– في كتاب “لقد كانت تُمطر بغزارة” (It’s been pouring)، تروي راشيل بابو الصعوبات التي واجهتها هي ونساء أخريات جراء معاناتهنّ من اكتئاب ما بعد الولادة، وكشفت عن الصراع المؤلم والسري الذي تختبره العديد من النساء بعد الإنجاب.
وخلال الأسابيع التي تلت إنجاب المصورة راشيل بابو لابنها إيلان، في صيف 2013، راقبت نفسها. وبحثت عن علامات القلق، أو الأرق، أو الشعور بالوحدة لديها، وعن ضباب الدماغ الذي عانت منه لأشهر عدة بعد ولادة ابنتها زوهار قبل ثلاث سنوات، الأمر الذي صعّب عليها العمل يومًا بعد آخر.
وكانت تُذكّر نفسها على نحو متكرّر أنها بخير، مع مرور الأيام في العاصمة الألمانية برلين، حيث انتقلت إليها من مدينة نيويورك الأمريكية مع زوجها الموسيقي ميكا، وزوهار، أثناء حملها بطفلهما الثاني.
وبعد ولادة إيلان، التقطت بابو صورًا لمحيطها، على جري عادتها، وسلطت الضوء على أفق يُضيئه البرق، وأوراق صفراء تغمرها مياه الأمطار، ومولودها الجديد ينام في ملابس نوم مخططة، وملامحه الصغيرة يسهر عليها ضوء القمر. لكنّ القلق تسلّل إلى رسائلها النصية التي كانت تتبادلها مع العائلة والأصدقاء في الخارج، وبدا شعورها بالاستقرار الذي اكتسبته بجهد كبير، هشًّا.
وتتذكّر بابو خلال مقابلة بمقهى في بروكلين أنها واجهت عقبة صغيرة. وقالت: “فجأة، بتّ قلقة بشأن أمر ما أبقاني مستيقظة طوال الليل. وفي الليلة التالية، قلت لنفسي، ’حسنًا، من الأفضل أن أنام الليلة‘”. لقد كان سبب القلق بسيط، يتمحور حول أي روضة هي الأفضل لابنتها، لكنّها لم تنم في الليلة التالية أيضًا. وأوضحت: “أحسست وكأن هذا الشعور يتفاقم. لم أتمكن من السيطرة عليه”.
ويمكن لبابو أن تسمّي ما كانت تشعر به هذه المرة: اكتئاب ما بعد الولادة، الذي يصيب نحو 1 من كل 7 نساء في الولايات المتحدة ويمكن أن يترك أثرًا كبيرًا في حياة النساء الحوامل لأشهر أو سنوات عديدة. وفي المرة الأولى، بعد ولادة زوهار، لم تفهم بابو ما كانت تختبره حتى وضع أحدهم مصطلحًا على ما تمر به. ولم تكن قد تعاملت مع الاكتئاب من قبل واعتبرت نفسها سعيدة بشكل عام، وراضية عن حياتها.
وقالت: “ثم أصابني (اكتئاب ما بعد الولادة). وما أن أصابني تدهورت حالتي بسرعة كبيرة، في الواقع”. وعانت للحفاظ على عملها المستقل، مصدر دخلها الرئيسي، واعتقدت أنها قد تحتاج إلى مساحة أو مساحات خضراء أكبر ممّا قد تقدّمه لها مدينة نيويورك. فانتقلت وعائلتها إلى وودستوك، التي تبعد ما يزيد قليلاً عن 100 ميل شمال المدينة، لكن ذكرياتها، التي وثقتها بصور حينها كانت “مخيفة”، على حد قولها.
وراهنًا، بعد مرور سنوات عدة، نشرت بابو كتاب التصوير الفوتوغرافي: “لقد كانت تمطر بغزارة: السر المظلم الذي يلفّ عام الأمومة الأول”، الذي تسرد فيه تجربتها مع اكتئاب ما بعد الولادة من خلال الصور والرسائل النصية، إلى جانب مقابلات مع أمهات أخريات عانين بصمت من هذه الحالة.
وصمة العار والتوقعات
واستمرت فترة الاكتئاب الأولى التي مرّت بها المصوّرة في نيويورك لعام كامل، واستغرقت الثانية التي اختبرتها في برلين الوقت عينه. وبعد فشل العديد من أساليب المعالجة أثناء تواجدها في الخارج، سعت بابو للحصول على مساعدة نفسية وأدوية، وهي الرعاية التي سعت للحصول عليها في المرة الأولى، لكنها لم تستطع تحمل تكاليفها في بروكلين.
وفي أحد الأيام، التقطت صورة لها وانعكاسات لابنها إيلان بعد الاستحمام، ونظراتها التي تنذر بالشر، والتفاصيل الوحيدة الواضحة في المرآة البخارية. وأصبحت الصورة لاحقًا رمزًا لعدم اليقين الضبابي الذي شعرت به ما دفعها حتى تضعها صورة لغلاف الكتاب.
ورغم أن العديد من صور بابو التُقطت بهاتف محمول خلال الأشهر الضبابية الأولى بعد ولادة طفليها، إلا أنّ صورًا أخرى لأمهات أخريات خلال ممارستهنّ لحياتهن اليومية التقطتها لاحقًا، رافقتها نصوص قمن بإرسالها إلى أحبائهنّ في أصعب لحظات مررن بها.
وهذه الصور والرسائل تشكل شهادة معبرة تعكس الألم الجسدي، والألم العاطفي، والانفصال الذي تختبره كثيرات بعد الولادة، لكنهنّ يخفينه خوفًا أو خجلًا. ولفتت بابو إلى أنّ فكرة أن تكون المرأة أماً جيدة متأصّلة بعمق في المجتمع.
وعندها بدأت بابو بإجراء مقابلات مع نساء أخريات، قابلتهنّ بشكل أساسي عبر مجموعة على “فايسبوك” خاصة بالأهل المغتربين في برلين، ولاحظت وجود خيوط مشتركة تربط بين تجاربهنّ، إذ أن كثيرات عانين من صدمة شديدة أثناء الولادة، ولم يشعرن بالارتباط بأطفالهنّ على الفور. كما راودتهنّ الأفكار العنيفة المحظورة، جرّاء القلق الشديد أو الإرهاق العميق.
وشعرت النساء اللواتي تحدثت إليهنّ بالوحدة والعزلة عن أي شخص في حياتهن. وشعرن بالفشل عندما لم يتمكنّ من ممارسة الرضاعة الطبيعية، أو أن يتعافينّ من التمزقات المهبلية الشديدة أو العمليات القيصرية.
وتتذكر بابو النساء اللواتي قابلتهنّ: “كنت هناك لأرفع رؤوسهنّ فوق الماء وأقول لهنّ: سوف تتخطين ذلك”.
ومنح الوقت بابو منظورًا آخر لفترات الاكتئاب التي عانت منها، لكن السنوات التي أمضتها بتجميع محتوى كتابها، جعلتها تستعيد أحلك لحظات حياتها، وحيوات أخريات، مرارًا وتكرارًا. وبقدر امتنانها للتعافي، فقد غيّرتها التجربة بعمق.
ولا يقدم الكتاب حلاً شافيًا وسحريًا، رغم أنّ بابو لم تعانِ من الاكتئاب منذ اختبارها الاكتئاب بعد الولادة الثاني. وقالت إن العديد من النساء اللواتي قابلتهن تحسنّ أو تعافين، رغم أنّ بعضهن عانين منذ ذلك الحين من الاكتئاب ما بعد الولادة مجددًا.
وأوضحت: “يصعب تفسير شعوري، لكني أحسست كأن روح شريرة تمتلكني عندما كنت مريضة، وبدأت تنسحب من جسدي تدريجيًا، إلى أن اختفت في أحد الأيام، واستعدت نفسي مجددًا”.
وعادت بابو وعائلتها منذ ذلك الحين إلى مدينة نيويورك، حيث استأنفت عملها المستقل. ويبلغ عمر طفليها الآن 12 و9 سنوات. ورغم أنها قالت إنها لا تزال تشعر “بثقل الأمومة”، إلا أن ما تشعر به الآن مختلف تمامًا.
وقالت إنّ “حياتي عادت إلى ما كانت عليه، كإمرأة مستقلة تتمتع بحياتها.. عدت إلى نيويورك، وأثبتّ نفسي واستعدت عملي”.
وأضافت: “أريد أن أقول إنني أقوى، لكن من الصعب حقًا أن أقول ذلك بثقة لأن الاكتئاب قاب قوسين أو أدنى”.