بودابست الرائعة، إحدى أجمل وأرقى مدن أوروبا، يحدّها ويؤطّرها نهر الدانوب فيخالها الزائر كأنها منبثقة منه، اتّحدت هذه العاصمة بجزأيها بودا (الواقعة على الضفة الغربية لنهر الدانوب) وبست (على الضفة الشرقية) عام 1873، لتصبح ثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية النمساوية المجرية.
ومن يزور مبنى البرلمان الشاسع، والقلعة، والقصر، سيشعر أنه أمام عمارة أسطورية. لكن حقيقة بودابست أبعد من روعة هذه المعالم.
فبودابست اليوم، هي نتيجة عقود من التغيير السريع الذي اختبرته عقب انهيار الشيوعية عام 1989، وتفجّر الطاقة الإبداعية التي ترافقت مع الحريات الجديدة. فقساوة 40 عامًا من الحكم الشيوعي، وقبلها الفاشية، خلّفا بصماتهما في أنحاء المدينة، لكن لا مفر من الصمود هنا والتسلح بالقدرة على مواجهة أكبر التحديات.
مسألة حساسة
قبل 35 عامًا فقط، كانت أجواء بودابست مغايرة عما هي عليه اليوم، حيوية وتنبض بالحياة، كان يخيم عليها جو من الخوف والرعب، وكان شارع 60 أندراسي، المركز العصبي لكل ذلك.
اليوم، بات موطنًا لمتحف بيت الإرهاب (House of Terror Museum). في السابق، كان مقرًا للحزب النازي المحلي، وبعد الحرب العالمية الثانية وموقع المجر داخل دائرة النفوذ السوفيتي، كان المركز الرئيسي للشرطة السرية الشيوعية.
ثم، منذ عام 2002، أصبح نصبًا تذكاريًا لمن تمّ أسرهم وحجزهم وتعذيبهم وقتلهم في هذا المبنى من قبل النظامين، خلال ما يطلق عليه من يعيشون في بودابست “الاحتلال المزدوج”. ويُعد جدار الصور الذي يُظهر أكثر من 3000 شخص لقوا حتفهم هنا تذكيرًا صارخًا بالوحشية التي عانى منها السكان المحليون خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
إن صخب الدعاية الشيوعية والخلايا الضيقة يضمن عدم ترك الزائرين أدنى شك في مدى صعوبة هذه الأوقات.
التصالح مع تاريخ بودابست لا يخلو من التحدي. فتجاهله سيكون أمرًا غير مسؤول، لكن معالجة الأخطاء أمر حساس، حتى اليوم.
بينما يسلّط متحف “بيت الإرهاب” الضوء على أهوال الاحتلال الخفية، يظهر منتزه ميمنتو المحاولات الخارجية الأكثر وضوحًا للحكام الشيوعيين لممارسة نفوذهم.
فهنا، هدم أكثر من 40 تمثالًا ونصبًا تذكاريًا بعد عام 1989 ووضعت في مكان جديد، صمّم لإظهار كيف أراد الاتحاد السوفيتي أن يعرف الجميع من كان مسؤولاً بالفعل.
إنه حل أنيق لمشكلة قديمة: كيف تحافظ على أمر يمثّل بوضوح جزءًا من ماضي البلد، أمر لم تعد ترغب بالاحتفال به، ولكن يجب تذكره.
نزعة استقلالية
هنغاريا اليوم لديها روح مختلفة كثيرًا عن روح الدولة التي عانت من الاحتلال لفترة طويلة. إنها جزء من الاتحاد الأوروبي، وهي عضو في الناتو وتشعر بأنها تواجه الغرب أكثر من أي وقت مضى.
هذا لا يعني، أن البلاد، وبودابست تحديدًا، ليس لديها نزعة استقلالية قوية، ولا مكان تشعر فيه بهذا الروح المحلية مثل Bakancsos Piac، سوق للسلع الرخيصة والمستعملة المزدحم. بعيدًا عن المسار السياحي، فهي مؤسسة، وتجربة في الضواحي، ومكان لمن لديهم دافعًا للشراء، ناهيك عن مكان لصقل مهاراتك في المساومة.
ويفتح هذا السوق أبوابه في الساعة 6 من صباح عطلة نهاية الأسبوع.
وإذا كان Bakancsos Piac مشبعًا بروح بودابست، فلعبة كرة القدم الزرية أيضًا. تُعرف هذه اللعبة التي تعود إلى قرن من الزمان أيضًا باسم كرة القدم القطاعية، ولديها عشاق من الرجال البالغين، الذين بلغوا سن الرشد في وقت كانت أصبحت فيه هذه اللعبة جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية هنا.
المفهوم بسيط: الضغط على الأزرار عبر ملعب كرة قدم منضدية في محاولة لتسجيل هدف، غير أن إتقانها يتطلب سنوات من الممارسة.
إنها، بحسب اللاعب الأسطوري إمري هورفاث، رياضة وطنية مجرية، لقد مارسها مدة 52 عامًا، خلال مرحلة الاحتلال الشيوعي عندما لم تسمح له الحكومة ورفاقه بتشكيل اتحاد وطني.
اليوم، هورفاث يشغل منصب رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم الزرية، وهو مصمم على الحفاظ على هذا التقليد. إنه شيء تعلمه وأصدقاؤه من آبائهم وأجدادهم.
سحر لعبة البينبول
ورغم أن لعبة كرة القدم الزرية قدمت تحولًا كان الناس بأمس الحاجة إليه خلال الحكم الشيوعي، إلا أن المزيد من الواردات الغربية كانت متاحة أيضًا، فعلى بعد مسافة قصيرة سيرًا على الأقدام من نهر الدانوب، يعرض متحف بودابست بينبول الشهير (Flippermuzeum) حقبة عن الشباب الذين أهدروا الأموال، ويلقي نظرة على مصدر غير متوقع لإثارة للأطفال الذين كانوا متعطشين لأنواع أخرى من المرح خلال تلك السنوات العجاف.
وفي حين أن الآلات نفسها، وجميع الموديلات القديمة الرائعة، يستعيد مارك باتاكي المسؤول عن التسويق في المتحف، ذكريات الطفولة السعيدة إلا أنها تمثل أيضًا نموذجًا مثاليًا نشأ معه.
وأوضح بالقول إنه “لسبب ما، استوردت الدولة هذه الآلات بأعداد كبيرة إلى المجر. في الأساس، كانت هذه الآلات مرادفة للعالم الغربي وتعكس طعم الحرية والانتماء”.
ربما تكون هذه الطاقة ما يميز بودابست الحديثة، إنها مدينة ثابتة لجهة تسليط الضوء على تقاليدها وثقافتها في مواجهة المحن، فيما تتمتّع بروح فيها الكثير من الإقدام ما يمنح المكان استقلالية خاصة به.