامية.
ووصف عرمان خلال ندوة حول العملية السياسية الجارية أن منسوبي النظام السابق موجودون ولديهم إمكانات، وأن زعماءهم في السجن يتحدثون معهم عبر “واتساب”.
استبعاد واحتمالات
وفي السياق استبعد رئيس “حزب الأمة القومي” فضل الله برمة ناصر أن تمثل تصريحات قادة الجيش الأخيرة حول عدم كفاية الاتفاق الإطاري للحل السياسي انسحاباً أو تلويحاً بذلك، مؤكداً التزامهم في “الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) حتى الآن بالاتفاق الذي وقعوا عليه مع شركائهم العسكريين، ونفى ناصر أن يكون تحالف “الحرية والتغيير” قد وصله بصفة رسمية ما يفيد بانسحاب المكون العسكري، مجدداً الدعوة إلى الجميع للانضمام للاتفاق.
واعتبر المحلل السياسي فتح الرحمن عبدالمجيد التحركات الدولية المكوكية المكثفة التي تشهدها الساحة السياسية السودانية، بما فيها أجهزة مخابرات، مؤشراً إلى قلق وانزعاج القوى الدولية من تباطؤ الحل السياسي للأزمة، معتبراً أن انسحاب وساطة رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان بين المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية في وقت سابق كانت مؤشرات أولية ليأس المكون العسكري من تطوير الاتفاق الإطاري، وتبعتها تصريحات نائب رئيس الكتلة الديمقراطية رئيس حركة العدل والمساوة جبريل إبراهيم إبان زيارته مدينة نيالا في جنوب دارفور، مبشراً فيها بمشروع اتفاق جديد يجمع بين كل المبادرات والاجتهادات السودانية التي طرحت من دون عزل أحد.
وربط المحلل السياسي بين تصريحات البرهان في ولاية نهر النيل، إذ أشار بوضوح إلى أن الجيش لا يريد المضي في الاتفاق الإطاري مع جهة واحدة، وحديث الفريق كباشي الأخير بأنهما يتفقان برؤية واحدة تنطوي على نية للتراجع أو تجميد الحل السياسي على أساس الاتفاق الإطاري.
وأضاف عبدالمجيد، “على رغم عدم نضوج توافق سياسي كبير كماً لكن القوى النوعية داخل العملية السياسية الآن من شأنها أن تضع العسكريين في مواجهة المجتمع الدولي حال رفضهم أو تراجعهم”، مشيراً إلى أن الدفع الدولي بضرورة حدوث تحول ديمقراطي كامل في السودان ينطلق من ارتباط مصالح الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة بأهمية هذا التحول في ظل تشابكات وتقاطعات الوضع العالمي الراهن.
التعويل على الدعم الدولي
ووسط هذه الأجواء أوضح أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية والمحلل السياسي البروفيسور صلاح الدين الدومة أنه يبدو أن هناك تفاوتاً في الرؤى داخل المكون العسكري نفسه لوجود رؤية داعمة وأخرى متحفظة أو غير راغبة بالاستمرار في الحل السياسي عبر تنفيذ الاتفاق الإطاري، ولم يستبعد الدومة محاولات تراجع شق من المكون العسكري عن الاتفاق الإطاري ووعد الفريق البرهان بتسليم السلطة إلى المدنيين، مستخدمين الأسلوب والأدوات السابقة الفاشلة نفسها في إجهاض مشروع الانتقال والتحول المدني الديمقراطي، لكنه رأى في الوقت عينه أنهم أمام اتفاق ملزم لا مناص لهم من الالتزام به بعدما وقعوا عليه أمام كل العالم.
وأوضح فؤاد عثمان القيادي بـ “الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) أمين العلاقات الخارجية السابق بحزب المؤتمر السوداني أن التحالف اتخذ مساراً واضحاً لا لبس فيه منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، وأصدر وثيقة سياسية في فبراير 2022 لإنهاء الانقلاب “ولها وسائلها السياسية السلمية المتمثلة في مواصلة العمل الجماهيري بالشارع وضمان الدعم والمناصرة الإقليمية والدولية وعزل الانقلابين وعملية سياسية تنهي الانقلاب وتبعد الجيش من السياسة وإقامة سلطة مدنية بالكامل”.
وأشار عثمان إلى أن التحالف يعي أن الطريق إلى إنهاء الانقلاب ليس سهلاً، بل هو وعر ومملوء بالأشواك والمنعطفات لكنه سيحقق هدفه بكل الوسائل المتاحة والمجربة، مؤكداً أن الوثيقة الدستورية ماضية نحو الاتفاق النهائي.
وقال إن وصول المبعوثين الدوليين الستة إلى الخرطوم يأتي في السياق الداعم للاتفاق، منوهاً إلى أن المجتمع الدولي أعلن بوضوح لا يشوبه لبس أو غموض دعمه الاتفاق الإطاري الموقع مع المكون العسكري في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2022.
اتفاق سياسي
ووقع كل من المكون العسكري و”قوى الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) وعدد من الأحزاب والتنظيمات والتجمعات المهنية والحركات المسلحة في ديسمبر 2022 اتفاقاً سياسياً إطارياً مبدئياً يعقبه اتفاق نهائي يمهد الطريق نحو تشكيل حكومة مدنية وإنهاء الأزمة المستفحلة في السودان منذ انقلاب قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان على السلطة المدنية الانتقالية عقب إطاحة نظام الرئيس عمر البشير عام 2019.
وكانت المرحلة النهائية للعملية السياسية انطلقت بورشات القضايا بمؤتمري تفكيك نظام الـ 30 من يونيو (حزيران) الذي اختتم أعماله في الـ 12 من يناير (كانون الثاني)، ومؤتمر “اتفاق جوبا للسلام” بمشاركة واسعة وتمثيل مقدر للمكونات السياسية والاجتماعية وأصحاب المصلحة والخبراء ومتخصصين من داخل السودان وخارجه، فيما بقيت ضمن القضايا الخمس المؤجلة قضية شرق السودان والعدالة الانتقالية والإصلاح الأمني.
المصدر: إندبندنت عربية