على شاكلة الحروب التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في الماضي، فإن الصراع بين إسرائيل و”حماس” الذي اندلع الأسبوع الماضي لديه القدرة على تعطيل الاقتصاد العالمي، بل وحتى دفعه إلى الركود إذا جُرّت المزيد من الدول إليه.
يمثل ذلك خطراً حقيقياً؛ إذ يتأهب الجيش الإسرائيلي لغزو غزة رداً على هجوم شنّته الجماعة المسلحة. ووصل عدد الضحايا الناتج عن هجوم حماس والغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة على غزة بالفعل إلى الآلاف. كما أُثيرت مخاوف من انضمام الجماعات المسلحة في لبنان وسوريا الداعمة لـ”حماس” إلى القتال.
قد يدفع التصعيد الأكثر حدّة إسرائيل صوب صراع مباشر مع إيران التي تزوّد بالسلاح والمال حماس التي صنفتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جماعة إرهابية.
في هذا السيناريو، تشير تقديرات “بلومبرغ إيكونوميكس” إلى أن أسعار النفط قد تقفز إلى 150 دولاراً للبرميل، وأن يتراجع النمو الاقتصادي العالمي إلى 1.7%، وهو ركود يقتطع نحو تريليون دولار من الناتج الاقتصادي العالمي.
وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه التأثيرات الثانوية ليست على قمة الأولويات، خاصة بعد المأساة الإنسانية التي وقعت الأسبوع الماضي.
علماً بأن الأغلبية العظمى من الضحايا من الجانبين هم من المدنيين.
واحتُجز عشرات الرهائن الإسرائيليين في غزة، كما تهدِّد الصواريخ والهجوم البري الوشيك حياة الفلسطينيين المحاصرين في القطاع دون أي طريق للهروب، ويؤدي الدمار إلى رفع درجات الانفعال، ويجعل التصعيد العسكري أكثر ترجيحاً.
مخاطر الحرب
قد ينتج عن الصراع في الشرق الأوسط تداعيات عبر العالم لأن المنطقة تُعتبر مورداً حيوياً للطاقة وممر شحن رئيسياً.
أوضح مثال على ذلك الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1973، والتي أدت إلى حظر النفط وأحدثت سنوات من الركود التضخمي في الاقتصادات الصناعية، وكان لصراعات أخرى تأثير محدود أكثر، حتى عندما كانت الخسائر البشرية مرتفعة.هجوم “حماس” على إسرائيل ليس 1973 أخرى بالنسبة للنفط.. ولكن!
يبدو الاقتصاد العالمي ضعيفاً حالياً وما يزال يتعافى من نوبة التضخم التي تفاقمت بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، ومن الممكن أن يؤدي نشوب حرب أخرى في منطقة منتجة للطاقة إلى إشعال التضخم من جديد، وقد تمتد العواقب الأوسع نطاقاً من تجدد الاضطرابات في العالم العربي، إلى الانتخابات الرئاسية المرتقبة العام المقبل في الولايات المتحدة، حيث تشكل أسعار البنزين أهمية بالغة في رفع معنويات الناخبين.
ثلاثة احتمالات
تعتمد كل هذه التأثيرات المحتملة على كيفية تطور الحرب خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
أجرت “بلومبرغ إيكونوميكس” دراسةً للتأثير المحتمل على النمو العالمي والتضخم وفق ثلاثة سيناريوهات.
وفق الحالة الأولى، ستظل الأعمال العدائية محصورة إلى حد كبير في غزة وإسرائيل.
أمّا الحالة الثانية، فتفترض توسع الصراع إلى الدول المجاورة مثل لبنان وسوريا التي تستضيف جماعات مسلحة قوية تدعمها طهران؛ مما يحوّلها بشكل أساسي إلى حرب بالوكالة بين إسرائيل وإيران.
وينطوي الاحتمال الثالث على تصعيد مباشر بين هذين العدوين الإقليميين.
وفي كل هذه السيناريوهات، سيكون الاتجاه واحداً يتمثل في ارتفاع أسعار النفط، وتصاعد معدلات التضخم، وتباطؤ النمو، لكن الشدة في كل سيناريو ستختلف، فكلما اتسع نطاق الصراع، أصبح تأثيره عالمياً وليس إقليمياً.
تُعد (التداعيات) أشمل وأكثر تعقيداً مما يمكن لهذه السيناريوهات احتواؤه. فحتى السلاسل الاقتصادية ضيقة النطاق المبنية على الأسباب والنتائج ثبت أنه من الصعب التنبؤ بها وسط التقلبات التي شهدتها السنوات الأخيرة، كما أصبح التنبؤ بالحروب أصعب بكثير، ومع ذلك فإن السيناريوهات التي نرسمها هنا يجب أن تساعد على الأقل في رسم المسارات المحتملة المقبلة.
السيناريو الأول: اقتصار الصراع على غزة
عام 2014، كان اختطاف وقتل ثلاثة إسرائيليين على يد “حماس” هو الدافع وراء الغزو البري لغزة الذي خلف أكثر من 2000 قتيل، ولم ينتشر القتال خارج الأراضي الفلسطينية، وكان تأثيره على أسعار النفط والاقتصاد العالمي ضعيفاً.
تخطى عدد ضحايا الأسبوع الماضي هذا العدد بالفعل، ومع ذلك، فإن أحد المسارات المحتملة للصراع الحالي قد يكون في الأساس إعادة تلك الأحداث المأساوية، إلى جانب التنفيذ الأكثر صرامة للعقوبات الأميركية على النفط الإيراني.
زادت طهران إنتاجها النفطي بما يصل إلى 700 ألف برميل يومياً هذا العام، ويشير تبادل الأسرى والإفراج عن الأصول المالية (الإيرانية) إلى التحسن النسبي في العلاقات مع الولايات المتحدة، وإذا اختفى الخام (الإيراني من السوق) تحت الضغط الأميركي، تقدِّر “بلومبرغ إيكونوميكس” زيادة تتراوح بين 3 دولارات إلى 4 دولارات في أسعار النفط.
سيكون التأثير على الاقتصاد العالمي وفق هذا السيناريو ضئيلاً، خاصة إذا قامت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بتعويض النفط الإيراني المفقود باستخدام طاقتهما الاحتياطية.
قالت وزيرة الخزانة جانيت يلين، خلال مشاركتها باجتماعات صندوق النقد الدولي، إن الولايات المتحدة “تراقب التأثيرات الاقتصادية المحتملة للأزمة”، لكنها أضافت أنها لا تتوقع أن تكون (الأحداث) “المحرك الرئيسي المحتمل لآفاق الاقتصاد العالمي”، وإذا تم احتواء الصراع، فمن المرجح أن يكون هذا هو التقييم الصحيح.
السيناريو الثاني: حرب بالوكالة
ماذا لو لم يتم احتواء الصراع؟
تبادل “حزب الله” وهو حزب سياسي وجماعة مسلحة تدعمها إيران ويعتبر لاعباً قوياً في لبنان، إطلاق النار بالفعل مع القوات الإسرائيلية على الحدود، وقال إنه ضرب موقعاً للجيش الإسرائيلي بصواريخ موجهة.
إذا امتد الصراع إلى لبنان وسوريا، حيث تدعم إيران أيضاً جماعات مسلحة، فسوف تتحول الاشتباكات فعلياً إلى حرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل، وبالتالي سترتفع التكلفة الاقتصادية.
يقول يائير غولان، نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق: “إيران وحزب الله يراقبان ويقيّمان الوضع.. إذا انضم حزب الله إلى الحملة، فإن التوقيت قد يكون بعد بدء عملية برية في غزة”.
ومن شأن التصعيد على هذه الجبهات أن يرتفع احتمال نشوب صراع مباشر بين إيران وإسرائيل، مما سيؤدي على الأرجح إلى ارتفاع أسعار النفط.
ففي الحرب القصيرة الدموية التي حدثت بين إسرائيل وحزب الله عام 2006، قفز سعر النفط بمقدار 5 دولارات للبرميل.
وبالتالي فإن أي تحرك مماثل اليوم من شأنه أن يرفع السعر بنسبة 10% إلى نحو 94 دولاراً، وهو أعلى من الصعود الذي قد ينتج عن السيناريو الأول (اقتصار الصراع على غزة).
ويمكن أن تتصاعد التوترات أيضاً في المنطقة الأوسع، خاصة أن مصر ولبنان وتونس تمر بحالة ركود اقتصادي وسياسي، كما أن رد إسرائيل على هجوم “حماس” قد يثير احتجاجات.
وتجدر الإشارة إلى أنه في الشارع العربي، فالخط الفاصل بين المسيرات المناهضة لإسرائيل والاضطرابات المناهضة للحكومة رفيع للغاية، وبالتالي فإن تكرار الربيع العربي، وموجة الاحتجاجات والتمرد التي أطاحت بالحكومات في أوائل 2010، ليس مستبعداً.
ووفق هذا السيناريو، سيتكون التأثير الاقتصادي العالمي من صدمتين: قفزة في أسعار النفط بنسبة 10%، وعزوف الأسواق المالية عن المخاطرة تماشياً مع ما حدث خلال الربيع العربي؛ وهو ما يتلخص في ارتفاع مقداره ثماني نقاط بمؤشر التقلب (يُعرف أيضاً بمؤشر الخوف) “VIX”، وهو مقياس يُستخدم على نطاق واسع للنفور من المخاطرة.
سيؤدي هذا إلى فقدان النمو العالمي 0.3 نقطة مئوية العام المقبل؛ ليصل حجم الناتج المفقود إلى 300 مليار دولار. ومن شأن ذلك أن يبطئ وتيرة النمو إلى 2.4%. وباستبعاد أزمة كوفيد 2020 والركود العالمي في 2009، سيكون هذا أضعف نمو منذ ثلاثة عقود.
كما سيسهم ارتفاع أسعار النفط بنحو 0.2 نقطة مئوية في زيادة معدل التضخم العالمي، ما يبقيه بالقرب من 6%، ويواصل الضغط على محافظي البنوك المركزية لإبقاء السياسة النقدية متشددة حتى في ظل النمو المخيب للآمال.
السيناريو الثالث: الحرب بين إيران وإسرائيل
اشتعال صراع مباشر بين إيران وإسرائيل هو سيناريو منخفض الاحتمال، لكنه خطير، إذ يمكن أن يتسبب في ركود عالمي. ومن شأن ارتفاع أسعار النفط والأصول الخطرة أن توجه ضربة قوية للنمو، وأن تدفع التضخم إلى مستوى أعلى.
يقول حسن الحسن، وهو زميل باحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: “لا أحد في المنطقة، ولا حتى إيران، يريد أن يرى تطور الصراع بين حماس وإسرائيل إلى حرب إقليمية شاملة.. هذا لا يعني أن ذلك لن يحدث، خاصة مع تأجج الانفعال، فاحتمال سوء التقدير كبير”.
لطالما اعتبرت إسرائيل طموحات إيران النووية بمثابة تهديد وجودي لها، وقد أدت تحركات طهران لبناء تحالف عسكري مع روسيا، واستعادة العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية وإقامة علاقات مرنة مع الولايات المتحدة، إلى زيادة قلقها.
أرسلت إسرائيل والولايات المتحدة رسائل متضاربة حول تورط إيران في هجوم حماس. وقال وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر في 9 أكتوبر الجاري: “هناك بعض الأدلة تشير إلى أنهم ربما كانوا على علم بذلك (أي هجوم حماس المباغت على إسرائيل)”.
فيما قال المسؤولون الأميركيون إن لديهم أدلة على أن القادة الإيرانيين فوجئوا بالهجوم، حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في 11 أكتوبر. رغم ذلك، اعتبر المسؤولون إيران متواطئة بشكل عام لأنها تمول وتسلح حماس.
ويقول الحسن، إنه في حالة المواجهة بين إسرائيل وإيران، من المرجح أن تسعى طهران إلى تفعيل كامل شبكتها من حلفائها في سوريا والعراق واليمن والبحرين، و”سيكون أمامها قائمة طويلة من الأهداف الغربية الصعبة والسهلة في المنطقة للاختيار من بينها”.
ووفق هذا السيناريو، فإن تزايد التوترات بين القوى العظمى من شأنه أن يزيد من الاضطرابات المتداخلة، فالولايات المتحدة حليف وثيق لإسرائيل، في حين تعمل الصين وروسيا على تعميق العلاقات مع إيران. يشعر المسؤولون الغربيون بالقلق من أن الصين وروسيا سوف تستغلان الصراع لتحويل الانتباه والموارد العسكرية عن أجزاء أخرى من العالم.
ومع حقيقة أن نحو خُمس إمدادات النفط العالمية تأتي من منطقة الخليج، فإن الأسعار سترتفع بشكل كبير، وتكرار الهجوم على منشآت “أرامكو” من قبل المجموعات المسلحة الموالية لإيران مثلما حدث عام 2019، ما أدى إلى انقطاع ما يقرب من نصف إمدادات النفط السعودية، ليس أمراً مستبعداً.
من المستبعد أن يتضاعف سعر النفط الخام أربع مرات، كما حدث عام 1973 عندما فرضت الدول العربية حظراً على النفط رداً على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في حرب أكتوبر.
ولكن إذا تبادلت إسرائيل وإيران إطلاق الصواريخ، فقد ترتفع أسعار النفط إلى مستويات تماثل الفترة التي أعقبت غزو العراق للكويت عام 1990. وحيث إن أسعار النفط حالياً أعلى كثيراً، فإن ارتفاعاً بهذا الحجم قد يصعد بالأسعار إلى 150 دولاراً للبرميل.
من جانب آخر، لن تتمكن الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى السعودية والإمارات من إنقاذ الموقف في حال قررت إيران إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره خُمس إمدادات النفط العالمية يومياً، كما سيتضاعف العزوف عن المخاطرة في الأسواق المالية، بقدر ما حدث عام 1990، أي بارتفاع يوازي 16 نقطة في مؤشر الخوف (VIX).
وبجمع هذه الأرقام، يتوقع النموذج الإحصائي لـ”بلومبرغ إيكونوميكس” انخفاض النمو العالمي بمقدار نقطة مئوية واحدة في 2024 ليصل إلى 1.7%، ومن الصعب تعريف حالات الركود العالمي، فسرعة توسع الاقتصادات مثل الصين تعني أن الانكماشات الصريحة نادرة. لكن نسبة 1.7% تستوفي المعايير.
ومع استبعاد صدمات جائحة كوفيد والأزمة المالية العالمية، فإن هذا سيمثل أسوأ نمو منذ 1982، وهي الفترة التي رفع فيها الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة لاحتواء التضخم الناتج عن الصدمة النفطية خلال السبعينيات.
إضافةً إلى ذلك، فصدمة نفطية بهذا الحجم من شأنها أن تعرقل الجهود العالمية لكبح جماح الأسعار، ما يترك معدل التضخم العالمي عند 6.7% العام المقبل. وفي الولايات المتحدة، سيظل هدف الاحتياطي الفيدرالي لمعدل التضخم عند 2% بعيد المنال، كما سيقف سعر البنزين الباهظ عقبة أمام إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن.
طريق أكثر قتامة
ارتفاع عدد القتلى في إسرائيل يرفع من احتمال حدوث انتقام دموي وحرب إقليمية، ومع ذلك، فإن ميزان الاحتمالات ما يزال يميل نحو احتواء الصراع، مع تكلفة باهظة في المعاناة الإنسانية، لكن تأثيره على الاقتصاد والأسواق سيكون محدوداً.
الشيء الوحيد المؤكد هو أن الآمال في شرق أوسط أكثر استقراراً أصبحت في مهب الريح. ففي السنوات الأخيرة، أدى التقارب بين السعودية وإيران، ومعاهدات السلام بين إسرائيل والعديد من الدول العربية مع احتمال أن يحذو السعوديون حذوها قريباً إلى زيادة التوقعات بأن المنطقة قد تشهد نهاية لعقود من الصراع.
وبدلاً من ذلك، تواجه هذه الآمال تحديات جديدة، ويُظهر غزو روسيا لأوكرانيا، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتوترات المتزايدة بشأن تايوان، أن الجغرافيا السياسية عادت كمحرك للنتائج الاقتصادية والأسواق. وفي الشرق الأوسط، فهي لم تختف أبداً.
المصدر: الشرق