كان الغريب في الأمر يومها أن سلطان مسقط، الذي كان الكاتب الفرنسي والرحالة المدهش بيار لوتي (1850 – 1923) قد أسهب في التمهيد للحديث عن لقائه به وعن نظافة عاصمة ملكه ووداعة سكان العاصمة وانتشار اللون الأخضر النباتي في المناطق التي قيّض له التجوال فيها، كان الغريب إذاً، أن ذلك السلطان لم يطرح على زائره الفرنسي الشهير سوى عدد قليل جداً من الأسئلة لعل واحداً منها فقط بدا له هاماً وذا مضمون.
فقد سأل السلطان زائره، وباعتباره مواطناً فرنسياً على أية حال لا أكثر، لماذا لا تتوقف السفن التابعة لفرنسا في ميناء مسقط إسوة بسفن البلدان الأخرى التي تمر في المنطقة، ويفيدنا لوتي أنه لم يكن لديه جواب على ذلك السؤال بل اكتفى بالتساؤل بدوره حائراً في حضرة السلطان: “حقاً لماذا لا تتوقف سفننا هنا تاركة المجال واسعاً لتفرد السفن الإنجليزية والألمانية بالمنطقة؟!”.
والحقيقة أن لوتي لا يحكي لنا شيئاً آخر عما قد يكون دار من حديث بينه وبين ذلك السلطان “اللطيف المرتدي دشداشة بيضاء أنيقة وشديدة النظافة تحت عباءة بنية موشاة بأطراف ذهبية بالغة الجمال والأناقة”.
والسلطان نفسه كان بالغ الحسن على أية حال كما يخبرنا لوتي، الذي يضيف أن “له عينين جميلتين كبيرتين ووجه رجل ثلاثيني ذي بشرة برونزية نقية وسمات دقيقة منتظمة يشع وجهه بابتسامة عريضة تشي بترحيبه الرحب بنا”.
أرستقراطية مبررة
وهنا يضيف لوتي أن السلطان بدا له ولرفاقه في الزيارة على ذلك النحو الودود وهو يقف مرحباً بهم على عتبة قصره “حيث تفضل بالنزول للقائنا، ذلك الإمام السلطان سيد مسقط الذي يحكم وحده واحدة من آخر البلدان العربية المستقلة”.
ويخبرنا لوتي للمناسبة، أن جدود هذا الرجل “كانوا ملوكاً قبل مئات السنين من خروج أسرنا الأوروبية الحاكمة من ظلمات الجهل العميق. ومن هنا لا شك أن لديه ما يبرر أرستقراطيته الواضحة وبساطته الساحرة”.
ومع ذلك يسكت لوتي، الثرثار عادة فيما ينقل من أحاديث ومداولات تدور بينه وبين حكام المدن والبلدان التي يتجول بينها حول العالم،
ويسكت عن أية أحاديث أخرى سجلها خلال تلك الزيارة فيما عدا ملاحظة السلطان المتعلقة بالغياب الفرنسي عن ثغور بلاده.
فهل كان وقت السلطان حينها أضيق من أن يتيح للكاتب الزائر أن يسمع منه أكثر من عبارات المجاملة اللطيفة التي تبادلها رجل مسقط والمنطقة القوي قبل أن ينصح ضيوفه بالتجوال في المدينة خلال الساعات التي تبقت لهم قبل عودة سفينتهم للإبحار؟”.
لقد شدد السلطان على أهمية أن يزوروا المناطق “الصحراوية القليلة” في بلاده غير بعيد من مسقط “فهي تتمتع بسحر خاص”. ومن الواضح أن الفكرة قد راقت للوتي الذي أخبرنا طوال كتاباته عن الشرق الأدنى كم أنه عادة مولع بالصحراء.
لكنه سرعان ما تذكر أن عليه أن يستأنف رحلته خلال وقت قصير فـ”شكرنا سيد البلد وودعناه على أمل التمكن من العودة إلى مسقط مرة أخرى في زيارة أطول”.
وبالفعل عند الغروب سيجد لوتي نفسه على ظهر المركب من جديد متأملاً في جمال تلك المدينة التي كان على أية حال قد زارها طوال الأيام القليلة السابقة التي كان ينتظر فيها، موعد زيارته للسلطان منذ وصول السفينة إلى ميناء مسقط.
مدينة مبهرة
كان ذلك في أحد الأيام الرائقة من ربيع عام 1900 حين كان بيار لوتي في طريقه لزيارات آسيوية تشمل مدناً فارسية وبعض أنحاء الهند وتوقفت السفينة لثلاثة أيام في مسقط للتزود بالمؤن والمياه فكانت زيارته للمدينة التي فتنته واحدة من أقصر الزيارات التي قام بها في ذلك الحين إلى مدينة عربية.
وعلى رغم قصر الزيارة سيكتب لوتي عن مسقط وزيارته لها مقالاً طويلاً نشرته مجلة “العالمين”في ربيع عام 1902، هو مقال لفت الأنظار بخاصة أن إيجابية لوتي في حديثه عن مسقط بدت متأثرة بما كان قد قاساه قبل ذلك خلال زيارة قام بها لإقليم بلوشستان الذي بدا له لا يطاق ملوث الأجواء قذر الأزقة يعاني فيه الزائر الغريب من عدوانية السكان.
وربما عبر المقارنة بين المنطقتين حمل وصف لوتي لمسقط كل ذلك القدر من الانبهار الذي لم يكن معتاداً على إبدائه تجاه أية منطقة يزورها.
وكان موكب لوتي قد ترك “بلوشستان الكئيبة منذ ثلاثة أيام، ولكن ظل طيف صحارى هذه المنطقة المريضة يطاردنا طوال انتقالنا، نحن الذين طوال العبور على السفينة لم نر غير الشمس اللاهبة والماء العكر والأمواج الضبابية”… ولكن عند صباح اليوم الرابع بعد مغادرة بلوشستان “تبدل كل شيء إذ حتى الشمس بدت لنا عند شروقها فجر ذلك اليوم ذات روعة خالصة.
وكانت الجزيرة العربية قد باتت على مرمى حجر منا حيث بدت وكأنها انبثقت بغتة خلال الليل وراحت قمم المرتفعات تلوح بادية الشموخ عليلة الهواء مشعة بنور إلهي، والغريب أن الأرض العربية المعهود عنها كونها أرض الجفاف كانت هي التي أسدلت على عناصر المشهد هنا روعة ألوانها”.
مدينة تتأمل صورتها
وكان ذلك الشعور هو الذي خامر لوتي والسفينة تدخل ميناء مسقط وقد لاحت الحصون العربية بأبراجها الصغيرة ناشرة في المشهد بياض الكلس.
وهكذا “رأينا مدينة الأئمة بيضاء بيضاء صامتة تحتضنها الشمس احتضان السر الغامض عند أسفل ذلك الركام من الصخور”.
ويخبرنا لوتي أنه لم ير في الميناء أية سفينة بخارية أو أي مركب شحن يرسو أمام المدينة “الوديعة الساكنة التي تبدو كنرسيس منحنية على مياه البحر تتأمل صورتها”.
لكنه رأى عدداً من المراكب الشراعية التي بدت له آتية من ماض سحيق وهي تدخل الميناء ساحرة هادئة فاردة قلوعها في وجه ضربات ريح حارة ناعمة إلى جانب عدد من تلك المراكب العربية الصغيرة التي تستخدم عادة في صيد اللؤلؤ”.
والحال أن المرء يخيل إليه أمام مشهد تلك المراكب الصغيرة والمراكب الشراعية أنه دخل واحدة من مدن الحكايات العتيقة رائعة عند ضفة بحر عربي في زمن الحروب الصليبية”.
وهنا، وكما كان إحساس بيار لوتي وهو يدخل قبل ذلك مدناً كدمشق ومكناس وغيرهما، شعر أيضاً وكأن طيف إيمان ديني عميق يخيم على المكان بأمومة مدهشة.
لكنه من ناحية أخرى تبين له أن المدينة التي بانت لعينيه أول الأمر، عن بعد، بيضاء راحت تلوح الآن مليئة بالأزقة والألوان “بشكل جعل ما يشبه ليلاً فرحاً يخيم فوق الأسواق ذات السقوف الواطئة”.
وبدا له أن ثمة داخل تلك الأزقة التي بدت ليلية عتمة بعض الشيء “كأن ثمة سحراً وألماً يتمازجان معاً. فيشعر المرء بذلك القلق الذي قد يصعب إعطاؤه اسماً محدداً. ألم يفيض على طول الأزقة بل في طول الشرق وعرضه، عن الصمت المخيم عن توهان الوجوه المحجوبة لرجال كانت أو لنساء… بل عن البيوت المغلقة الصامتة وكأنها مهجورة”.
عندما يمر الأجنبي
ومع ذلك مر لوتي في المدينة بأزقة تصخب بالحياة “ولكن من نوع الحياة ذات المذاق الشرقي الصرف الذي يلوح شديد البعد عنا نحن الغربيين.
ففي مسقط، كما في معظم مدن الشرق، ثمة على الدوام صفوف طويلة ومتلاصقة من الحوانيت التي تبيع شتى أنواع البضائع بل ألوف منها في الظل… ودائماً في الظل، من الأقمشة ذات الرسوم البدائية، إلى العقود المعدنية والخناجر المعقوفة ذات القبضات الفضية، مروراً بالتوابل والأعشاب وكل ما يخطر أو لا يخطر في البال. لكن تلك الحوانيت كانت أشد عتمة من الأزقة نفسها…”.
وخلال جولاته في المدينة وتحت وطأة حر جعله يشعر وكأنه “يُشوى داخل فرن لا يرحم”، راح لوتي يتأمل أولئك الرجال الصغار النحيلين الذين أدرك أنهم بدو آتون من المناطق الصحراوية.
وهو أدرك ذلك كما يخبرنا من نبل سحناتهم وحدّة نظراتهم ورهافة حركاتهم “حين كانوا يستديرون فجأة مبتعدين في سيرهم كيلا يصطدموا بالأجانب العابرين الأزقة مثلهم. وكانت النساء العابرات المتشحات بسواد غامق يفعلن الشيء نفسه لكن هنا فعل أشباح يصعب على الغريب إدراك ماهيتها ولا سيما حين تلتصق الواحدة منهن بأقرب جدار إليها حين تشاهد أجنبياً رجلاً كان أو امرأة”!!