تتفاقم أزمة السكن في ألمانيا في ظل تراجع بناء الوحدات السكنية الذي يرافقه تزايد عدد السكان والطلب على المساكن بأسعار معقولة.
فهل تتحمل الحكومة الألمانية لوحدها مسؤولية الأزمة وما الذي تفعله لمواجهتها؟
رغم بناء حوالي 300 ألف مسكن في ألمانيا خلال العام الماضي 2022، ما تزال أزمة السكن متفاقمة؟
وضعت حكومة المستشار أولاف شولتز نصب أعينها بناء 400 ألف مسكن سنويا بهدف الحد من أزمة السكن في ألمانيا، وتتفاقم هذه المشكلة بشكل خاص في المدن الكبيرة مثل برلين وميونيخ وهامبورغ وكولن (كولونيا).
بيد أن أحدث المعطيات الاحصائية الرسمية تشير إلى أن الحكومة أخفقت في تحقيق هذا الهدف رغم تأكيدها المتكرر على أهميته، فخلال العام الماضي 2022، تم بناء أقل من 295 ألف مسكن فقط، أي نحو 27 بالمائة أقل من المعدل السنوي لبناء المساكن خلال العقود السبعة الماضية اعتبارا من عام 1950.
في هذه الأثناء يتحسر الكثيرون على سنوات تم خلالها بناء أكثر من ضعف عدد المساكن حاليا، ففي عام 1973 على سبيل المثال تم بناء أكثر من 700 ألف مسكن، وفي عام 1995 زاد العدد على 600 ألف مسكن، مقابل ذلك تميزت سنوات حكم المستشارة السابقة أنغيلا ميركل بتراجع بناء المساكن إلى أدنى مستوياته في تاريخ ألمانيا المعاصر، إذ بلغ في عام 2009 على سبيل المثال أقل من 160 ألف مسكن.
فجوة تتسع بين العرض والطلب
أدى تراجع بناء المساكن منذ عام 2008 إلى نشوء فجوة كبيرة بين العرض والطلب، ويدل على ذلك تنافس أكثر من 150 شخص للحصول على شقة فارغة بأسعار معقولة، ويزد من حدة المشكلة تدفق ملايين اللاجئين من بلدان كثيرة على رأسها سوريا وأوكرانيا وأفغانستان بشكل أدى إلى زيادة الطلب على الشقق وخاصة في المدن الكبيرة.
وعلى ضوء هذا التدفق وارتفاع عدد سكان ألمانيا إلى أكثر 84.4 مليون نسمة خلال العام الماضي 2022، يتوقع أن يكون هناك نقص بأكثر مليون مسكن، وسبق لمجموعة العمل التابعة لمعاهد البحوث الاقتصادية الألمانية ARGE أن قدر النقص المذكور قبل موجات للجوء الجديدة من أوكرانيا بأكثر من 700 ألف شقة ومنزل.
مضاربات ورشاوى غير مألوفة
يؤدي التنافس الشديد على الشقق والمساكن الأخرى إلى انتعاش سوق المضاربات وظهور حالات فساد لم تكن مألوفة من قبل، ففي العاصمة برلين يجري الحديث عن دفع ما قد يصل إلى 5000 يورو رشوة للفوز بشقة مؤلفة من غرفة ومطبخ وحمام ومعروضة للتأجير من قبل الجمعيات السكنية التي تدعمها الدولة.
أما الذين لا يستطيعون الدفع فإن فرصهم هذه الأيام ضعيفة للحصول على سكن، ويدخل ضمن هؤلاء أصحاب الدخل المحدود الذين أدى التضخم وارتفاع الاسعار إلى تآكل قسم كبير قوتهم الشرائية.
في هذا السياق تفيد دراسة لمؤسسة هانس بوكلر، بأن مالكي العقارات أصبحوا حذرين من تأجير هؤلاء بسبب خوفهم من عدم القدرة على تحمل تكاليف السكن التي تزيد على 30 بالمائة من الدخل.
ضعف جدية الحكومة
يعود النقص الحالي في الشقق والمنازل إلى أكثر من سبب لعل أبرزها عدم إعطاء مسألة بناء المزيد منها أولوية في برامج الحكومات الألمانية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية رغم الزيادة المستمرة في الطلب.
في هذا السياق يفقتد خبراء أمثال عالمة الاجتاع لويزا شنايد، من عدم اتباع “استراتيجية حكومية تساعد على حل” بدلا من مناقشة المشكلة ووضع خطط لا يتم تنفيذها.
وإذا كانت الحكومة لا تبدو جادة بما فيه الكفاية لحل المشكلة، فإن عوائق أخرى ظهرت بشكل غير متوقع وعقدت المشكلة.
فمع اندلاع جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا ارتفعت أسعار الخشب والحديد ومواد البناء الأخرى، لاسيما وأن أوكرانيا وروسيا من أكبر المصدرين لها.
وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف بناء المنازل بنسبة لا تقل عن الثلث، ويزيد الطين بلة ارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف المعاملات الإدارية والبروقراطية المعقدة، ومع الارتفاع في التكاليف وأسعار الفائدة تراجعت حركة البناء وتوقفت الكثير من المشاريع.
ويدل على هذا التوقف مثلا تراجع تصاريح البناء خلال أبريل/ نيسان ومارس/ آذار الماضيين بنسب تراوحت بين 29 و32 بالمائة حسب مكتب الاحصاء الاتحادي الألماني، ويمثل هذا الانخفاض الأعلى من نوعه منذ مارس/ آذار عام 2007.
أولوية الحكومة ليست لبناء المساكن
إلى جانب حلفائها في حلف الناتو وجدت الحكومة الألمانية برئاسة أولاف شولتز نفسها في مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا التي تحظى بدعم سخي من دول الحلف، وتذهب تقديرات معهد البحوث الاقتصادية الألماني DIW إلى أن الحرب في أوكرانيا أدت إلى خسائر في ألمانيا بقيمة تتراوح بين 100 إلى 120 مليار يورو من الناتج المحلي الإجمالي حتى الآن.
ومع اندلاع الحرب اضطرت حكومة المستشار شولتز لإعطاء الأولويات لقضايا مستجدة مثل تحديث الجيش الألماني وإيجاد بدائل لمصادر الطاقة الروسية، وقد خصصت لهذا التحديث أكثر من 100 مليار يورو، في حين بقي الاهتمام بأزمة السكن بعيدا عن مثل هذا الاهتمام.
ويدل على ذلك مثلا، أن الحكومة لم تنشئ في عام 2022، سوى 20 ألف وحدة سكنية اجتماعية أو مدعومة من ميزانيتها من أصل 100 ألف وضعتها كهدف لها خلال العام الماضي 2022. وبدورها لا تتوقع لا تتوقع الجميعة الفيدرالية لشركات الإسكان والعقارات GdW بناء أكثر من 200 ألف شقة سنويا بشكل إجمالي في حال لم تقم السلطات المعنية بتقديم حوافز سياسية واقتصادية جديدة.
مشكلة ضحيتها الباحث عن سكن
في ظل الظروف الحالية وعلى ضوء الأولويات التي فرضت نفسها في مجالات الدفاع والطاقة فمن غير المرجح قيام حكومة المستشار أولاف شولتز بإعطاء أولوية لحل مشكلة السكن التي ستبقى قائمة خلال السنوات القادمة أو خلال العقد الحالي بناء على الفجوة المتزايدة بين العرض والطلب.
بيد أنه وفي حال خضعت الحكومة للضغوط المتزايدة الرامية لإلزامها بإيجاد حل فإن عليها تغيير سياستها وتخصيص صندوق تمويل خاص لبناء المساكن بقيمة لا تقل عن 50 مليار يورو حسب ديتمر فالبيرغ، المدير التنفيذي لمجموعة العمل التابعة لمعاهد البحوث الاقتصادية الألمانية ARGE.
غير أن الدعم الحكومي لا يكتمل بتخصيص المال اللازم وحسب، بل أيضا باتخاذ خطوات اخرى مثل تقديم إعانات وقروض ميسرة وحوافز ضريبية للعائلات التي تريد شراء شقق أو بناء منازل خاصة بها.
وفيما عدا ذلك فإن مشكلة قلة المساكن بأسعار معقولة ستزداد حدة، ومما يعنيه ذلك أن المزيد من الأعباء المالية والضغوط النفسية والمشاكل الاجتماعية الأخرى ستواجه المستأجرين والباحثين عن سكن.
المصدر: DW