أثرت عن الكاتب الفرنسي أونوريه بلزاك علاقات نسائية عديدة وحكايات حب بقدر ما امتلأت رواياته بالشخصيات النسائية اللواتي على تنوع مناطقهن وحالاتهن الاجتماعية وأعمارهن، ثمة من بين المؤرخين من يؤكد أن كل واحدة من بينهن إنما أتت لتحكي عن غرام من غرامياته هو الذي أحبهن من كل الأعمار وفي كل المواقف.
ومع ذلك هناك توجه دائم لدى المؤرخين الأكثر جدية وكاتبي سيرة صاحب “أوجيني غرانده” إلى التأكيد بشكل بالغ التواضع بأن بلزاك لم يعش حقاً سوى العدد الأقل من تلك الحكايات سواء في واقعه أو في خياله.
بل ثمة من يذهب إلى التأكيد بأن حكاية الحب الوحيدة الحقيقية التي عاشها، ستكون على أية حال الوحيدة التي لن تترك لديه مجالاً لتكريس بطلتها برواية أو قصة أو مجموعة من القصص إسوة بما كانت الحال عليه مرات ومرات حين كانت كل حكاية من تلك الحكايات “المفترضة” تنتهي بين دفتي كتاب مقابل لا شيء في الحياة الواقعية نفسها.
ونتحدث هنا بالطبع عن حكايته مع إيفلين هانسكا، تلك السيدة الحسناء التي كانت هي تحديداً التي افتتحت علاقته بها من دون أن تكون راغبة في الأصل أن تعيش معه علاقة ما.
بولندية من كييف
كانت مدام هانسكا المولودة عام 1801 في كييف بأوكرانيا إبنة لإحدى العائلات البولندية الثرية التي كانت مزدهرة في ذلك البلد الذي كان يعيش استعماراً بولندياً. وإيفلين مثل المرفهين والمرفهات من أبناء جلدتها وطبقتها الأثرياء، كانت ذات ثقافة فرنسية رفيعه لا تتثقف إلا بالكتب الفرنسية ولا تعرف في العالم شيئاً خارج ما يدور في فرنسا.
وهي كانت تقيم في فرنسا مع عائلتها ثم مع زوجها التاجر البولندي الثري فننسسلاف هانسكي، حيث تختلط بالأوساط الثقافية والاجتماعية العليا. ولما كانت إيفلين تصغر زوجها بما لا يقل عن 22 سنة، كانت تنظر إلى نفسها كطفلة لا يحق لأحد أن يمنعها من الترفيه عن نفسها واللعب على الأشكال التي ترتئيها.
ومن هنا لم يكن غريباً أن تعمد ذات يوم من شتاء عام 1832 وقد انتهت من قراءة رواية صادرة حديثاً لبلزاك الذي كان على الموضة في ذلك الحين، إلى كتابة رسالة موجهة إلى الكاتب الشهير الشاب تبدي فيها إعجاباً كبيراً بروايته مكتفية في ذيل الرسالة بالتعريف عن نفسها بـ”الغريبة”.
في البداية لم يهتم كاتبنا بالرسالة فهو كان يتلقى كثيراً مثلها ولم يثره استخدام المراسلة لهذه الصفة. فهو كان من الخبرة بالنساء إلى درجة لا يغريه معها التوقف أمام “صبيانيات” من ذلك النوع.
رسالة ثانية
لكن “المجهولة” أو بحسب تعبيرها “الغريبة”، سرعان ما انتظرت قراءتها رواية تالية لبلزاك كي تكتب إليه من جديد، لكنها دافعة الأمور إلى الأمام أكثر هذه المرة. ففي السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام تبعث إلى بلزاك رسالة جديدة تؤكد فيها أنها لا تريد من الكاتب الشهير سوى التفضل بمراسلتها لأن تلك هي هوايتها الأثيرة، فإن كان يوافق على ذلك لن يكون عليه سوى نشر بعض الكلمات المتفرقة على صفحة معينة من صحيفة “الكوتيديان” خلال شهر يناير (كانون الثاني) “لمجرد إعلامها بالموفقة”… “والباقي عليّ” بحسب ما أكدت. وبالفعل تجاوب بلزاك مع تلك المراسلة ليتلقى منها على الفور رسالة ثالثة أجاب عليها قائلاً: “إنني مغرم بك أيتها المجهولة…”.
وكانت تلك الكلمات الثلاثة كافية لاندلاع حكاية الحب بين أونوريه وإيفلين. حكاية شغلت عام 1833 على سبيل البداية لكنها سوف تعيش نحو سبعة عشر عاماً أخرى وستشهد العديد من التطورات وكما أشرنا أعلاه، لن تجعل من “مدام هانسكا” بطلة لأية حكاية من تلك الحكايات الرائعة التي كتبها بلزاك.
غرام للسفر فقط
ولعل الغريب في الأمر هنا أن علاقة هذين الحبيبين لم تنبن تحت ظل الأدب أو الكتابة الدرامية حتى وإن كان في الإمكان الحديث عن نحو 400 رسالة بقيت لنا من تلك التي لم يتوقف بلزاك عن إرسالها إلى “غريبتي المحبوبة” فيما ستفضل هي لاحقاً على الإبقاء فقط على رسالتيها الأولى والثانية اللتين افتتحت بهما علاقتها معه. وكان ذلك حتى لاحقاً بعد موته وتفرغها للاهتمام بنشر أعماله وتراثه.
في المقابل انبنت العلاقة وحتى قبل رحيل زوج إيفلين الأول، تحت شعار السفر إذ ها هما خلال الأعوام الثلاثة الأولى يتجولان معاً وغير آبهين بانكشاف علاقتهما، بين باريس وسويسرا والنمسا. ثم في عام 1841 وبعد وفاة الزوج سافرا معاً إلى روسيا حتى وإن كانت ترددت أول الأمر حين طلب منها أن يتزوجا ولسوف يقال لاحقاً إنها إنما كانت تخشى أن يبدد ثروتها وما تركه زوجها لها من إرث.
لكنها وفي عام 1850 (يوم 14 مارس/ آذار) وكان قد مضى على علاقتهما معاً، سبعة عشر عاماً، وإثر إقامة لهما في ممتلكات عائلتها بين أوكرانيا وبولندا، اقتنعت أخيراً بأن الوقت قد حان كي يتزوجا خاصة أن أربع سنوات كانت قد مضت على فقدانهما الطفل الذي أنجباه معاً. وتزوجا بالفعل في منزلهما الباريسي لكن حياتهما الزوجية معاً هناك لم تدم سوى شهور قليلة إذ إن بلزاك ما لبث أن أسلم روحه يوم 18 أغسطس (آب) 1850.
تراث الزوج ورفاقه!
يبقى أن اللافت هنا حقاً هو أن مدام هانسكا التي باتت منذ ذلك الحين تعرف بمدام دي بلزاك وحتى إيف دي بلزاك، انصرفت فور موت الكاتب الكبير إلى الاهتمام بأوراق هذا الأخير ولكن ليس وحدها. فهي كانت في الواقع منصرفة إلى ذلك العمل بكل جدية وتفان إنما بين ذراعي الكاتب والناقد شانفلوري الذي كان يعتبر من أقرب أصدقاء بلزاك إليه، لكن العلاقة العاطفية مع شانفلوري لم تدم سوى ثلاث سنوات حل مكانه فيها صديق آخر من أصدقاء بلزاك هو هذه المرة الرسام غيغو الذي ستكون علاقتها به أطول عمراً إذ سيبقيان معا ثلاثين عاماً لن تنتهي إلا برحيلها عام 1882، وهي تردد لمن يحب أن يسمعها أن الرجل الوحيد الذي أحبته في حياتها كان… أونوريه دي بلزاك.
مهما يكن، سواء كان هذا التأكيد صحيحاً أم لا، من الواضح أن بلزاك كان ذا حضور طاغ في حياة إيفلين هانسكا. ولكن من الواضح أكثر أنها هي حضرت بشكل أكثر صخباً في حياته. ويبقى السؤال الأساس متعلقاً بكل ذلك الغياب لتلك المرأة القوية عن أدب بلزاك وليس عن حياته. والحقيقة أن الغياب دفع كثراً من الباحثين إلى التساؤل عما إذا لم يكن الكاتب قد صورها ولو بشكل موارب من خلال شخصية من هنا وأخرى من هناك.
حب حقيقي
ومهما يكن من أمر هنا. من المؤكد في النهاية أن إيفلين هانسكا لم تترك أثراً أدبياً في حياة بلزاك وعمله وإن كانت قد تركت أثراً غريباً في حياته. وربما أثراً يفيدنا بأنها قد تكون في نهاية الأمر المرأة الوحيدة التي أحبها حقاً ولكن من دون أن يجعل من ذلك الحب حكاية حياته الكبرى.
ولعل من الطريف هنا أن إيفلين وربما بعد سنوات الشغف الأولى فيما كانت لا تزال زوجة لابن وطنها الذي تبلغ سنه ضعف سنها، كان همها الأول وقد تعرفت على كاتبها المفضل وباتت على علم بمشاكله الحياتية والمالية، أن آثرت أن تتجنب “تسلطه على ثروتها” بحسب تعبير لها ذات يوم ستعلن لاحقاً أنها ندمت على استخدامه.
فهل يمكننا انطلاقاً من هذا الواقع البسيط أن نوافق أولئك الكثر الذي نفوا عن حكاية هانسكا وبلزاك ذلك البعد الرومانسي الذي افترضه كثر يوماً؟