عندما بدأت القنابل تتساقط على مطار بيغين هيل العسكري في 30 أغسطس/آب عام 1940، أيقنت ثلاث جنديات من القوى الجوية يعملن هناك أنه يتعين عليهن التصرف.
كانت العريف إلسبيث هندرسون، والرقيب هيلين تورنر، والرقيب جوان إليزابيث مورتيمر متمركزات في القاعدة الجوية جنوب شرقي لندن في ذروة المعركة التي تعرف باسم معركة بريطانيا.
في ذلك اليوم كن في نوبة عمل كمشغلات لجهاز إرسال واستقبال الرسائل (تليكس) في غرفة العمليات. وعندما بدأت الطائرات الحربية الألمانية هجومها، أُمر الجميع بالخروج من الموقع والاحتماء.
لكن الجنديات الثلاث قررن البقاء في مواقعهن، حرصا على حماية زملائهن من الجنود، سواء في مواقعهم على الأرض، أو في سلاح الطيران ويحلقون في السماء.
كانت نساء عديدات من سلاح الجو النسائي المساعد متمركزات في غرف العمليات التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني
وبينما كانت القنابل تدك المبنى، بقيت العريف هندرسون في مكانها، محتمية تحت طاولة جهاز التليكس، تنتظر أن يتم إصلاح خطوط الهاتف التي انقطعت.
وواصلت الرقيب تورنر العمل أيضا، بينما كانت الرقيب مورتيمر مستمرة بنقل الرسائل على لوحة مفاتيح الجهاز قبل أن تندفع إلى الخارج حاملة مجموعة من الأعلام الحمراء، لتحدد بها أماكن القنابل التي سقطت على المطار، ولم تنفجر.
قتل في تلك الغارة 39 من الجنود البريطانيين. ومنحت كل من النساء الثلاث الميدالية العسكرية للشجاعة في مواجهة العدو، وهي خطوة كانت موضع تساؤل في بعض الأوساط.
وتوضح هيذر ريدفيرن، ابنة العريف هندرسون السبب قائلة “كان الأمر مثيراً للجدل لأن الميداليات العسكرية حينها كانت تعتبر للرجال فقط”.
كما لم يكن الحصول على الميدالية مريحا تماما لإحدى متلقياتها.
تقول ريدفيرن عن والدتها “لقد كانت محرجة من ذلك، ولم تتحدث عنها (الميدالية) كثيرا”.
ويقول جون، زوج هيذر ريدفيرن، موضحا “بالنسبة لها كان الأمر، أنها بينما كانت تحت الطاولة تنتظر لعل خطوط الهواتف تعود إلى العمل، كان مهندسون في الخارج يصلحون خط الهاتف، أي أنهم كانوا جميعا في الخارج أثناء الغارة الجوية – ولم يحصلوا على ميداليات عسكرية – وهي المنتظرة تحت الطاولة احتمال عودة خطوط الهاتف إلى العمل حصلت عليها”.
“لقد كانت محرجة جراء ذلك، لكن لم يكن هناك سبب لشعورها هذا”، كما يضيف.
معركة بريطانيا
أمضت العريف هندرسون ستة أشهر في العمل في القاعدة كجزء من سلاح الجو النسائي المساعد. وكانت قد وصلت إلى القاعدة في مارس/آذار عام 1940 بعد أن التحقت بالجيش في ديسمبر/كانون الأول، وقد أدركت أن عليها فعل ذلك خلال مناسبة عائلية.
وتقول ابنتها “كانت قد حضرت حفل زفاف ابن عمها، وشعرت أنه من غير الأخلاقي أن تتابع، وهي المرأة العازبة، الاستمتاع بحياة مدنية، بينما ابن عمها، الذي تزوج للتو، وأصبح مسؤولا عن زوجة، انضم إلى الجيش- لذلك انضمت في اليوم التالي”.
واليوم، تشكل حياة وعمل نساء مثل العريف هندرسون أساس معرض جديد في المتحف التذكاري في بيغين هيل.
كان سلاح الجو النسائي المساعد إبان ذروة نشاطه يضم 182 ألف جندية، يقمن بمجموعة كبيرة من الأنشطة للمساعدة في المجهود الحربي في أنحاء المملكة المتحدة وخارجها، من تقديم تقارير الأحوال الجوية ونشر بالونات ضخمة كانت تستخدم لعرقلة طيران العدو، إلى إصلاح الطائرات واعتراض الرموز والشيفرات.
آن غالي
انضمت آن غالي إلى سلاح الجو النسائي المساعد عندما كان عمرها 18 عاما، وهي من مواليد عام 1923
في يونيو/حزيران عام 1941، وصلت آن غالي البالغة من العمر 18 عاما إلى إنجلترا، حيث عملت في تتبع الطائرات في السماء بتحريك العلامات التي تشير إلى وجودها على خرائط عملاقة.
في ذلك الوقت كانت الغارات الألمانية قد أسفرت عن تسوية أبنية بيغين هيل بالأرض، لذلك تم نقل غرف العمليات إلى قرية كيستون القريبة.
وتقول آن غالي التي أصبح عمرها اليوم 99 عاما “كانت هناك تلك المنازل الجميلة التي سيطرت عليها القوات الجوية، وكان كل ما فيها هو حمام وأسرة حديدية، ولم يكن هناك أي أثاث”.
كانت غرفة العمليات التي عملت فيها غالي تحتل القاعة الرئيسية في مبنى بلدية القرية. وفي وقت لاحق نقلت إلى ما كانت قاعة الرقص داخل قصر قريب، وهناك كانت غالي تمضي نوبات عمل لثماني ساعات في تتبع تحركات الطائرات.
كانت كيستون أكثر أمانا من بيغين هيل، ولكن ذات مساء شاهدت غالي سربا ضخما من الطائرات الألمانية يحلق فوقها متجها إلى لندن.
وتقول “تلك الليلة كانت الليلة الوحيدة التي شعرت فيها بالخوف. فكرت: لقد قضي الأمر”.
وتضيف “لم نكن تحت الأرض، كنا على مستوى الأرض، وكانت الضوضاء والريح العاتية الناجمة عن الطائرات مخيفة للغاية”.
وإضافة إلى التركيز على عمل النساء في السلاح الجوي النسائي المساعد، يبحث المعرض في جهود النساء في المساهمة في وحدة النقل الجوي المساعد.
وقد تشكلت الوحدة المدنية في بداية الحرب، لنقل طائرات جديدة أو أخرى مصلحة أو تالفة بين المصانع ووحدات الصيانة وأسراب الخطوط الأمامية.
جاكي موغريدج
في البداية، كان الرجال فقط يعتبرون مؤهلين لمثل هذا العمل، ولكن مع زيادة الطلب، سُمح للنساء بالانضمام إلى الوحدة، ووصل عددهن إلى 168 امرأة من بين 1250هو العدد الإجمالي للعاملين في الوحدة.
كانت جاكي موغريدج قد انتقلت إلى المملكة المتحدة من جنوب أفريقيا لتحقق حلمها في أن تصبح قائدة طائرة تجارية، ولكن في منتصف فترة دراستها للطيران، وكان عمرها حينها 18 عاما، اندلعت الحرب العالمية الثانية.
وحين أخبرتها والدتها بأن عليها أن تعود إلى المنزل الآن، كان ردها “لا، سأطير، لقد كتبت إلى سلاح الجو الملكي البريطاني لتقديم خدماتي في الحرب. سأقوم بواجبي”، كما توضح ابنتها كاندي آدكنز.
وبعد أن رفضها سلاح الجو الملكي البريطاني بسبب جنسها، انضمت إلى سلاح الجو النسائي المساعد، وتم إرسالها إلى محطة الرادار.
وتقول الابنة إن أمها “كانت تصف كيف تكون هناك نقاط صغيرة، وثم تجتمع معا وتراقبها … ثم تختفي إحداها. ثم تنتظر بفارغ الصبر لترى ما إذا كانت النقطة الصغيرة تتجه نحو ألمانيا لتعرف إذا كان هناك خسائر لبريطانيا”.
وتقول آدكنز “هكذا راقبت معركة بريطانيا”.
ومع إتاحة وحدة النقل الجوي المساعد لها فرصة للتحليق في السماء، انضمت موغريدج إليها لتصبح أصغر عضو في الوحدة، وحلقت عبر المملكة المتحدة بعدة أنواع من الطائرات بما في ذلك سبيتفاير، وهاوكر هوريكين، وهافيلاند موسكيتو، وأحيانا كانت تقوم بخمس أو ست رحلات في اليوم.
تم تزويد أعضاء وحدة النقل الجوي المساعد بكتيبات تضم ملاحظات للطيارين لتعريفهم بالطائرات المختلفة التي قادوها
وتقول آدكنز “لقد قادت 83 نوعا من الطائرات الحربية – كان هناك حينها 147 نوعا”، مضيفة أن سبيتفاير كانت المفضلة لدى والدتها، “لأن الطائرة كانت كأنها سيدة ارستقراطية وحساسة للغاية”.
وتشير الابنة إلى أن والدتها كانت تحب تلك الفترة من حياتها كثيرا “كانت تقول إنها كانت أروع فترة، ووصفتها بأفضل سنوات حياتها، لأنها كانت مليئة بالمغامرات، والإثارة، والعيش من دون تخطيط، من دون أن تدري ما الذي ستقوم به في كل يوم”.
قيل إن موغريدج هي أول امرأة تقفز بالمظلة في جنوب أفريقيا، وكانت حينها في السابعة عشرة من عمرها
بالنسبة لعديد من النساء في وحدة النقل الجوي المساعد، كانت نهاية الحرب تعني العودة إلى حياتهن كربات بيوت، لكن موغريدج تابعت مسيرتها المهنية في الطيران.
انضمت إلى احتياطي المتطوعين في سلاح الجو الملكي البريطاني وقادت طائرة سيبر جيت، لتصبح واحدة من أوائل النساء قائدات الطائرات اللواتي تخطين حاجز الصوت. وفي منتصف خمسينيات القرن الماضي، أصبحت أول قائدة طيارة بريطانية تنقل الركاب في رحلات منتظمة.
لكن المسافرين على متن رحلاتها، لم يكونوا يخبرون بأن امرأة هي التي تقود الطائرة.
وتقول آدكنز “لم يكن يسمح لها بالتحدث عبر جهاز الاتصال الداخلي، لأن الركاب كانوا سيخافون إذا عرفوا أن امرأة تحلق بهم”.
ورغم أنها واجهت التمييز الجنسي طوال حياتها المهنية، وكان مرتبها أقل بكثير من زملائها الذكور الذين يؤدون نفس الوظيفة، تقول آدكنز إن والدتها، التي توفيت عام 2004، كانت دائما تسعى إلى نشر فكرة أن المرأة قادرة على القيام بكل شيء، لدى كل من حولها.
وتضيف “لقد ربتنا على الاعتقاد بأن أي شخص يمكنه فعل أي شيء – كما تعلمون، لا حدود سوى السماء. حسنا، أعتقد أنها وصلت إلى ذلك الحد وإلى ما بعده”.
وهذا النوع من السلوك والمواقف هو الذي يأمل المتحف في الترويج له من خلال إقامة معرضه، مع تسليط الضوء أيضا على التاريخ المجهول لبعض النساء اللائي ساهمن في المجهود الحربي.
وتقول مديرة المتحف كيتي إدواردز “من الطبيعي أن الناس يربطون معركة بريطانيا بالطيارين والمهام البطولية المذهلة التي قاموا بها، لكنني اعتقدت أنه سيكون من المهم حقا أيضا سرد قصص النساء العاديات اللواتي ظهرن في أوقات غير عادية”.
وتضيف “سرد تلك القصص مثير حقا، وربما شكلت إلهاما لبعض الشابات للتفكير بما يمكن للمرء فعله”.