حينما أبرمت شركتا الملكية الخاصة “أدفنت إنترناشيونال” و”واربورغ بينكوس” صفقة للاستحواذ على “بايوفارما سوليوشنز”، التابعة لمجموعة “باكستر إنترناشيونال” للتقنية الطبية، مقابل 4.25 مليار دولار، لم تطرقا باب البنوك سعياً وراء قروض أو لتبيعا سندات ضخمة لتمويل الصفقة، بل استعانتا بدلاً من ذلك بعمالقة الإقراض الجدد: صناديق الإقراض المباشر.
تتخطى الشركات وصناع القرار أسواق الدين العام وبنوك الاستثمار هذه الأيام حين يحتاجون لاقتراض مليارات الدولارات لتمويل الاستحواذ، فقد بات الإقراض المباشر أحدث آليات الإقراض في “وول ستريت” وأكثرها جاذبية، خاصة بعد إدراج هذه القروض رسمياً تحت “فئة أصول”.
بالتالي، أزاحت مؤسسات الإقراض المباشر البنوك لتصبح مصدراً رئيسياً لرأس مال الاستحواذات، كما اعتمدته صناديق التقاعد ليكون “استثماراً بديلاً” شائعاً، لذا قد تسمع عنها حين تتحدث إلى مستشارك المالي مستقبلاً.
تضم قائمة الشركات المهيمنة على سوق الإقراض المباشر معظم اللاعبين الذين انتزعوا حزمة تمويلية دانت ملياري دولار لإنجاز صفقة “باكستر”، ومنها “أريس مانجمنت” (Ares Management) و”بلاكستون” و”بلو أويل كابيتال” (Blue Owl Capital) و”إتش بي إس إنفستمنت بارتنرز” (HPS Investment Partners). تحاول الهيئات الناظمة اللحاق بالركب فيما توشك السوق على خوض أول اختبار حقيقي لها.
نمو متسارع
تلقت سوق الإقراض المباشر دفعة قوية مع إقرار الكونغرس قانون “دود-فرانك” لعام 2010 استجابةً للأزمة المالية العالمية، ما ساهم في عزل كثير من مؤسسات الإقراض المحفوف بالمخاطر خارج القطاع المصرفي. بالتالي، كان مديرو الأصول المتخصصون سعداء لملء الفراغ آنذاك.
يمكن لمؤسسات الإقراض المباشر فرض أسعار فائدة أعلى من البنوك وأسواق الدين العام، كونها تصمم قروضاً لكل مقترض على حدة ولا تطرح الديون للتداول في العادة، فضلاً عن ربط أموالها لفترات طويلة.
لقد عمدت البنوك إلى تشديد معايير الإقراض مجدداً بعد الأزمة المصرفية الإقليمية التي ضربت القطاع المالي هذا العام، الأمر الذي قد يدفع مزيداً من المقترضين إلى أحضان مؤسسات الإقراض المباشر.
كانت السوق الناشئة قد شهدت نمواً سريعاً، إذ بلغ حجم القروض المباشرة نحو 1.5 تريليون دولار على مستوى العالم في سبتمبر 2022، مقارنةً بما يزيد قليلاً عن 300 مليار دولار بنهاية 2010، وفقاً لمزودة البيانات المالية “بريكين” (Preqin).
كما اتسعت أسواق السندات مرتفعة العائد (غير المرغوب فيها) والقروض التمويلية في الولايات المتحدة بالقدر ذاته تقريباً. مع ذلك، لا يرجح تراجع زخم السوق الصاعدة رغم تباطؤ التمويلات أخيراً، حيث تتوقع “بيركين” تمدد سوق الإقراض المباشر لتبلغ 2.2 تريليون دولار بحلول 2027.
يُنظر إلى الإقراض المباشر والاستثمار في الملكية الخاصة على أنهما ابنَيْ عمومة، حيث تجمع المؤسسات التي تعمل في المجالين رؤوس الأموال من المستثمرين، وهم عادةً من المؤسسات الكبرى، كصناديق التقاعد وشركات التأمين.
لكن بينما تستحوذ شركة ملكية خاصة على شركة ما أو على بعض أسهمها، لا يحصل صندوق الإقراض المباشر عادة على ملكية في أي شيء؛ بل يقرض الأموال مباشرةً ويتقدم صفوف المستحقين حال تخلف المقترض عن السداد.
مع ذلك، قد تلتبس الاختلافات بينهما على البعض. فقد أنشأت بعض أكبر شركات الملكية الخاصة، مثل “أبولو غلوبال مانجمنت” و”بلاكستون”، صناديق ضخمة للإقراض المباشر. على سبيل المثال، قادت “بلاكستون” تمويل صفقة استحواذ نظيرتيها “هيلمان وفريدمان” و”بيرميرا” على شركة “زيندسك” لتصنيع البرمجيات في أكبر صفقة شهدها قطاع الإقراض المباشر حتى الآن مقابل 5 مليارات دولار.
كان القطاع المصرفي قد شهد مولد الإقراض المباشر في 2016 مع تهاوي أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها، فقد كان المستثمرون متعطشين لعوائد أعلى.
مع ذلك، ما تزال سوق الإقراض المباشر في تنامٍ متزايد حتى مع ارتفاع معدلات الفائدة صوب 5% حالياً، فضلاً عن أدائها الجيد خلال العام الماضي رغم تراجع جميع الأسواق الأخرى تقريباً.
في حين لا يوجد مؤشر لتقييم القطاع بأكمله، فقد ارتفع مؤشر “كليف ووتر” للإقراض المباشر الذي يتتبع ما يقرب من 280 مليار دولار من القروض الخاصة للشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم بنسبة 6.29% في 2022، وذلك بالمقارنة مع خسائر قاربت 19% في مؤشر “ستاندرد آند بورز 500″، و11% في السندات غير المرغوبة، و1% في القروض التمويلية.
غياب الشفافية
عادةً ما تكون معدلات الفائدة على القروض المباشرة متغيرة، ما يعني أن المستثمرين يحصلون على أموال أكثر مع ارتفاع أسعار الفائدة، إضافةً إلى تضاعف مدفوعات بعض القروض مقارنةً مع ما كانت عليه في الأصل، فيعزز ذلك بدوره مخاطر التخلف عن السداد. لكن تصعب معرفة عدد القروض التي تعاني وطأة الضغوط نظراً لعدم تداولها في سوق ثانوية.
تتضمن معادلة النمو مجاهيل أخرى، إذ عادة ما تمثل القروض المباشرة أصولاً يحتفظ بها المستثمرون حتى تاريخ الاستحقاق، ما يمنحهم قدراً أكبر من الحرية عند تصنيف “جدارة” هذه الأصول، أو القيمة السوقية الحالية للقروض في محافظهم الاستثمارية.
بينما يساهم ذلك في عزل المستثمرين عن تقلبات السوق، إلا أنه قد يعني أيضاً إفراط هذه التقييمات في التفاؤل وربما تعمية الشركات المتعثرة.
من جانبها، تعتقد الهيئات الناظمة أن الإقراض المباشر لا ينطوي على مخاطر مؤثرة على النظام المالي حتى الآن، لكنها تعترف بعدم وجود رؤية واضحة بشأن هذه المخاطر نظراً لعدم خضوع القطاع للرقابة التي تخضع لها البنوك.
غير أن شريحةً من مؤسسات الإقراض المباشر تُعرف بشركات تطوير الأعمال، وهي صناديق متداولة علناً، تكشف عن القروض التي يُحتفَظ بها كأصول في محافظها وتقدم تقريراً بالنتائج الفصلية إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، فيما تتضمن إيداعات معظم الشركات الأخرى الإفصاحات الأساسية فقط.
سيتسبب ارتفاع أسعار الفائدة لفترة طويلة في معاناة الشركات الأكثر استدانة، التي لم تعد قادرة على تحمل مدفوعات الفائدة، بغض النظر عمَّا إن دخل الاقتصاد في مرحلة ركود أم لم يفعل.
لكن لم تشهد أعمال العديد من مديري الأصول الأصغر حجماً، الذين هرعوا إلى الاقتراض المباشر خشية تفويت فرصة الاستفادة من السوق الناشئة، تراجعاً خطيراً.
في غضون ذلك، يواصل معدل التخلف عن السداد صعوده بعدما بلغ 2.15% خلال الربع الأول من هذا العام ارتفاعاً من 1% تقريباً خلال الربع الرابع من 2021، وفقاً لمؤشر “بروسكاورز” للتخلف عن سداد القروض المباشرة (Proskauer’s Private Credit Default Index)، الذي يرصد نسبة صغيرة من عثرات المقترضين.
لذلك، تتحمس مؤسسات الإقراض المباشر للتفاوض بهدوء على إعادة هيكلة الديون مقابل رسوم إضافية بدلاً من أن تلطخ حالات التخلف عن السداد سجل أدائها، ما يموه بدوره الوضع المالي الحقيقي للقطاع بشكل أكبر.
ذكر مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في تقرير صدر في مايو، أنه ليس قلقاً بشأن التعثرات، لكن الافتقار إلى الشفافية يصعب تقييم المخاطر التي يتعرض لها النظام المالي الأوسع نطاقاً.
بينما تحصل صناديق الإقراض المباشر على أموالها من مستثمرين متمرسين بشكل عام، إلا أن أموال المتقاعدين باتت تشكل نسبة متزايدة من تمويلات مؤسسات إقراض النظراء.
على سبيل المثال، تمتلك صناديق التقاعد العامة والخاصة في الولايات المتحدة نحو 31% من أصول صناديق الإقراض المباشر، أو 307 مليارات دولار، وفقاً لبيانات مجلس الاحتياطي الفيدرالي. بينما تملك شركات التأمين قرابة 10% من أصول تلك الصناديق.
على الصعيد التشريعي، أعربت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، ومنهم إليزابيث وارين العضوة الديمقراطية عن ولاية ماساتشوستس، عن دعمها للقواعد المقترحة لزيادة الإفصاح والشفافية لدى الصناديق الخاصة.
يقول المنخرطون في السوق إن النظام يعمل على النحو المنشود، حيث تمول البنوك قروضاً أكثر أماناً، فيما يوفر المتخصصون تمويلات تنطوي على مخاطر أكبر كاستثمارات طويلة الأجل. مع ذلك، يحرص قطاع الإقراض المباشر على الترويج لمنتجاته لدى مستثمرين أفراد.
قد يستدعي الكونغرس رؤساء صناديق الإقراض المباشر إلى واشنطن حين تقع الأزمة المالية التالية، جنباً إلى جنب مع المديرين التنفيذيين للبنوك، إن أراد التأكد من أن الشركات بإمكانها الوصول إلى الائتمان أو أن النظام المالي ليس مهدداً.
المصدر: Business week