احتضنت لندن على مدار يومين، فعاليات مؤتمر دولي لبحث إنعاش أوكرانيا قبل وبعد انتهاء حربها مع روسيا.
الحضور مثل 60 دولة ومئات الشركات حول العالم، وقد اتُفق على تقديم مليارات الدولارات لتنفيذ هذه المهمة الضخمة. ولكن لابد من خارطة طريق تضمن لكييف ليس فقط الأموال، وإنما الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في أسرع وقت.
بالنسبة للمملكة المتحدة لا يوجد ما يدعو للانتظار، فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تعهد بإنفاق أموال الإنعاش بـ”حكمة”.
أما في شأن عضوية الحلف الدفاعي، فلا ترى لندن ضيراً في استثناء كييف من الشروط المطلوبة للانضمام إلى “الناتو”، ولا تخشى من نقمة روسية تولدها هذه الخطوة، فتدفع بموسكو نحو رد فعل غير متوقع.
وكشف مؤتمر لندن بعض نقاط التباين بين سطور الخطاب الغربي الموحد إزاء دعم أوكرانيا، كما سلط الضوء أكثر على الإصرار البريطاني على تصدر المشهد الدولي في مساندة كييف، رغم تواصل الانتقادات الداخلية والخارجية، لتراجع قدرة المملكة المتحدة عسكرياً، وحاجتها إلى مزيد من العمل والإنفاق لتعزيز إمكاناتها في العتاد والجنود.
مخرجات المؤتمر
رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شيمهال، قدر الدعم الغربي الذي سخر لبلاده عبر “مؤتمر لندن” بنحو 7 مليارات دولار، جلها من الولايات المتحدة وأوروبا والمملكة المتحدة، وقررت أميركا تقديم مساعدات إضافية لكييف بأكثر من 1.3 مليار دولار، فيما تعهدت حكومة بريطانيا بحزمة دعم “متعددة السنوات” بقيمة 3 مليارات دولار.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهو يملك برنامج دعم بعشرات مليارات الدولارات تنفق على مدار سنوات لإنعاش أوكرانيا وإعادة إعمارها.
ولكن تحديات حقيقية تواجه صرف كل هذه الأموال قبل انتهاء الحرب، وعلى رأسها غياب البنية الإدارية والمالية اللازمة لضمان الوصول إلى الأهداف المرجوة من كل هذا الدعم الغربي السخي إلى كييف.
تقول آنا بيردي، المديرة المنتدبة لشؤون العمليات في “البنك الدولي”، إن أوكرانيا تحتاج إلى 14 مليار دولار هذا العام وحده من أجل النفقات الأساسية، مثل المعاشات والرعاية الصحية، إضافة إلى تمويل الإصلاحات العاجلة التي تحتاجها البنية التحتية مثل الطرق ونظام الطاقة، التي تعتبر حاسمة بالنسبة لاقتصاد البلاد المنهك بسبب الحرب.
حتى في المليارات السبعة التي تتوقعها كييف هذا العام، ثمة صعوبة في إنفاقها واستثمارها بما يتوقع الحلفاء وتقتضي حاجة البلاد. ليس بسبب الفساد فقط، وإنما نتيجة عدم القدرة على توظيف الأموال وإدارتها بالشكل المطلوب من قبل مؤسسات الدولة، كما يقول رئيس وكالة الدولة الأوكرانية للترميم وتطوير البنية التحتية مصطفى نعيم.
ويوضح المسؤول الأوكراني، أن 2000 موظف يعملون في وكالة الترميم والتطوير، وقد تلقوا طلبات لإعادة إعمار وتأهيل منشآت في الغرب الأوكراني أكثر من الشرق حيث تشتعل المعارك. ونوه إلى أن بلاده كانت قبل الحرب تعاني فائضاً في المنشآت بقطاعات مختلفة، و”ليس من المجدي الحديث عن إعادة بناء كل شيء”.
الإنفاق والاستثمار
ثمة مشكلة أخرى تواجه مساعي إنعاش أوكرانيا اقتصادياً، تتمثل بخشية الشركات المحلية والأجنبية من الاستثمار في البلد الأوروبي قبل انتهاء الحرب، إذ ترفض شركات إعادة بناء مقراتها المهدمة خشية عودة القتال لمناطقها، وتمتنع أخرى عن التقدم بطلبات التعويض عن الأضرار التي طالتها في الحرب، بسبب غياب الآليات الواضحة.
في الخشية من مخاطر الحرب، أطلق “مؤتمر لندن” نقاشاً لوضع خطة تأمين ضد الحرب تشجع الشركات الخاصة والحكومية على الاستثمار في أوكرانيا. لم تتضح تفاصيل هذه الخطة بعد، كما أن كلفة مثل هذا التأمين يمكن أن تكون مرتفعة جداً ويصعب تقديرها وفق المعايير العامة أو الأدوات التقليدية، بحسب المحلل الاقتصادي أسلم بوسلان.
ويلفت بوسلان في حديث مع “الشرق” إلى أن شركات كبرى عدة في مجال التأمين ستسارع اليوم لمساندة أوكرانيا ومساعدتها على إنعاش اقتصادها، بتشجيع ودعم من الحكومات الغربية. ونوه إلى أن هذه الشركات ستقوم بوضع معايير وأسس خاصة لتأمين المشاريع هناك، وتعزيز ثقة الاستثمار المحلي والأجنبي على المدى الطويل.
وبالفعل أعلنت شركات “لويدز” و”أون” و”فيينا للتأمين”، نيتها دخول السوق الأوكرانية والشروع في تمهيد الطريق أمام أصحاب المال والأعمال من أجل الاستثمار وتشييد المشاريع في الدولة الأوروبية. ولفتت في بيان صحفي إلى أنها ستقوم بإيجاد حلول مبتكرة لصناعة التأمين وإدارة المخاطر، تناسب احتياجات الشركات والأفراد للعمل هناك.
نقاط تباين
في مخرجات المؤتمر، بقيت ثلاثة أسئلة معلقة، الأول يتعلق بإمكانية استخدام الأصول والأموال الروسية المصادرة في القارة الأوروبية والولايات المتحدة لإعادة أعمار أوكرانيا، والثاني حول انضمام كييف إلى حلف “الناتو”، قبل أو بعد انتهاء الحرب مع موسكو، أما الثالث فيخص “الوجه الآخر” للحماس البريطاني الكبير في هذه الجبهة.
وكالة “بلومبرغ” تقول إن الاتحاد الأوروبي اكتشف أنه لا يستطيع بشكل قانوني، مصادرة كل الأصول الروسية المجمدة التي تصل قيمتها إلى 200 مليار يورو (يورو = 1.1 دولار). وكخيار بديل، يعتزم التكتل التركيز على الاستخدام المؤقت لهذه الأموال والأصول من أجل دعم كييف.
رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، أقر بوجود تحديات في توحيد جهود الغرب على هذا الصعيد. ولكنه أكد أن بلاده وحلفاءها يبحثون في كل السبل القانونية لإجبار روسيا على تحمل تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا وتعويض المتضررين من الحرب، ويبدو أن لندن ستكون أسرع العواصم الغربية في التعامل مع هذه المعضلة وتجاوزها.
الحكومة البريطانية تتسلح بتشريع جديد أعلن عنه وزير الخارجية جيمس كليفرلي، يسمح لها بمواصلة العقوبات على موسكو إلى حين تعويض الأوكرانيين، ويتيح لها استغلال الأموال الروسية المجمدة في إعادة إعمار أوكرانيا. كما يجبر أي مواطن ومقيم في الدولة على الكشف عن أي أصول وأموال في المملكة المتحدة تتبع لحكومة روسيا.
ثمة تشريع مشابه يدرس في الكونغرس الأميركي، يسمح للرئيس بتحويل الأموال الروسية المصادرة لدعم أوكرانيا بعد انتهاء الحرب. ويبدو أن هذا التشريع سيتجاوز حدود الولايات المتحدة في تأثيره، ليشمل نحو 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة حول العالم، عبر آلية تعاون دولي من أجل تعويض المتضررين من الحرب.
عضوية سريعة
بعيداً عن الدعم المالي، تُلح كييف على انضمامها إلى حلف “الناتو” لمنع أي محاولات روسية لتوسيع دائرة الحرب أو تجديدها على الأراضي الأوكرانية. وما كان من الصعب تنفيذه قبل انطلاق المعارك بينها وبين جارتها في 24 فبراير 2022، قد يُنجز اليوم بالسهولة التي عبر عنها الرئيس فولوديمير زيلينسكي في أكثر من مناسبة.
الحكومة البريطانية أعلنت استعدادها لقبول عضوية أوكرانيا في الحلف الدفاعي بسرعة، ومن دون شروط كثيرة، تماماً كما حدث مع السويد وفنلندا، خاصة وأن الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرج أخبر وزراء خارجية الدول الأعضاء خلال لقاء غير رسمي في النرويج، أن ما يعرف بـ”خطة عمل العضوية”، حققتها أوكرانيا بشكل كامل.
ولطالما كان الموقف البريطاني متقدم بخطوة على بقية حلفاء كييف في هذا الشأن، ولكن يبدو أن هناك بين دول الاتحاد الأوروبي من بات يميل لهذا الموقف. إذ أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، أن بلادها تفكر بانضمام أوكرانيا إلى الناتو من دون “خطة إجراءات العضوية” التي تنص عليها المبادئ التأسيسية للحلف الدفاعي.
العقدة اليوم تكمن في ألمانيا والولايات المتحدة بشكل أساسي. إذ تتحفظ الدولتان على مثل هذا الإجراء، والحل على ما يبدو كما يقول ستولتنبرج، يكمن في وضع جدول زمني لانضمام الدولة الأوروبية إلى الحلف، مع مراعاة شروط، على رأسها إنجاز الأمر بعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وإتمام كييف للاستعدادات الديمقراطية.
وتوضح الباحثة في الشأن البريطاني جاسمين كلير، أن الدول الغربية متفقة على ضرورة وضع جدول زمني لانضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، ولكن المشكلة تكمن في أن رحلة الانضمام هذه لن تبدأ قبل انتهاء الحرب، التي لا يتضح حتى الآن مسار تحركها.
وتلفت كلير في حديث مع “الشرق” إلى أن بريطانيا “تريد أن تدفع باتجاه زيادة الدعم الغربي إلى كييف للحد الأقصى، ولكن ذلك لا يناسب خطط الاتحاد الأوروبي لمرحلة ما بعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
كما أن بروكسل لا تميل كثيراً إلى منح المملكة المتحدة نفوذاً عسكرياً متزايداً في القارة العجوز بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي”.
قيادة “الناتو“
العضوية السريعة لأوكرانيا، لن تكون هي العنوان الوحيد على أجندة قمة “الناتو” المقبلة في لتوانيا خلال الشهر المقبل. فالحلف يحتاج إلى حسم اسم الأمين العام الذي سيخلف ستولتنبرج بعد أشهر، خصوصاً أن الخلاف حول هذه النقطة لم يعد سراً، وتحديداً بين بريطانيا وفرنسا من جهة، وبين دول الاتحاد الأوروبي نفسها من جهة أخرى.
يقول تقرير لصحيفة “جارديان” إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يرفض تعيين وزير الدفاع البريطاني بن والاس أميناً عاماً لحلف شمال الأطلسي، فباريس وعواصم أخرى في الاتحاد الأوروبي تريد أن يكون خليفة ستولتنبرج من دول التكتل، ولن يقبلوا بقائد من المملكة المتحدة، بعد خروجها من التكتل.
لم يبد الرئيس الأميركي جو بايدن اعتراضاً علنياً على ترشيح بن والاس عندما تحدث إليه رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك خلال زيارته لواشنطن مطلع الشهر الجاري. ولكن صحيفة “ديلي ميل” البريطانية نشرت تقريراً مطولاً تحت عنوان: “هل عرقل بايدن، المعارض لبريطانيا، ترشيح الوزير بن والاس لقيادة حلف الناتو؟”.
جو بايدن يفضل التمديد للأمين العام الحالي للحلف، ولديه تحفظات على إدارة والاس لملف الحرب في أوكرانيا. هذه الأسباب، وفق صحف بريطانية، دفعت والاس إلى إعلان خروجه من السباق على قيادة الحلف.
إمكانات الجيش
صحيفة “إيكونومست” أول من نقل عن والاس انسحابه من السباق على قيادة الناتو خلال مقابلة أجرتها معه على هامش مؤتمر لندن لإنعاش أوكرانيا، وسألته فيها عن خطط بلاده لتطوير إمكاناتها العسكرية، خاصة وأن مختصين محليين يوجهون النقد للحكومة إزاء ما وصل إليه الجيش البريطاني اليوم من “ضعف وترهل”.
والاس قال إن الورقة الخاصة بوزارة الدفاع في هذا الشأن ستصدر في غضون أسابيع، وستعكس بوضوح الدروس المستفادة من حرب أوكرانيا. ونزه إلى أن الحرب سرّعت كل الخطط التي كانت موضوعة ومجدولة للتنفيذ حتى عام 2030، حيث سيبدأ تطوير دبابات “تشالنجر” قبل عام من الموعد المتفق عليه سابقاً، كما أن مدافع “هاوتزر” السويدية الجديدة التي تم شراؤها في مارس الماضي، ستدخل الخدمة في الربيع المقبل.
ولفت الوزير إلى أن الأموال هي العائق الوحيد أمام تطوير الجيش البريطاني، وما طلبه من ميزانية خلال العام الماضي حصل على نصفه. ووظف والاس هذا المال من أجل تجديد الذخائر ومشاريع الغواصات والرؤوس النووية الحربية. وشدد على أنه يفضل وضع أهداف ممكنة التحقق حالياً، على رسم أحلام يصعب تنفيذها في المدى القصير.
وتعرضت المؤسسة العسكرية البريطانية قبل أيام لانتقادات السير تيم رادفورد، نائب القائد الأعلى لقوات “الناتو” في أوروبا، إذ قال إن جيش المملكة المتحدة بات صغيراً جداً، ويحتاج إلى توسعته وتطويره في العتاد والجنود، منوهاً إلى أن الحرب في أوكرانيا أظهرت أن التقنية التكنولوجية لا تلغي دور الجنود والعتاد على الأرض.
المصدر: الشرق