مواجهات كروية حققت شهرتها الكبرى بسبب معلقيها الموهوبين في إطلاق الأوصاف والتعبيرات العفوية الإبداعية، التي تتماس بذكاء فطري مع حماس المشاهدين في لحظة ساحرة، إنهم يجيدون تماماً قراءة الموقف، ويعرفون كيف يأخذون ألباب عشاق الكرة.
مشقة كبيرة لمن لا يعرف ولمن يستسهل تلك المهنة، فالقصة ليست مجرد كلمات ووصف لسير الكرة، لكنها حال فريدة من نوعها بين هذا الصوت ومن يتحدث إليهم، وعلى رغم أن التعليق الرياضي عموماً ينطبق على ألوان متنوعة من الألعاب، فإن أهمية كرة القدم وشعبيتها، جعلت تلك المهمة التي تسهم في رسم علاقتنا باللعبة، محط اهتمام كبير.
إنهم الوسيط بين عموم جماهير كرة القدم وبين ما يجري في الإستاد، لا سيما أن متابعة المباريات في المدرجات أمر لا يتسنى للغالبية العظمى من محبي اللعبة. إذاً هم من يجعلوا للمشاهدة طعماً مختلفاً، وهم كذلك من يمكنهم أن يطفئوا المتعة الكروية، فحساسية هذه المهنة تجعل التميز فيها صعباً للغاية، ولا ينفع معه الإلحاح أبداً، إما أن تحقق القبول الجماهيري، وإما أن تسقط من الذاكرة ومن دائرة الاهتمام، فالضوابط هنا يضعها المشاهد وحده.
ثقافة معلوماتية أم ثرثرة فارغة؟
الحديث هنا عن تفصيلة خاصة للغاية بالإعلام الرياضي، فالتعليق قد يكون مهمة قائمة بذاتها تسبق مفهوم الإعلام الرياضي نفسه، وبالطبع معلقون كلاسيكيون صنعوا للمهنة اسمها ولكتيبة التعليق هيبتها، واستعانت بهم السينما أيضاً لإضفاء جو من البهجة على بعض المشاهد، وللاستفادة أيضاً من محبة الجمهور لهم، كان أبرزهم الكابتن محمد لطيف، (23 أكتوبر “تشرين الأول” 1909 – 17 مارس “آذار” 1990)، الذي ظهر في عدة أفلام منها “في الصيف لازم نحب” و”غريب في بيتي” و”الشياطين والكورة” و”بطل الدوري” خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. واشتهر بلزمات علقت بالأذهان مثل “الكورة أجوان”، و”الجايات أكتر من الرايحات”، وتميز بخفة ظله وعفويته.
وفي ما بعد شهدت السينما أيضاً ظهور معلقين من أجيال مختلفة، بينهم ميمي الشربيني ومدحت شلبي، فيما كان الأكثر إضحاكاً الفنان سمير غانم حينما تقمص دور المعلق الرياضي في فيلم “الزواج على الطريقة الحديثة”، حينما كان يتساءل “الكورة فين؟!”، وكان يبالغ في إظهار ثقافته الموسوعية تاركاً المباراة الهزلية بدورها ليحاول استعراض قراءاته الخيالية في المجلات العالمية.
وبشكل أو بآخر كان يحاكي سمير غانم في الفيلم الذي عرض عام 1968 شخصيات بعض المعلقين، الذين يستفيضون في أحاديث هامشية وجانبية، مستعرضين تاريخ بعض الوقائع الكروية، بل والسياسية بشكل قد يبدو مبالغاً فيه.
التكنولوجيا تعطي المونديال لمسة مختلفة
يشير المعلق الرياضي أيمن الكاشف إلى أنه ينبغي التحضير بشكل جيد للغاية قبل كل مباراة، والاطلاع على المعلومات والخلفيات التاريخية للفريقين واللاعبين كذلك.
لكنه يشدد على نقطة مهمة وهي “الموازنة بين الهدف الأساسي وهو نقل صورة كاملة لما يجري في الملعب من كل الزوايا، والمعلومات التي يجري تمريرها سريعاً من هنا وهناك، من دون التفرقة في عملية البحث والتحضير بين مباراة كبيرة منتظرة، وأخرى لا تنطبق عليها المواصفات نفسها”.
وما قاله الكاشف يتفق معه فيه المعلق وصانع المحتوى الرياضي محمد فوزي، الذي يقول إنه لا يفرق أبداً بين التحضير لمباراة توصف بأنها مهمة أو مفصلية خلال بطولة ما ومباراة أخرى اعتيادية إن جاز التعبير، فكل المواجهات يكون التعامل معها بالمستوى نفسه، ويشمل إحصاءات ومعلومات تتمثل في معرفة اللاعبين الغائبين والتشكيلة الأساسية ورصيد الأهداف، بحسب فوزي.
وتابع “أهم ما ينبغي العمل عليه هو الدخول في الأجواء والتركيز في طبيعة العلاقة بين الفريقين والمشاحنات السابقة بينهما وطبيعة المنافسة كذلك، وإن كان هناك عوامل مشتركة كمدربين مثلاً تعاونوا مع كليهما، أو لاعب انتقل من هنا إلى هناك، فهذه أمور تلقي بظلالها على ما يجري في الملعب، وتؤثر كذلك في تعامل الجمهور مع المواجهة الدائرة على الأرض”.
لكن أليست كل هذه التفاصيل تشبه “الدراسة” المستفيضة لحدث هو بطبيعة الحال جماله ينبع من مفاجآته، وهل تعيق تلك التحضيرات “التلقائية” التي تصنع شخصية المعلق أو المحلل؟ وهو ما يشرحه فوزي بالقول إن التحضير الزائد بالفعل “قد يكون سلاحاً ذا حدين، فالمعلق قد يرى أنه من الخسارة عدم استخدام كل المعلومات التي حصل عليها ويحاول أن يلقيها بشتى الطرق على المشاهد، لكن هنا يجب تطبيق القاعدة الذهبية والمأخوذة من عالم المونتاج ومفادها: (ضع أبناءك تحت قدميك)، والمقصود بها أنه مهما كان هناك تعب في التحضير ومهما كانت المعلومات قيمة، فينبغي الانتصار للجودة فحتى لو كانت الملحوظة مهمة، لكن طالما هناك خارج السياق ولا تفيد ينبغي حذفها كي لا تتحول إلى مصدر إزعاج وثرثرة لا طائل من ورائها”.
مرجعيات شحيحة
اللافت أن تناول مهنة التعليق الرياضي بالبحث والتحليل في العالم العربي أمر شبه غائب، وكان كتاب “التعليق الرياضي بين الهواية والاحتراف” للمؤلف عدنان حمد الحمادي من المطبوعات النادرة التي تناولت تلك المهمة باعتبارها فناً إبداعياً من فنون العمل الإعلامي المرئي والمسموع.
يؤكد محمد فوزي، الذي عمل في كثير من فنون الإعلام الرياضي، أن تلك المهنة هي بالأساس “حضور، ثم موهبة، ثم يأتي الاجتهاد في العمل والتركيز والتحضير الجيد”، مشيراً إلى أن المعلق “يعمل على الهواء من دون مجال للمراجعة أو المونتاج واستبعاد الأخطاء، فالأمر لحظي، ولن يسعف المعلق هنا سوى حضوره العالي وسرعة بديهيته، وكذلك تركيزه ولباقته وثقافته الكروية والعامة”.
كذلك يوضح المعلق أيمن الكاشف على أن المرجعيات في هذا الفن عربياً شحيحة جداً، ويؤكد أن تلك المهنة هي “موهبة واطلاع وقبول، فلا يمكن أن يحقق المعلق الحضور إلا إذا كان لديه الموهبة أولاً”، لافتاً إلى أنه حتى لو قام صاحبها بعمل دراسات عليا لمحاولة الارتقاء بمستواه، فالقبول شيء مختلف تماماً، منوهاً إلى أن “بعضهم احترف تلك المهنة عن طريق الملاحظة والخبرة والفطرة، وآخرون حاولوا تعميقها بالدراسة، فلا توجد هنا قاعدة ثابتة للنجاح أو الشعبية، لكن في كل الأحوال ينبغي أن يكون هناك أساس متين في البداية يرتكز إلى حب اللعبة والمتابعة”.
كيف تغيرت المهنة؟
لكن هل غيرت السوشيال ميديا من متطلبات المهنة؟ وهل أصبحت تحملها أموراً أكثر مما تحتمل؟ لا سيما أن هناك نقطة تثار بشكل دائم، وهي اتهام المعلقين، بخاصة في السنوات الأخيرة بتأجيج فكرة التعصب الكروي، بإظهار انتمائهم وتحيزهم لفريق ما على حساب آخر.
يؤكد المعلق أيمن الكاشف بشكل قاطع أن الانتماء الكروي لدى المعلقين “قديم قدم المهنة نفسها، بخاصة أن تاريخهم قبيل احتراف التعليق والالتزام بضوابطه يكون معروفاً في ما يتعلق بالانتماء لأندية بعينها سواء من خلال اللعب لها أو تقلد مناصب بها، وبطبيعة الحال سيكون ولاؤهم لها”.
ويواصل الكاشف “لكن الأمور تغيرت كثيراً بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً في ما يتعلق بطريقة انتشار المعلومة التي قد تكون مضللة وغير حقيقية، بل إنها قد تكون مجرد إشاعة مختلقة تماماً، لكن تتناقلها بعض صفحات السوشيال ميديا، بلا سند أو دليل، وتحدث على إثرها موجات غضب واتهامات واستقطاب حاد، بسبب ما يسمى باللجان الإلكترونية الموجهة، فبكل بساطة يمكن تقسيم حال المهنة إلى ما قبل السوشيال ميديا وما بعدها”، لافتاً إلى أن مواقع التواصل أثرت بشكل مباشر في المهنة وفي عالم صناعة كرة القدم بشكل عام.
لكن محمد فوزي المعلق وصانع المحتوى الرياضي، الذي لديه باع في التواصل مع الجماهير على السوشيال ميديا، يشير إلى أنه بالفعل هناك بعض المعلقين حالياً يلعبون بالفعل على الوتر الجماهيري ومخاطبة مواقع التواصل وتعمد إظهار بعض الإيفيهات التي تستفز فصيلاً معيناً من الجمهور، وهو ما يسهم في رأيه في حال الاستقطاب الكروي، وهو أمر مرفوض تماماً بالنسبة إليه، مضيفاً “مع ذلك ففكرة إظهار الانتماء الرياضي ليس لها قاعدة ثابتة بالمرة، فمن لم يمارس الكرة في ما قبل من الطبيعي ألا يظهر انتماءه، مثلاً في ما يتعلق بوضعي الشخصي معروف أنني لعبت في ناشئي نادي الزمالك، وهو أمر لا يمكن أن أخفيه، لكن من حق الجميع أن يحاسبني في حال أخفقت، ولم أعط لكل فريق حقه، فالفيصل هو الاحتراف والموضوعية واحترام كل الأطراف”.
ويستشهد فوزي بكثير من السابقين في هذا المجال مثل رائد فن التعليق الرياضي عربياً محمد لطيف، فقد كان لاعباً سابقاً بنادي الزمالك، وتولى به مناصب كثيرة، ومثله الكابتن حمادة إمام الذي كان ينتمي للزمالك كذلك، ومثلهما المعلق ميمي الشربيني وهو أهلاوي معروف، حيث كان من المستحيل أن ينكروا انتماءهم، لكن مع ذلك كانوا يحظون باحترام جماهير كل الفرق.
عبارات لا تنسى
وفي حين تتجه الأنظار حالياً إلى مباريات كأس العالم 2022 المقام في قطر، فالمونديال يضم عدداً من المعلقين الذين لديهم شعبية كبيرة من الجماهير، بينهم المصري علي محمد علي، والجزائري حفظي دراجي، والتونسي عصام الشوالي.
ويحظى نجوم التعليق من المغرب العربي بحيز كبير من الاهتمام على مدار السنوات الماضية، بل واكتسبت بعض المباريات صفة الأيقونية بسبب التعبيرات العفوية التي أطقها هؤلاء المعلقون التي وصفت بالإبداعية، والشوالي بالتحديد لديه قائمة طويلة من تلك التعبيرات التي تبدو وكأنها شعر مرتجل، مثل “أي قذيفة جاءت بك يا باتشيكو، لو كان الإبداع رجلاً لشكرته يا ميسي، هناك ريال مدريد واحد، وحياة واحدة، فإما أن تكون عاشقاً لهذا الكيان أو دع عنك هذا الحمل الثقيل، القاضية ممكن، ليت الكل كيفك يا أهلي”.
وهنا يؤكد أحمد مرعي، يعمل مهندساً ومولعاً بعالم كرة القدم، أنه بات بالفعل يعرف بعض الألفاظ باللهجة التونسية بسبب متابعته التعليق التونسي، لافتاً إلى أنه يفضل الاستمتاع بالمباراة بصوتهم، نظراً إلى طزاجة تعبيراتهم ومفرداتهم وطريقتهم الجاذبة في التصعيد الحماسي من دون انفعال زائد، فلديهم قدرة كبيرة على شد انتباه المتفرج من دون أية لحظة ملل، وتكتسب معهم اللقاءات الكروية إيقاعاً مختلفاً تماماً، مؤكداً أن لديه كثيراً من المعلقين المصريين المفضلين أيضاً، لكنه يعيب على بعضهم عدم الابتكار والروتينية، بل وتقليد بعضهم بعضاً.
وينبه مرعي إلى نقطة أخرى وهي أنه إذا كان مضطراً لمتابعة مباراة، ولم يعجبه المعلق فهو إما سيغلق الصوت تماماً، ويفضل مشاهدة ما يجري في الملعب صمتاً، أو يلجأ إلى متابعتها بالتعليق بلغة أجنبية.
وهو ما شدد عيله محمد ناصر، رب أسرة وتربى على عشق كرة القدم، الذي يقول إنه يلجأ كثيراً إلى التعليق الأجنبي كحل، مع تأكيد أن هناك كثيراً من المعلقين العرب في الفترة الأخيرة الذين نجحوا في تحقيق جماهيرية، وبينهم العماني خليل البلوشي نظراً إلى دقته في اختيار الوقت المناسب لقول معلومة معينة، وموهبته في تغيير نبرة الصوت وفقاً للموقف وانفعاله الذي يأتي على قدر اللحظة وتحكمه في أدائه بشكل مدهش حتى حينما يتطرق إلى موضوع خارج إطار الكرة يكون في محله كذلك، فهو في رأيه من المعلقين الذين سيتمتعون بريادة خلال الفترة المقبلة.
وعن مدرسته المفضلة في ما يتعلق بالتعليق يؤكد ناصر أنه يرى الأفضل أن يسهم المعلق في إثراء ثقافة المشاهد من دون مبالغة أو استعلاء، ويتعامل مع هذا الأمر بحساسية ولياقة، منبهاً إلى أنه من غير المنطقي مثلاً أن يقوم معلق عربي باستخدام ألفاظ بلغات أخرى بخاصة المصطلحات الإيطالية والإسبانية والفرنسية، فهو هنا يتوجه إلى شريحة محدودة للغاية وليس جمهور الكرة العريض، كما أنه كمتفرج ينفر تماماً من المبالغة في الحماس والصوت العالي، إذ يتحول الأمر إلى مصدر للإزعاج وليس مشاركة في اللحظة، ولا تكون في محلها، لا سيما لو كان الموقف لا يستدعي ذلك، وهي نقطة ضعف يقع فيها حتى كبار المعلقين في المنطقة العربية.
مهنة شاقة
المعلق الرياضي محمد فوزي، الذي له تجربة حاليا أيضاً في الاستوديوهات التحليلية لمباريات كأس العالم المقام بقطر، يؤكد أهمية التعليق الرياضي على مر العصور، لافتاً إلى أنه في القديم كانت مهمة المعلق هي أن ينقل إلى المشاهد قوانين اللعبة ويثقفه في ما يتعلق بقواعدها عن طريق المعلومات وسير الأمور، ويفسر له بعض القرارات التحكيمية والفنية وقرارات المدربين وتصرفات اللاعبين، ومع انتشار كرة القدم وطغيان شعبيتها على بقية الألعاب بالتالي وعي وثقافة الجماهير بقوانينها، فدور وأهمية التعليق اختلفت.
ويضيف فوزي “المهمة هنا أصبحت بشكل أساسي هي تكوين الانطباع العاطفي والوجداني للمشاهد الذي يحتفظ بالمباراة في عقله وقلبه ووجدانه بنبرة صوت معلق معين، وتظل في ذاكرته دوماً لهذا السبب، وما يسهم في هذا بعض العبارات والأوصاف التي يطلقها المعلق على الأحداث وترتبط به وباسمه، فالأهمية اختلفت وتطورت وتغيرت وفقاً لطبيعة العصر”.
وفي ما يتعلق باللزمات ينوه الكاشف إلى أن التعبيرات التلقائية التي تأتي في وقتها تكون هي الأطول عمراً والأكثر تماساً مع الجمهور، أما تلك المفتعلة أو المحضر لها سلفاً فنادراً ما تنجح.
ويختتم حديثه بالتشديد على أن مهنة المعلق الرياضي “ليست يسيرة كما يتصور بعض ممن يعتقدون أنها لا تحتاج إلى أية مهارة سوى وصف ما يحدث في المستطيل الأخضر، فالأمر له متطلبات كثيرة للغاية، بخاصة أنها عمل على الهواء مباشرة بكل ما لتلك النقطة من مشقة تتعلق بالمفاجآت غير المتوقعة والتعبيرات التي قد تخون صاحبها مهما كان متمرساً ومحترفاً، فهي” مهنة بلا سيناريو”.
المصدر: “إندبندنت عربية”