رغم أكثر دورات رفع أسعار الفائدة تشديداً على مدى عقود، بدأ عدد قليل من الاقتصاديين، ممن كانوا يصرون على أنّ بإمكان الولايات المتحدة تفادي ركود اقتصادي، يتنفسون الصعداء.
تَوقَّع عديد من نظراء هولاء الاقتصاديين أنَّ ارتفاع أسعار الفائدة، التي قفزت 5 نقاط مئوية خلال ما يربو قليلاً على عام واحد، كان سيؤثر أكثر في التوظيف والاستهلاك الشخصي.
لكن معدل البطالة يقترب من أدنى مستوياته خلال أكثر من خمسة عقود، فيما يستمر المستهلكون بالإنفاق وتستقر سوق الإسكان.
في الوقت ذاته، تباطأت وتيرة التضخم بشكل لافت. يحيي ذلك المزيج الأمل من جديد بين المتفائلين، بمن فيهم رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، بتحقق سيناريو ينطوي على “الهبوط السلس” وتتبخر فيه ضغوط الأسعار دون أن يفقد عديد من الناس وظائفهم أو يحدث تحول نزولي في الاقتصاد.
لم يحظ الأمر بتوافق عامّ في الآراء بعد، فمن بين 27 محللاً اقتصادياً استطلعت “بلومبرغ” آراءهم في مطلع مايو، قال خمسة فقط إنهم لا يتوقعون دخول الاقتصاد الأميركي في ركود في مرحلة ما على مدى العام المقبل.
مع ذلك فإنّ نقطة البداية تتأجل مرة تلو أخرى، إذ تحافظ سوق عمل قوية على ارتفاع الأجور، وتراكمت المدخرات الفائضة خلال الجائحة لتعزيز القوة الشرائية للأسر الأميركية.
قالت إيلين زينتنر، كبيرة خبراء الاقتصاد الأميركي في “مورغان ستانلي”: “كلنا نكره ذلك التعبير (الأمر مختلف هذه المرة)، لكننا لم نشهد هذا الوضع من قبل. هذا الأمر فريد من نوعه”.
رياح معاكسة
تسارع زينتنر، وهي من ثُلّة المتفائلين في وول ستريت، إلى الإشارة إلى الرياح المعاكسة التي تواجه اقتصاداً تصفه بأنَّه “يحلّق على ارتفاع منخفض من الأرض ينُذِر بالخطر”.
تبعات فشل عدد من البنوك المحلية، التي انهارت تحت وطأة أسعار الفائدة المرتفعة، مستمرة، وقد تغيّر مراجعة البيانات، خصوصاً الوظائف، الآفاق المستقبلية.
يشبه ذلك الأمر رسالة باول إلى الصحفيين في أوائل هذا الشهر، بعدما رفع البنك المركزي سعر الفائدة القياسي لأكثر من 5% للمرة الأولى منذ 2007. قال باول: “قد تكون تلك المرة مختلفة بالفعل”، لكنه أضاف: “لا وعود في ما يخصّ ذلك الأمر”.
تدعم البيانات في الفترة الأخيرة موقف المتفائلين.
ازداد معدل التعيين في الوظائف خلال أبريل، ما خفض معدل البطالة إلى 3.4%. كما ارتفعت مشاركة القوى العاملة، خصوصاً في الفئة بين 25 و54 عاماً التي يحبّذ الاقتصاديون الإشارة إليها بـ”أوج سنّ العمل”، إذ وصلت إلى أعلى مستوياتها خلال 15 عاماً.
خفف ذلك بعض القيود التي اجتاحت سوق العمل على صعيد توفر الأيدي العاملة، ويشير انخفاض أعداد الوظائف المتاحة إلى تراجع تدريجي في الطلب على العاملين.
إلى جانب ذلك، قفزت مبيعات السيارات خلال أبريل إلى أعلى مستوياتها خلال نحو عامين، ما يشير إلى أن المستهلكين ما زالوا على استعداد لشراء السلع غالية الثمن، مع تراجع أزمات سلسلة الإمداد.
على نطاق أوسع، سجّل قطاع مبيعات التجزئة مكاسب الشهر الماضي، وارتفعت وتيرة الإنتاج في المصانع.
التضخم يتراجع
على جبهة التضخم، كان ارتفاع أسعار الخدمات، دون احتساب الطاقة والإسكان، في أبريل بأبطأ وتيرة له خلال تسعة أشهر.
وفي ظل قلق مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي بشكل خاص من الضغوط في ذلك الجانب من الاقتصاد، فإنّ اعتدال ذلك المقياس يقلّل احتمالات رفع أسعار الفائدة مجدداً.
كان دايفيد مِريكل، كبير خبراء الاقتصاد الأميركي لدى “غولدمان ساكس”، أحد القلائل الذين تمسّكوا بتوقعات عدم حدوث ركود. قال إنه لم يجد من يؤيد رأيه، لكن إصراره على موقفه بدأ يؤتي ثماره.
قال مِريكل: “أجرينا أبحاثاً مستفيضة وتوصلنا إلى بعض الأمور غير البديهية التي لم يلحظها الناس والتي شكّلت وجهة النظر تلك. كنّا على الجانب المتفائل من هذا الجدال، وقد سارت الأمور في بعض النواحي على نحو أفضل مما كنت أتصور”.
لا تزال أغلبية المحللين الذين شاركوا توقعاتهم يتنبأون باحتمال حدوث ركود بشكل كبير، لكن البيانات الإيجابية التي صدرت في الفترة الأخيرة دفعت بعضهم إلى إعادة التفكير في توقيت حدوث الركود.
كتب اقتصاديو “ويلز فارغو” هذا الشهر أنهم يتوقعون الآن أن يبدأ الركود في الربع الرابع من العام، بدلاً من الثالث.
قال جان-فرانسوا بيرو، كبير الاقتصاديين في “سكوشيا بنك” (Scotiabank)، إنَّه رغم توقعات أعضاء فريقه بدخول الاقتصاد في ركود خلال الربع الحالي، فهم “قد يؤجّلون تنبؤات حدوث ذلك” إلى الربع الثالث في التوقعات المقبلة.
وقالت كاثي بوستانسيك، التي تعمل في “نيشن وايد” وتتوقع حدوث ركود خلال الربع الثالث، إن استمرار قوة سوق العمل قد يؤجّل بداية ذلك الركود إلى وقت لاحق من العام.
توقعات الركود تتأجل
قال ستيفن ستانلي، كبير خبراء الاقتصاد الأميركي في “سانتاندر يو إس كابيتال ماركتس” (Santander US Capital Markets): “التوقعات التي أجمعت عليها الآراء لعام على الأقل كانت أن أمامنا ثلاثة أشهر قبل حدوث ركود، وأنَّ الأمر يتأجل مرة تلو أخرى. أحد الأسباب الرئيسية أن إنفاق المستهلكين يستمرّ في التزايد”.
رغم أن شح المعروض من الأيدي العاملة في سوق العمل لا يزال دعامة أساسية للإنفاق، فإنَّ الزخم بدأ يتراجع.
رغم الدعم الذي حصلت عليه ميزانية الأسر من خلال المدخرات التي تكوّنت في الفترة الأولى من الجائحة، فقد بدأت تظهر عليها علامات ضغوط. بيّن ستانلي أن هذا قد يجعل العام المقبل “غير واضح المعالم”، مع التأثير الكامل لرفع أسعار الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة.
حذّر ستانلي وسارة هاوس، إحدى كبار الاقتصاديين في “ويلز فارغو”، من الجانب المعاكس لقوة إنفاق المستهلكين، إذ قد تُبقي تلك القوة التضخم مرتفعاً بأكثر مما يحبّذ الاحتياطي الفيدرالي.
قالت هاوس: “في نهاية المطاف، سنحتاج إلى أن نشهد تراجعاً في الطلب لكبح التضخم، ما يجعل حدوث ركود يبدو كأنه أمرٌ حتميّ إلى حد كبير”.
تباين مؤشرات الركود
يُفيد رأي ثالث بأن الاقتصاد يمرّ بـمرحلة “تباين مؤشرات الركود”، وهو مصطلح يقول إد يارديني إنه استخدمه للمرة الأول في ثمانينيات القرن الماضي حين تأثّرت ولاية تكساس الأميركية بانخفاض في المعروض من النفط، فيما لم تتأثر به بقية أنحاء البلاد.
يشبه الأمر ما يحدث اليوم، إذ يتأثر بعض القطاعات، فقد تعرضت تجارة السلع لضغوط فيما يتأرجح قطاع العقارات التجارية، لكن متوسط أرقام النمو لا يُرجَّح أن تُظهِر ركوداً بالمعنى المتعارف عليه، وفقاً ليارديني رئيس شركة “يارديني ريسيرش” (Yardeni Research). قال: “هذا هو الأمر حتى الآن، وتلك توقعات الحالية”.
رغم أن الحكم النهائي على الدورة الاقتصادية في أعقاب الجائحة قد لا يكون محدَّد المعالم لسنوات، ستستمر في الأغلب الآراء في التغيُّر مع ورود بيانات جديدة وتغيُّر التوقعات.
قال مِريكل من “غولدمان ساكس”: “الطرح بشأن الركود اعتراه شيء من تفاوت مع مرور الوقت. أعتقد أننا مقبلون على نسخته الثالثة في هذه المرحلة”.
المصدر: Bloomberg Business Week