توقع معظم الاقتصاديين على مدى العامين الماضيين أن يشهد الاقتصاد الأميركي ركوداً على خلفية التضخم المرتفع وسلسلة التشديد النقدي القوي، غير أن هذا الركود الذي كان متوقعاً على نطاق واسع “لم يحدث”.
كما توقع الكثير من المحللين والاقتصاديين أن يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى خفض أسعار الفائدة عدة مرات لتجنب الركود (مدافعين عن وجهة نظرهم بشأن شبح الركود الذي يهدد الاقتصاد الأميركي) إذا استمر التضخم في الاعتدال.. لكن يبدو أن هذا التوقع خاطئ أيضًا بينما يتحدث المزيد من الاقتصاديين الآن عن توقعات أسعار الفائدة “الأعلى على المدى الطويل”. وبحسب مقال نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية للمحلل الأميركي إدوارد يارديني، فإنه “كان من المنطقي أن نتوقع حدوث ركود خلال العامين الماضيين”، مشيراً إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي رفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بمقدار 5.25 نقطة مئوية بين مارس 2022 ويوليو 2023.
وكان من المؤكد أن مثل هذا التشديد الكبير في السياسة النقدية من شأنه أن يتسبب في انهيار شيء ما في النظام المالي، وإطلاق العنان لأزمة ائتمانية من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الأزمة المالية. وعندما يحدث ذلك، سيضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة بسرعة. وكان هذا هو أسلوب العمل في معظم دورات السياسة النقدية منذ ستينيات القرن العشرين.
وجاء في المقال أيضاً أنه كان هناك الكثير من المؤشرات الموثوقة التي أشارت إلى أن الركود قادم، بالإشارة إلى ما يعكسه منحنى العائد بين سندات الخزانة الأميركية لأجل عامين و10 سنوات، وهو ما انقلب خلال صيف العام 2022، مع ارتفاع أسعار الفائدة على المدى القصير فوق تلك طويلة الأجل.
ويشير كاتب المقال إلى أن:
فترات الركود الماضية كانت ناجمة في أغلبها عن أزمات الائتمان، أو ارتفاع أسعار النفط، أو انفجار فقاعات المضاربة.
تنبأ منحنى العائد المقلوب بدقة بحدوث أزمة مالية هذه المرة كما حدث في الماضي.
كانت هناك أزمة مصرفية خلال شهر مارس 2023، لكنها لم تستمر طويلاً، ولم تتسبب في أزمة ائتمانية؛ لأن بنك الاحتياطي الفيدرالي استجاب بسرعة من خلال تسهيل سيولة طارئة للقطاع المصرفي.
ارتفعت أسعار النفط بعد (الحرب في أوكرانيا) لكن وفرة الإمدادات العالمية وضعف النمو الاقتصادي العالمي أدى إلى انخفاضها بسرعة.
ارتفعت أسعار النفط مرة أخرى خلال شهر مارس، إذ أظهرت الحرب بين إسرائيل وحماس علامات على التحول إلى صراع إقليمي، لكنها تراجعت منذ ذلك الحين.
كما تبين أن الاقتصاد أكثر مرونة مما توقع الاقتصاديون، ويرجع ذلك في الغالب إلى استمرار نمو الإنفاق الاستهلاكي. واستفادت عديد من الأسر من ارتفاع أسعار الفائدة على ودائعها المصرفية وصناديق أسواق المال. كما قام عديد منهم بإعادة تمويل قروضهم العقارية بمعدلات منخفضة قياسية خلال عامي 2020 و2021.
والأهم من ذلك، أن جيل طفرة المواليد بدأ في التقاعد بثروة صافية قياسية بلغت 76 تريليون دولار، وفق المقال الذي يشير إلى أنهم ينفقون على المطاعم والرحلات البحرية والسفر والرعاية الصحية. وكانت كل هذه الصناعات الخدمية تعمل على توسيع الرواتب، وبالتالي تعزيز الدخول الحقيقية، وتغذية المزيد من الإنفاق.
وبينما كان قطاع السلع في الاقتصاد يعاني من ركود النمو منذ مارس 2021 تقريباً، في أعقاب الإفراط في الشراء الذي حدث عندما تم رفع الإغلاق. ومع ذلك، ظل الإنفاق على السلع عند مستوى قياسي مرتفع على أساس معدل التضخم.
كما تم التعويض عن السياسة النقدية المتشددة بسياسة مالية تحفيزية للغاية.
اتسع العجز الفيدرالي بسبب الكثير من إنفاق الحكومة الفيدرالية على البنية التحتية والحوافز الحكومية الفيدرالية لنقل العمالة إلى الخارج.
ارتفع صافي نفقات الفائدة للحكومة الفيدرالية إلى عنان السماء، مما أدى إلى ارتفاع دخل الفوائد الشخصية إلى مستوى قياسي.
كما صمدت أرباح الشركات والتدفقات النقدية بشكل جيد للغاية.
لم ينخفض الإنفاق الرأسمالي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة؛ لأن عديد من الشركات قامت بجمع الأموال وإعادة التمويل عندما كانت تكاليف الاقتراض منخفضة للغاية في عامي 2020 و2021.
كذلك تم تعزيز الإنفاق الرأسمالي من خلال إعادة التوطين بالإضافة إلى الكثير من الإنفاق على الأجهزة التكنولوجية والبرمجيات والأبحاث.
ووفق مقال إدوارد يارديني بصحيفة “فاينانشال تايمز”، فإنه نتيجة لذلك، انتعش نمو الإنتاجية في العام الماضي، ومن المفترض أن يظل قوياً. أداء مخالف للتوقعات
من جانبه، قال رئيس قسم الأسواق العالمية في Cedra Markets، جو يرق، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه كان من المتوقع أن يشهد الاقتصاد الأميركي ركوداً بنهاية عام 2023، لكن على الرغم من تلك التوقعات إلا أن أداء الاقتصاد والشركات كان مفاجئاً، مستعرضاً الأسباب وراء ذلك، ومنا:
قوة المستهلك الأميركي.. والسبب فيها أنه في ظل جائحة كورونا وجهت الحكومة الأميركية دعماً كبيراً للمواطنين في صورة مساعدات اجتماعية، وهو ما أثر إيجابياً على القدرة الشرائية.. هذه المساعدات وفرت لدى المواطن مدخرات قوية استطاع الاستفادة منها بعد ذلك، لا سيما أنه بعد سنتين أصبح هناك تضخم قوي وعنيد خاصة في قطاع الخدمات.
الإنفاق الحكومي المرتفع، والذي وصل إلى مستويات مرتفعة.. في ظل استعداد الحكومة لسنة الانتخابات الرئاسية، هناك إنفاق ظهر في الوظائف، فأكثر من ثلث الوظائف مدعومة من الحكومة الأميركية، إضافة إلى الإنفاق على الديون الأميركية التي لامست 35 تريليون دولار، فهناك زيادة في الديون كل مئة يوم بتريليون دولار.
وعبر رئيس قسم الأسواق العالمية في Cedra Markets، جو يرق، عن التخوف من حدوث ركود تضخمي، خاصة في ظل تمسك الفيدرالي بخفض الفوائد المرتفعة بهدف مكافحة التضخم، وتحقيق المستهدف عند 2 بالمئة. لماذا كان الاقتصاد الأميركي أقوى من المتوقع؟
وإلى ذلك، قال الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية في لندن، طارق الرفاعي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن كثيراً من الاقتصاديين رأوا أن الاقتصاد الأميركي كان سيشهد ركوداً هذا العام، مرجعاً السبب إلى الارتفاع القياسي لمعدل الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي لمحاولة مكافحة التضخم المرتفع، وهو ما أدى لتلك التوقعات السلبية حول الاقتصاد الأميركي.
لكنه أكد أن الاقتصاد الأميركي كان أقوى من المتوقع، فقد كان هناك تباطؤ بالنمو لكن لم نر ركوداً إلى الآن، مستشهدًا على ذلك بما يلي:
أسواق المال بغض النظر عن ارتفاع أسعار الفائدة إلى أرقام قياسية، إلا أنها أيضاً ترتفع إلى أرقام قياسية جديدة كذلك.
هناك اعتقاد شائع بأن رفع أسعار الفائدة سلبياً للاقتصاد، لكن واقعياً فهو يعني أن البنك المركزي يرى أن هناك نمواً قوياً ويحاول موازنة النمو الاقتصادي دون حدوث نمو سريع وانكماش سريع.
الفيدرالي الأميركي مستمر في سياسته النقدية في سياق الإبقاء على سعر الفائدة وهو أفضل سيناريو للاقتصاد ولأسواق المال.
وأوضح الرفاعي أنه إذا قام بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة وهو أمر مستبعد لكنه متوقع بشكل ضئيل إذا تسارع مستوى التضخم مرة ثانية، فسيكون سلبيًا على الاقتصاد. أما إذا حدث انخفاض بأسعار الفائدة هذا أيضاً سيكون سلبياً بالنسبة لأسواق المال والاقتصاد، لأن الفيدرالي يعترف الآن بأن الاقتصاد في تباطؤ ولابد من خفض أسعار الفائدة.