رايت رايتس

مداعبات الأدباء الكبار في العصر الذهبي للثقافة العربية

الديسك المركزي
كتبه الديسك المركزي تعليق 8 دقيقة قراءة
8 دقيقة قراءة

كان توفيق الحكيم في الـ 56 من عمره حين أتيح له، أخيراً، في عام 1954، أن يحقق حلماً كان يداعب خياله منذ عاش في باريس، وحدث له مرة أن تابع احتفال الأكاديمية الفرنسية باستقبال عضو جديد في صفوفها هي المسماة عادةً “مجمع الخالدين”.

- مساحة اعلانية-

ولقد لاحظ الحكيم حينها مدى أناقة خطاب الاستقبال الذي يلقيه كاتب كبير مكرس في عضوية المجمع ترحيباً بزميله الجديد، ويأتي فيه على ذكر العضو السابق، الراحل غالباً، الذي سيحل الجديد مكانه.

بالنسبة إلى الحكيم كان يفكر دائماً متسائلاً، متى يصير لدينا ما يماثل هذه التقاليد؟ ومن هنا سوف تكون مفاجأته كبيرة لاحقاً حين يعود إلى مصر ويندمج في حياتها الثقافية، فيكتشف أن “تلك التقاليد” موجودة في مصر بالفعل، ولكنها غالباً ما كانت تجري خارج اهتمام الإعلام، وبشكل نخبوي بالكاد يلفت اهتمام الصحف.

- مساحة اعلانية-

غير أن الحكيم، في المقابل، لم يخطر في باله أنه سوف يكون يوماً جزءاً من الاحتفال، بل تحديداً “العضو الجديد الذي يرحب زميل كبير له بمجيئه، بل لم يخطر له أن يكون المرحب به أحد كبار نجوم الحركة الفكرية والأدبية في مصر والعالم العربي، طه حسين. مهما يكن، حدث ذلك في عام 1954، وعلى أثر انسحاب المفكر واصف غالي حين جرى انتخابه عضواً مكان الراحل عبدالعزيز فهمي الذي كان قد أثار العواصف في وجه المجمع باقتراحه استخدام الحروف اللاتينية مكان العربية على غرار ما كان قد فعل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا.

وتزعم أنك بخيل

إذاً، بعد انسحاب غالي، جاء الدور على الحكيم الذي حين وصل لحضور الاحتفال بعضويته، سيكون سروره مضاعفاً بوقوف حسين للترحيب به، لكنه إلى جانب سروره وقف متأهباً للرد على أية مداعبة قد يحاول حسين تمريرها، وهو المعروف بنوع مر من المداعبات، ولا سيما في علاقته بأقرب أصدقائه إليه، وكان الحكيم واحداً منهم بالطبع، بل كان شريكاً له بمعنى من المعاني في كتابة النص المسرحي “القصر المسحور” قبل ذلك بسنوات.

- مساحة اعلانية-

ومن هنا، في استماعه لخطاب حسين لاحظ الحضور متمتعاً كم أن الحكيم كان يقظاً يحاول ألا تفوته ولو فاصلة أو نقطة أو حرف جر مما يقوله زميله الكبير.

وكانت بداية حديث حسين صاخبة بالتأكيد، كما كان متوقعاً، “أنت جواد، وتزعم أنك بخيل. أنت ماكر، وتزعم أنك ساذج. وأنت صاحب جد في حياتك، لكنك عرفت كيف تلقي في روع الناس أنك لا تحسن إلا العبث والدعابة.

ولست أدري كيف يكون الحديث عنك من غير عبث أو دعابة؟ أنا لم أستطع أن أعرف منك بالضبط السنة التي ولدت فيها، ولكن المؤكد أنك جاوزت سن الشباب، بل جاوزت الخمسين (وهنا بحسب ما سيذكره بعض الحضور أشار الحكيم بيده إلى أن سنه تقل عن ذلك، وقد بدأت دفاعاته تشتغل). لقد أصبحت شيخاً ناضجاً كل النضج على أية حال، ما يؤهلك لدخول المجمع”. وهنا سكت حسين لثوانٍ ليستجمع ما يريد قوله، وبدا شيء من الاضطراب على توفيق الحكيم مترقباً نوعاً من “التصعيد” من صاحب “الأيام”.

الوظيفة شيء آخر

بالفعل، تابع حسين قائلاً وقد رسم على وجهه بعض علامات الحيرة، “لقد كنت في الوظيفة – القضائية – كما كنت في الدراسة في مصر وباريس، مشغولاً دائماً بشيء آخر. كنت تؤدي واجبك لتخلص منها، وتعفي نفسك من التقصير، ولكنك تعطي خير ما عندك للفن.

ولقد رجعت من باريس خالي الوفاض من شهادة الدكتوراه التي كنت قصدتها للحصول عليها، ولا شهادة شبه الدكتوراه، ولكنك حملت خيراً من هذه الشهادة. حملت منها كل تلك الكتب التي قرأناها لك، وأصلت فيها فن التمثيل في اللغة العربية. وأنت في قصصك ممثلاً أكثر منك قاصاً، ولأنك تمثل على رغمك جعلت الأشخاص في قصتك (عودة الروح) يروحون ويجيئون وكأنهم على المسرح”.

وهنا، رسم توفيق الحكيم لمكره على وجهه علامات حيرة مفتعلة وكأنه لم يفهم أيمدحه حسين أم يذمه. وكان من الواضح أن الحكيم كان يعرف أن حسين لا يمكنه رؤية ملامحه، بالتالي كان يريد من الحضور تواطؤاً مسبقاً معه.

والمهم هنا، أن الخطيب تابع قائلاً وهو يدرك ببصيرته ما يعتمل الآن لدى صديقه اللدود، “أنت طائفة من المتناقضات، وأنت في فنك طبيعي، لكنك في حياتك الاجتماعية مصنوع متكلف، والناس يعرفون منك صورة غير حقيقية. أتريد أن أدلك على سبب ذلك؟ هو أنك تريد أن يعرفك الناس هكذا لأنك تعرف أنهم عادةً لا يتحدثون عن الشيء الطبيعي حديثهم عما يخالف المألوف”.

وإثر ذلك ختم حسين خطابه بلهجة أكثر جدية قائلاً، “لقد شرفت بانضمامك إلى المجمع، ولا أدل على ذلك من أننا جعلناك تقف على الباب منتظراً أكثر من عامين. ونحن شرفنا بانضمامك إلينا، فأنت كاتب نابغة، ما في ذلك شك. ولقد أجمع الناس والنقاد على إكبار فنك، وقد تجاوزت لا حدود مصر فقط، بل حدود العالم العربي، فأنت تقرأ في الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وعما قريب تقرأ في اليونانية. أهنئك، وأرجو أن تكون عضواً مجمعياً مثالياً في كل ما تعمل وما تقول”.

عيار ثقيل… في الاعتدال

أمام هذا الخطاب الذي سيقول عنه الحكيم لاحقاً إنه كان “من العيار الثقيل، ولكن في الاعتدال وإبداء المودة”، آثر الحكيم أن يترك كلام حسين يمر من دون تعليق، عدا بضع عبارات تقدير ومجاملة، مفضلاً بدلاً من ذلك العمل تبعاً للتقاليد اللائقة الفرنسية التي تجعل العضو الجديد يتحدث عن سابقه، الراحل عبدالعزيز فهمي، بدلاً من الرد على من يرحب به، أي حسين. فقال عن فهمي إنه يحيي “شجاعته وحريته” في سيره عكس التيار العربي السائد، معبراً عن رأيه هو في العمل على تيسير اللغة العربية لتتلاءم مع تطلعات الأجيال الجديدة، ولكن “طبعاً دون اللجوء إلى تلك الفكرة المتطرفة التي تقوم في استخدام الحروف اللاتينة”، موضحاً بقوله، “فأنا مستعد، دون أن أتوقف عند هذه الفكرة، للدفاع عن تبسيط قواعد النحو واللغة إلى الحد الذي يجعل القارئ أو المتكلم يحسن قراءتها والتكلم بها بغير تعثر أو الاضطرار إلى التفكير المتشعب حين يستخدمها كتابة أو كلاماً. إن تطور اللغة العربية سيتم في نهاية الأمر بأن تحتفظ اللغة الفصحى بخير ما فيها، وتستعير من العامية خير ما في هذه، فتلغى من الفصحى الحركات في أواخر الكلمات على سبيل المثال، ويكتفى بالوقف في أكثر الأحوال”.

يا لحسن الحظ!

في نهاية خطابه، وفيما كان كثر يتوقعون أن الحكيم سيرد على “دعابات” حسين على ظرفها بما يماثلها، أو بما هو أشد فتكاً منها، عاد الحكيم إلى عبد العزيز فهمي ليقول خاتماً كلامه، “أعاهدك يا عبد العزيز فهمي أنني سأدافع عن رأيي هذا بكل شجاعة. فاحتملوني يا سادة، وإن كنت أشك في أنني سأفعل، وأظن أنكم أيضاً تشكون في تنفيذي هذا الوعيد وتقولون مع جرير: فأبشر بطول سلامة يا مجمع!”.

وفي وقت لاحق حين سأل المحيطون بالحكيم رفيقهم الجديد هذا، لماذا لم يرد في خطبته على قرص حسين له قال ببساطة، “لأن كل كلمة قالها عني كانت صحيحة. ومع هذ كنت أرد عليه في تعابير وجهي”. فقال له محدثوه، “لكنه ضرير ولا يمكنه أن يرى شيئاً من تلك التعابير”. فعلق الحكيم قائلاً، وهو ينهي الحديث، “وهذا من حسن حظي للأسف!”.

شارك هذه المقالة
ترك تقييم