تلقيت اتصالاً من إيلون ماسك في أحد أيام نوفمبر 2018 وكان المساء قد حلّ علينا في مدينة أوكلاند في نيوزيلندا، التي كنت أزورها لبضعة أسابيع أمضيت نهاراتها في مصنع “روكيت لاب” الرئيسي المتخصص بصنع الصواريخ صغيرة، برفقة مؤسس الشركة بيتر بيك.
لم أكن قد تحدثت مع ماسك كثيراً منذ نشر سيرة حياته التي كتبتها قبل ذلك بثلاث سنوات، إذ لم يرق له بعض ما كتبت عنه لدرجة أنه فكر بمقاضاتي.
حين تلقيت رسالة مساعده بأنه يرغب بالتكلم معي، توقعت أن يستهل الحديث بالإشارة إلى النفور الذي امتد لسنوات بيننا، لكنه لم يفعل.
كان يعرف أنني في نيوزلندا، وقد علّق كثيراً على هذه النقطة.
سألني: “ماذا يوجد هناك غير قطعان الغنم؟ هذا ما سمعته عنها، هناك كثير من قطعان الغنم، إضافة إلى كيم دوتكوم.”
لمن نسوا، كيم دوتكوم كان يدير موقعاً إلكترونياً لتحميل الملفات اتُّهم باستضافة مواد خاضعة لحقوق النشر بشكل غير شرعي، وقد داهمت السلطات النيوزلندية قصره في 2012.
قال ماسك: “إذا زرت نيوزلندا يوماً، فسأرغب برؤية منزل بيتر جاكسون، فهذا الأمر أشبه بزيارة (سيد الخواتم) وأيضاً كيم دوتكوم… لا يوجد هناك سوى هذين الاثنين، ويمكننا أن نعيد تمثيل المداهمة”.
مستكشف فضاء من نوع مختلف
كانت المكالمة مربكة، لكنني أعدت توجيه الحديث إلى موضوع “روكيت لاب”، كانت شركة بيك قد التحقت بركب شركات الصواريخ الخاصة وتمكنت إلى جانب “سبيس إكس”، التي يملكها ماسك من إيصال إحدى مركباتها إلى المدار، انطلاقاً من مينائها الفضائي الخاص، لذا أردت أن أسأله عن رأيه بهذا، وأجاب: “مبهر أنهم تمكنوا من الوصول إلى المدار… الأمر صعب، أنفق بيزوس أموالاً طائلة ولم يتمكن من تحقيق ذلك”.
ارتكز جلّ قطاع استكشاف الفضاء تجارياً على ماسك ونظرائه من أمثال جيف بيزوس وريتشارد برانسون والراحل بول آلن، وكلهم مليارديرات أصحاب شخصيات فذة انكبوا على تطوير السياحة الفضائية، أو كما حالة ماسك، سعوا لاستعمار القمر أو المريخ.
بالتالي، لم يعر الجمهور أهمية للصخب الذي أثارته مئات الشركات الأخرى المتناثرة حول العالم التي تعمل على صنع أنواع جديدة من الصواريخ والأقمار الصناعية وتحاول بناء اقتصاد جديد في مدار الأرض المنخفض الممتد بين ارتفاعي 160 و2000 كيلومتر عن سطح الأرض.
تُعد “روكيت لاب” أبرز تلك الشركات، إلا أنها مغمورة نسبياً نظراً لموقعها في نيوزلندا البعيدة، كما أن مؤسسها بيك لا يتحلى بالصفات الاعتيادية لأقطاب الصناعات الفضائية، فهو ليس مليارديراً ولم يسبق أن أدلى بتصريحات مثيرة للجدل أو قام بسلوكيات غريبة.
لم يدرس بيك الهندسة الفضائية رسمياً، بل إنه لم يحصّل أي تعليم جامعي أصلاً، وتستند خبرته المهنية إلى العمل لفترة في شركة لصناعة جلايات الأطباق وفي مختبر أبحاث حكومي.
أمّا صناعة الصواريخ فما هي إلا هواية حاول استكشافها في أوقات فراغه في المساء أو في عطلات نهاية الأسبوع، وقد تمكّن بطريقة ما من إقناع مستثمرين جريئين بتمويل هوايته.
افتقار للمستلزمات
لم تبد قصة بيك منطقية، فلا يمكن للمرء أن ينشئ بكل بساطة شركة صواريخ من العدم، فيما لا يضمن حتى الحصول على دعم من ملياردير نجاح مثل هذه الشركات، والدليل على ذلك إشهار شركة برانسون “فيرجن أوربيت القابضة” (Virgin Orbit Holdings) المتخصصة بالصواريخ إفلاسها في الرابع من أبريل.
كما أن الولايات المتحدة مع كل ما تملكه من موارد ومعارف، لم تقدّم إلا شركة ناشئة واحدة ناجحة في قطاع الصواريخ هي “سبيس إكس”.
أمّا نيوزيلندا فلا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالصناعات الفضائية، فهي تخلو من المستلزمات الأساسية لصنع الصواريخ، فهي تفتقر لمهندسي فضاء ذوي تدريب عالٍ وللإمدادات الضرورية والبنية التحتية المناسبة لإطلاق الصواريخ، إذ اضطر بيك لمعالجة كل هذه المشكلات كما لو كان على جزيرة، مجازياً، وهو فعلاً يعيش على جزيرة.
كنت أعتقد حينها أن المستثمرين ارتكبوا خطأً كبيراً، وبدا أن ماسك يوافقني الرأي.
في نهاية حديثي مع ماسك، أشرت عرضياً إلى أن بيك يرغب بتناول العشاء معه في وقت ما، لكنه أجاب هازلاً: “سأصحبك في موعد لتناول شريحة لحم، يُستحسن أن تجلب لي بعض الأزهار”.
تجاهل ماسك “روكيت لاب” وبيك، لكن خلال السنوات القليلة التالية، أثبت بيك نفسه كأحد أكبر منافسي “سبيس إكس”، والأقدر على الاستفادة من تلهي ماسك الذي يحمل اليوم ثقلاً بحجم “تويتر” على كتفيه، لكن الرجل يعتزم أن يخوض هذه التجربة بطريقة أبعد ما تكون عن أسلوب ماسك.
طفولة هنيئة
نشأ بيتر بيك في آخر الدنيا، فلتصل إلى مسقط رأسه بلدة إنفيركارغل، يجب أن تتجه إلى أقصى امتداد نيوزلندا جنوباً.
تحيط بالبلدة سهول خضراء تسرح فيها الأبقار والاغنام، أمّا وسط المدينة المتواضع فيشعرك وكأنك في إسكوتلندا أو إنجلترا في خمسينيات القرن التاسع عشر.
كانت والدة بيك، آن تعمل معلمة، ووالده راسل نحات أدار لعقدين متحف ومعرض ساوثلاند للفنون، وقد بنى في وسط إنفيركارغل مزولة على هيئة مظلة معدنية ضخمة تضم مجموعات كوكبية تظهر عبر خيمتها الشفافة.
لدى وفاة راسل، كتبت صحيفة البلدة مقالاً تأبينياً قالت فيه “بدا أنه لا يوجد شيء لم يكن يستطع أن يفعله”.
لقد بنى راسل وآن حياة هنيئة لبيتر المولود في 1977 ولشقيقيه الأكبر سناً، وقد ركّز الصبية الثلاثة طاقاتهم على مشغل راسل داخل المنزل، وهو عبارة عن مرآب حوّله إلى استوديو له باب زيتي اللون يحتوي على آلات كشط ومخارط ومعدات لحام.
خضع بيك في السادسة عشر من عمره لاختبار موحد لنيل شهادة معادلة للثانوية العامة، ثم تصفح كتيبات عن برامج التدريب المهني الهندسي، قال: “كنت بحاجة لممارسة مهنة فنية، ولم أشعر أن الجامعة مكان مناسب لي”.
اختار أخيراً التخصص بصناعة العدد والقوالب، وهو ما يتطلب تعلّم معظم المهارات اللازمة لإنتاج المستلزمات الأساسية المستخدمة على نطاق واسع في قطاع الصناعة وفي الحياة اليومية.
قال: “السبب الوحيد الذي جذبني إلى صناعة القوالب هو أنه يتسم بالصعوبة”.
عرضت شركة “فيشر وبايكل” (Fisher & Paykel) للأدوات المنزلية في نيوزلندا على بيك في 1995 أن يتدرب لديها في دونيدين.
وركّز كل طاقته على العمل، حيث كان يدرس تحت إشراف متخصصين ماكينات مخضرمَين يعتمدان الأساليب التقليدية، وقد أنهى فترة تدريب مدتها أربع سنوات خلال أقل من ثلاث سنوات، ممضياً ساعات فراغه يعمل على مشاريع هندسية في المنزل.
عشق السرعة والقوة
سرعان ما رُقي بيك للعمل في قسم التصميم حيث أصبح صوته مسموعاً أكثر فيما خصّ شكل المنتجات وطريقة عملها، تختص شركة “فيشر وبايكل” بصنع جلايات الأطباق والغسالات عالية الجودة، إلا أنها كانت تواجه صعوبة في التوصل لطريقة مناسبة لتوزيع المنظف داخل الجلايات.
في حينها، كانت معظم شركات الأدوات المنزلية تشتري آلية توزيع سائل التنظيف من مورّد واحد، لكن بما أن “فيشر وبايكل” سعت للتفوق على الشركات الأخرى، فقد جمعت بيك مع مهندس مخضرم وطلبت منهما ابتكار تصميم خاص بالشركة.
دون الغوص في تعقيدات عمل موزعات سوائل التنظيف، يكفي القول إن بيك ابتكر نظام نفث يجمع بين انتشار الرذاذ وتركيزه بحيث يمكّن مواد إزالة الترسبات في المنظفات من أداء وظيفتها.
كان بيك يمضي معظم أوقات فراغه في إعادة بناء السيارات وتطويرها عبر إضافة ضواغط فائقة القوة وأنظمة حقن وقود وأي أمور أخرى تجعل السيارات تسير أسرع وتبدو أجمل، إذ كان يبحث دائماً عن مزيد من القوة والسرعة. كان يريد المزيد من كل شيء، وقد اكتشف أن ما يعوّقه هو قدرة محرك الاحتراق الداخلي نفسه.
قال: “بدأت عندها أبني محركات نفاثة، لكنها لم تكن تعطيني ما يكفي من القوة، فتحولت إلى الصواريخ”.
بنى كوخاً مخصصاً للأبحاث والتطوير في فناء منزله، واستعار بعض الكتب من المكتبة ليقرأ عن أنظمة الدفع وتصاميم محركات الصواريخ، ثم اعتمد محركاً يعمل على بيروكسيد الهيدروجين.
فيما أن بيروكسيد الهيدروجين الذي تبيعه المتاجر تركيزه 3% وهو آمن بما يكفي لاستخدامه كغسول للفم، إلا أنه يصبح مركّباً متطايراً بشدة حين يكون صِرفاً.
لكي يعطي المركب النتيجة التي يرغب بها بيك، كان عليه زيادة تركيزه إلى نسبة خطرة جداً تصل إلى 90%، وهكذا راح بيك يعمل على الجلايات نهاراً، والمتفجرات ليلاً.
مستثمر شغوف بالفضاء
بدت أول ماكينة دفع صاروخي صنعها أشبه بمزيج بين دراجة نارية مخصصة للسباقات ودراجة هوائية، كان هيكلها الأصفر الفاقع طولي التصميم فيما يقع مقودها مباشرة فوق عجلتها الأمامية، ما يعني أن على الدرّاج، أي بيك في هذه الحالة، أن يستلقي على بطنه بحيث يكاد صدره يلامس إطار الدراجة ويمدّ ساقيه بموازاة جانبي العجلة الخلفية.
أمّا التركيبة الصاروخية فكانت تقع في الجزء السفلي وهي مصنوعة من زوج أسطوانات يحوي المادة الدافعة مغلّفة بورق قصدير ومتصلة بالمحرك بواسطة مجموعة أنابيب. نجح الرجل في صنع الدراجة الصاروخية، وكانت سريعة فعلاً.
كما صنع في وقت ليس ببعيد سكوتر مدفوعاً صاروخياً وحزاماً نفاثاً ارتداه فيما كان ينتعل أحذية تزلج. عمل بيك في “فيشر وبايكل” لسبع سنوات قبل أن ينتقل إلى أوكلاند ليعمل في المختبر البحثي “إنداستريال ريسيرتش ليميتد” (Industrial Research Limited) المدعوم من الحكومة النيوزلندية.
أخبر بعدها بعض زملائه إن لديه طموحات أكبر.
قال دوغ كارتر، الذي كان يعمل في قسم تطوير الأعمال في المختبر مستذكراً: “أخبرني أنه مهتم جداً بالصواريخ ويرغب بإنشاء شركة، وظننت حينها أن الأمر غير واقعي”.
مع ذلك، خطرت لكارتر فكرة اعتقد أنها ستساعد بيك، إذ كان قد قرأ مقالاً في إحدى المجلات عن نيوزلندي ثريّ يعشق كل ما يتعلق بالفضاء لدرجة أنه غيّر اسمه رسمياً إلى “مارك روكيت” (أي صاروخ).
وأضاف: “قلت له يجب أن تتصل به وترى إذا بإمكانك الحصول على بعض المال منه”.
اتصل بيك بروكيت في توقيت مثالي، كان ذلك في 2006 حين كان الرجل وهو مليونير حقق ثروته من الإنترنت مستاءً من تغيب النصف الجنوبي للكرة الأرضية عن الاستكشاف التجاري للفضاء، وكان يبحث عن مشروع يستثمر فيه، لكن من وجدهم حتى ذلك الحين “بدوا غير أكفاء”، أما بيك فقد تحدث كمهندس حقيقي، ورأى روكيت أن فكرته قابلة للتطبيق.
منافسة “سبيس إكس“
سحر الفضاء روكيت واسمه الأصلي “مارك ستيفنز” منذ الصغر.
قال: “كنت أشعر بخيبة أمل لأنني لم أولد في أميركا حيث لديهم روّاد فضاء وبرنامج فضائي”.
تمكّن روكيت من جمع أموال طائلة بعد بيعه لموقعه الإلكتروني المتخصص بالسياحة، ثم أطلق العنان لشغفه بالفضاء، حيث دفع 250 ألف دولار لحجز مقعد على متن الطائرة الفضائية التي كانت تخطط لها شركة “فيرجن غالاكتيك”.
استند اقتراح بيك إلى مركبة فضائية قادرة على نقل حمولة يصل وزنها إلى 80 كيلوغراماً إلى الفضاء لبضع دقائق، حيث توقع أن تشكل المختبرات الجامعية زبائنه الرئيسيين في البداية.
اتخذ روكيت قراره في غضون بضعة أسابيع فقط، فحرر شيكاً لبيك بقيمة 300 ألف دولار مقابل الاستحواذ على 50% من الشركة.
قال: “بدت وكأنها طريقة سهلة لإحراق بعض المال، مع ذلك كنت أرغب بالانخراط في هذا الأمر بالذات، ولم يبد أن أحداً آخر يفكر بالأمر نفسه”.
تبيّن لاحقاً أنه كان هناك بالفعل شخص آخر يفكر بالأمر نفسه.
في “سبيس إكس”، كان ماسك يخصص موارد لصنع صاروخ صغير نسبياً قادر على أداء مهام على غرار شركة “فيد إكس”، فبدل الصواريخ التقليدية التي يكلّف كل إطلاق لها ما بين 60 و300 مليون دولار، سعى ماسك لبناء صاروخ صغير يمكن إطلاقه بتكلفة أقل بكثير وبشكل متكرر أكثر لتوصيل أقمار صناعية صغيرة وغيرها من الحمولات.
كانت “سبيس إكس” قد طوّرت صاروخاً مماثلاً يحمل اسم “فالكون 1” ونفذت أول إطلاق ناجح له في 2008. لكن اللافت أن ماسك قرر التوقف عن صنع هذه الصواريخ والتركيز على المركبات الأكبر حجما، إذ بدا مثل هذا القرار منطقياً حينئذ بما أن الأرباح كانت تكمن في إطلاق الأقمار الصناعية الضخمة المرسلة لصالح الحكومات وشركات الاتصالات، كما أن خطة ماسك طويلة الأمد تهدف إلى إرسال البشر وآلاف الأطنان من المعدّات إلى الفضاء وإلى كوكب المريخ، وهي مهام لا يمكن الإضطلاع بها بواسطة صواريخ صغيرة الحجم.
أدرك بيك أن تخلّي ماسك عن صاروخ “فالكون 1” يفتح الفرص له، فبدأت “روكيت لاب” تعمل على صنع مركبة صغيرة تنقل حمولات تصل زنتها إلى نحو 220 كيلوغراماً إلى المدار، بتكلفة 5 ملايين دولار لكل إطلاق.
بدل إطلاق الصاروخ مرة في الشهر كما جرت العادة، فإن “روكيت لاب” سعت لإرسال المركبات إلى الفضاء مرة في الأسبوع، وربما لاحقاً كل ثلاثة أيام.
العمل على الصاروخ الأول
الفكرة بسيطة، كانت “روكيت لاب” تعتزم إتمام المهمة التي بدأتها “سبيس إكس” ثم أهملتها، إذ خططت لإنجاز أول صاروخ زهيد التكلفة موثوق وجاهز للتحليق إلى الفضاء في غضون وقت قصير من تلقي الأمر.
امتنع بيك عن كشف كامل رؤيته للمستثمر الجديد، فقد خشي أن ينفّر الشخص الوحيد في النصف الجنوبي للكرة الأرضية المستعد لدعم آماله وأحلامه.
قال: “كنت خائفاً جداً من أن تبدو خططي جنونية”.
بعدما حصل بيك على المال، عاد إلى رؤسائه في “إنداستريال ريسيرتش ليميتد” وطلب تخصيص مساحة له ليبني شركته، وبالفعل منحه المختبر مكتباً في أحد الطوابق إلى جانب مساحة في القبو حيث يمكن لـ”روكيت لاب” أن تجري اختباراتها الأكثر جدية، مثل تلك التي يستحسن أن تكون خلف جدران خرسانية منيعة.
شرع بيك بعدها ببناء صاروخه الأول، وقد تطلّب المشروع أن يعمل من جديد على المواد الدافعة، ولكن هذه المرة لم يصبّ بيك تركيزه على صقل المواد الكيميائية بل على إيجاد التركيبة المناسبة من المتفجرات.
قرأ كتب الكيمياء واستشار العلماء الذين يعملون إلى جانبه في المختبر، وبعد تجارب عديدة على مدى أشهر، اهتدى بيك إلى تركيبة من بيركلورات الأمونيوم والألومينيوم والبولي بوتادين المنتهي بالهيدروكسيل ممزوجة مع وقود الصواريخ الصلب.
كان يحمل قطعة الوقود بيده يومياً ليودعها في خزنة قبل أن يغادر مكتبه.
بدت العملية هزلية على الأرجح، حيث كان ثلاثة أشخاص يعملون داخل مكتب بحجم شقة ذات غرفة واحدة، كما اشتروا حاوية شحن طولها 3 أمتار وعرضها يقل عن ذلك قليلاً ووضعوها في القبو لاستخدامها كمركز اختبار لمحرك الصاروخ، وهي مساحة “يمكنك القيام بأشياء رائعة وخطرة فيها”، على حدّ وصف المهندس نيكيل راغو، أول موظفي بيك.
كما بنوا حظيرة وحرصوا على أن يكون فيها “تأريض” للتخلص من الكهرباء الساكنة تماماً، بما أن هذه الاحتياطات ضرورية عند اختبار المكونات المختلفة لوقود الصواريخ.
قال راغو: “لا يقتصر الأمر على إضرام النار في الأشياء، فلا يجب أن تستنشق تلك المواد أيضاً”.
إيجاد مكان لإطلاق الصاروخ
كان ضرورياً أن يتعلم بيك كيف يتخطى الاكتفاء بصنع نموذج أولي ويتجه نحو بناء مركبة أنيقة وكاملة متكاملة يمكن صنع عدة نسخ عنها. في الماضي، كانت المحركات التي صنعها متصلة بأمر آخر، مثل دراجة أو حذاءي تزلج، إلا أن الصواريخ، حتى الصغيرة منها، تحتاج إلى طريقة تفكير أشمل، فلا مجال لارتكاب أخطاء في هذا الشأن.
كما أن الصواريخ مكلفة، فقد سعى بيك وراغو باستمرار لتأمين منح، منها منحة قدرها 99 ألف دولار حصلا عليها من الحكومة لبناء “أول برنامج فضاء في نيوزلندا”.
في نوفمبر 2009، كانت “روكيت لاب” على وشك الانتهاء من بناء مركبتها الفضائية “أتيا-1” (Ātea-1) لكن أموالها بدأت تنفد. زوّد مارك روكيت الشركة ببعض القروض الإضافية كي تستمر بالعمل، لكن بات جلياً أن على “روكيت لاب” أن تثبت فعالية تقنيتها للعالم إن كانت ترغب بالحفاظ على مكانتها، إذ إن زمن الهندسة وصقل المكونات قد ولى، وحان الوقت لرؤية ما إذا كان الصاروخ سيعمل.
تطلب العثور على مكان يمكن لبيك أن يختبر مركبته فيه خيالاً هندسياً أيضاً.
تواصل بدايةً مع أشخاص في أستراليا ليسأل ما إذا بإمكانه استخدام مساحة غير مأهولة في الصحراء، لكن لم يأخذه أحد على محمل الجدّ. أخيراً، وجد قطعة أرض تملكها البحرية النيوزيلندية قرب جزر ميركوري قبالة الساحل الشرقي للبلاد.
يقع المكان على مسافة قريبة من أوكلاند وكان ميداناً مخصصاً لاختبار الأسلحة، ما يجعل تفسير إطلاق صاروخ صغير أسهل.
اكتشف بيك بعدها أن ثمّة مصرفياً ثرياً يُدعى مايكل فاي يمتلك بالشراكة مع شخص آخر واحدة من الجزر، فرأى أن التعامل مع رجل ثري واحد قد يكون أسهل من التعامل مع الجيش. بما أنهم في نيوزيلندا وكلهم يعرف الآخر، اتصل بيك بشخص كان يعرف شخصاً يعرف فاي، وسأله ما إذا كان يرغب في استضافة حدث تاريخي هو إطلاق صاروخ إلى الفضاء من جزيرة غريت ميركوري.
قال فاي: “اتصل بي صديقي وقال لي إن ثمة شخصاً يرغب بإطلاق صاروخ، وقد عرض أن يتخلّص من بيتر بالنيابة عني، لكنني قلت مستحيل، أعطني رقمه”.
الاستعداد للإطلاق
طلب فاي زيارة مختبر بيك في أوكلاند قبل أن يوافق على الانضمام إلى المشروع، ورأى هناك صوراً للدراجة الصاروخية التي صممها بيك وغيرها من الاختراعات. قال: “لقد ارتبت، لكنني أحسست أن لديه تصاميم جيدة ومتطورة.”.
توجّه بيك وراغول وعضو ثالث في الفريق وهو مهندس كهربائي هو شون أودونال إلى جزيرة غريت ميركوري في نهاية نوفمبر 2009، وقد وضع فاي مروحيات وعبارات وقوارب في تصرف فريق “روكيت لاب” الذي أمضى نحو أسبوع ينقل العتاد اللازم إلى الجزيرة.
يستذكر بيك: “لقد قال لنا مايكل: ليس عليكم فعل أي شيء إلا إطلاق الصاروخ، وسأحرص على تولّي كافة الأمور الأخرى”. قرر فاي الذي اعتاد استضافة مشاهير على الجزيرة، من أمثال الموسيقي بونو، أن يحوّل إطلاق الصاروخ إلى حفل، فوجّه دعوات إلى أصدقاء ووسائل إعلام وجلب طاهٍ لتحضير الطعام.
مع انتشار الخبر حول إطلاق الصاروخ المرتقب، بدا مستغرباً أن الجهات المعنية في الحكومة النيوزيلندية لم تبد إلا قليلاً من الاعتراض، وقد أجرى فاي الذي لديه علاقات واسعة، اتصالين فقط فتمكّن من إخلاء المجال الجوي يوم إطلاق الصاروخ، حيث وافقت كافة شركات الطيران على تحويل رحلاتها إلى مسارات أخرى.
يوم 30 نوفمبر، استعد بيك وفريقه لإطلاق صاروخ “أتيا-1” في الصباح الباكر.
وضع فاي قطعة من نقاق لحم الغنم منزلية الصنع وملفوفة بورق قصدير في مقصورة الحمولات في الصاروخ، وخيّم الحشد الذي جاء لمشاهدة الحدث، وبينهم بضع الفرق الإخبارية، عند تلال عشبية تحيط بالمكان المستخدم كمنصة إطلاق، كما أُقيمت مراسم احتفالية على طريقة الماوري لمباركة الصاروخ.
الانطلاق إلى الفضاء
لا يخلو الإطلاق الأول لأي صاروخ من مشكلات، في حالة “روكيت لاب”، كانت المشكلة في قطعة معطلة في نظام الوقود سعرها خمسة دولارات، فيما ألهى فاي الحضور بالطعام والشراب، استقلّ بيك مروحية وتوجّه إلى محل خردوات في الجزيرة الشمالية، ولم يستطع أن يجد القطعة التي يحتاجها بالضبط، ولكنه وجد قطعة قريبة منها، فهرع عائداً ليعمل على إصلاح الصاروخ أمام الجمهور المتلهف الذي بدأ صبره ينفد.
عاد بيك إلى الحظيرة عند حوالي الثانية من بعد الظهر يلبس رداء مختبر أبيض اللون، ووقف أمام أجهزة كمبيوتر محمولة وراح يضغط على بعض الأزرار، ثمّ أعلن “تمثلاً بكبار مستكشفي نيوزيلندا، ها نحن ننطلق إلى الفضاء”.
“عشرة، تسعة، ثمانية، أوكسجين، سبعة، ستة، خمسة، أربع، ثلاثة، اثنان، واحد!” ضغط بيك على زرّ أحمر، فعلاً صوت مهيب في الخارج، وسارع لفتح الباب ونظر إلى السماء وصاح قائلاً: “يا للجمال! نعم!” وهو يقفز في الهواء فيما يضحك راغو.
فتح فاي بعض أفضل زجاجات النبيذ التي يملكها للاحتفال، وعبّر عن أفكاره الفلسفية قائلاً إن نيوزلندا دولة لا تضمّ كائنات مفترسة، حتى بعض الطيور لا تحلّق فيها لأنه لا يوجد شيء لتهرب منه.
رغم أن شعب الماوري لديه كلمة في لغته للإشارة إلى الفضاء، إلا أنه ليست لديه كلمة تعني صاروخ، فقد غيّر بيك علاقة البلاد بالسماء.
حققت “روكيت لاب” نمواً على مرّ العقد التالي، وقد تمرست في نقل الصاروخ من مرحلة النموذج الأولي إلى مرحلة المركبة الصناعية التي يمكن إعادة إنتاجها، وسمت صاروخها أسود اللون البالغ طوله 18 متراً وعرضه 1.2 متر “الكترون”.
تحسّن أداء الصواريخ كثيراً في عمليات الإقلاع، وفازت الشركة بعدة عقود ونقلت مقرّها إلى لوس أنجلوس كما استقطبت مزيداً من المستثمرين الذين قدّروا قيمة الشركة بما يتجاوز المليار دولار. ه
كذا أصبحت “روكيت لاب” شركة “يونيكورن”، وفي مايو 2019، تمكّن بيك أخيراً من تناول العشاء مع ماسك.
قال براين ميركل، الموظف في “سبيس إكس” الذي سبق أن أسس عمليات “روكيت لاب” في الولايات المتحدة: “لا أعرف بالضبط ما الذي دار في ذلك العشاء، لكن بعض الأشخاص قالوا إن إيلون غادر مبهوراً… أعتقد أن بيت عبّر عن رؤية لـ(روكيت لاب) لا تختلف كثيراً نظيرتها لدى (سبيس إكس)”.
كشفت “سبيس إكس” في أغسطس 2019 عن خطة جديدة للبدء بإطلاق صواريخ منتظمة مخصصة لصانعي الأقمار الصناعية الصغيرة. حينها كان هناك نحو 2500 قمر صناعي فقط في مدار الأرض، وتضاعف هذا العدد إلى 5 آلاف خلال السنتين التاليتين، ويُتوقع أن يصل العدد خلال العقد المقبل إلى ما بين 100 ألف و200 ألف قمر صناعي.
أدرجت “روكيت لاب” أسهمهما في البورصة في منتصف 2021، فجمعت مئات ملايين الدولارات. لقد حوّل الطرح الأولي للاكتتاب العام بيك إلى أحد أبرز روّاد الأعمال في نيوزلندا وأحد أثرى مواطني البلاد، إلا أن ذلك أثبت أيضاً مدى صعوبة التحديات في هذا القطاع، فحتى 2022، لم تكن “روكيت لاب” تحقق أي أرباح.
تعمل الشركة حالياً على تطوير صاروخ ضخم، قابل لإعادة الاستخدام، يحمل اسم “نيوترون” (Neutron) سيكون المنافس المباشر لصاروخ “فالكون 9” من “سبيس إكس”، ويستطيع الهبوط بسلامة تامة على منصة الإطلاق.
تعمل “روكيت لاب” أيضاً على جعل صاروخ “الكترون” قابلاً لإعادة الاستخدام بغية الاستمرار بزيادة وتيرة إطلاق الصواريخ مع الحفاظ على تدني التكلفة.
صحيح أن الشركة لم تبدأ بعد بإطلاق الصواريخ كل ثلاثة أيام، إلا أنها الشركة الوحيدة التي اقتربت من وتيرة إطلاق الصواريخ لدى “سبيس إكس”.
في الصيف الماضي، نقلت “روكيت لاب” حمولة إلى القمر بالنيابة عن وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) ولديها عقود لمهام جديدة إلى القمر والمريخ والزهرة.
جعل الفضاء سلعة
قبل بضعة أشهر من تفشي الوباء، زرت بيك في منزله الاستجمامي في الجزيرة الجنوبية. ركبنا الدراجات المائية، الأسرع من نوعها طبعاً، وقمنا بعدها بالتنقيب عن الذهب في النهر مع أولادنا. كلّما سمعنا هدير شاحنة تمرّ قريباً منّا، كان ابن بيك يحزر خصائص المحرك اعتماداً على الصوت فقط.
حاولت إقناع بيك بالحديث عن طموحاته، لكنه كان يرغب الحديث عن تفاصيل قطاع الصواريخ والمشقات التي يواجهها منافسوه.
وقال: “لا تُسئ فهمي، أعتقد أن إرسال بعض الأشخاص إلى المريخ سيسهم في تمكين الجنس البشري أكثر، لا شكّ في ذلك وأعتقد أنه أمر رائع. لكن برأيي يمكن تحقيق تأثير أكبر على عدد أوسع من الناس عبر جعل ارتياد الفضاء سلعة وجعلها في متناول الجميع. هكذا تؤثر على حياة البشر وتحسّنها”.
وأضاف: “لنكن صادقين، كيف يؤثّر إرسال بضعة أشخاص إلى المريخ على حياتك وحياتي؟ صحيح أن الأمر ملهم، وهذا تأثير بحدّ ذاته، لكن هل يغير فعلاً كيف أعيش؟ بالمقابل، لو أرسلنا مثلاً عدداً كبيراً من الأقمار الصناعية المتخصصة بالأرصاد الجوية لتنبؤ أفضل بأحوال الطقس، يمكن تحسين المحاصيل، أو يمكننا ببساطة أن نقرر ما إذا يجب أن نذهب في نزهة خلوية، هذا ما يؤثر فعلاً على حياتي”.
المصدر: Bloomberg Business week