العمليات الأمنية الأخيرة التي شنتها الشرطة الألمانية ضد أعضاء عصابة مافيا إيطالية قوية، أعادت إلى الواجهة عمليات غسيل الأموال في البلاد، وأثار عن أسباب وكيفية استغلال المافيا الإيطالية ألمانيا لعمليات غسيل الأموال.
المداهمات والعمليات الأمنية الأخيرة سلطت الضوء على نشاط المافيا الإيطالية في ألمانيا واستغلالها لغسيل الأموال
تصدرت حملة المداهمات الأمنية المشتركة في عدد من البلدان الأوروبية ضد أعضاء مافيا “ندرانغيتا” الإيطالية، عناوين الصحف مع كشف المزيد من التفاصيل حيال التحقيقات، بيد أن الاعتقالات لم تصدم الخبراء والصحافيين والمحققين المخضرمين في جرائم المافيا الإيطالية.
ومن بين هؤلاء الصحافية الألمانية بيترا ريسكي التي تعيش في إيطاليا، حيث قضت سنوات في الاستقصاء عن أنشطة المافيا.
وفي تعليقها على المداهمات الأمنية، قالت ريسكي “لن يغير ذلك أي شيء بشأن عمليات المافيا في ألمانيا، إذ يمكن اعتقال عددا من الأشخاص، لكن هذا لن يغير التركيبة”.
وجرى القبض على 108 أشخاص في إيطاليا و30 شخصا في ألمانيا عقب تحقيقات استمرت ثلاث سنوات في إطار “عملية يوريكا” ضد تهريب المخدرات والأسلحة فيما تعود جذور “ندرانغيتا” إلى منطقة كالابريا في جنوب إيطاليا، والتي تعد إحدى أغنى وأقوى المنظمات الإجرامية في أوروبا وأقامت شبكة غسيل أموال ضخمة حول العالم.
وتشعر ريسكي، صاحبة عدة كُتب عن المافيا الإيطالية، بالسعادة مع مطالعتها الأنباء عن حملات المداهمة ضد المافيا الإيطالية، حيث رفع عدد من أعضائها في السابق دعاوى قضائية ضدها وقاموا بتهديدها بسبب التقارير التي أعدتها عن نشاطهم الإجرامي.
وقضت بعض المحاكم الألمانية بإجبار ريسكي على تنقيح بعض مؤلفاتها عن أنشطة الجريمة المنظمة.
وقالت في مقابلة مع DW”هؤلاء أشخاص يقعون في صميم عمل ندرانغيتا وقد كتبت عنهم عام 2008، كنت أول شخص يُرفع ضده دعوى قضائية بسبب ذلك. بالنسبة لي، فإن المداهمات الأخيرة خبر سار لأن مت وضفته قد أدى إلى نتائج، شكرا للإيطاليين”.
ألمانيا ملاذ آمن
وقالت ريسكي: رغم تعاون الشرطة الألمانية في التحقيق بالتزامن مع تنفيذ مداهمات واعتقالات أمنية في ألمانيا، إلا أن الأمر يعود برمته إلى مذكرة توقيف دولية قدمتها السلطات الإيطالية.
وأضافت “كان لا يمكن تنفيذ هذه الاعتقالات على الإطلاق بموجب القانون الألماني! إذ أنه في ألمانيا لا يمكن مقاضاة أي شخص بمجرد انتمائه إلى المافيا حيث يجب وجود أدلة تثبت ارتكابه جريمة”.
يشار إلى أن ألمانيا عُرفت منذ وقت طويل باعتبارها ملاذا آمنا لعصابات الجريمة المنظمة، فيما جرى تنفيذ 30 أمر اعتقال هذا الأسبوع في ولايات شمال الراين ويستفاليا وراينلاند بفالتس وبافاريا وسارلاند وولاية تورينغن في شرقي البلاد التي أصبحت معقلا لعصابات المافيا بعد الوحدة عام 1991 مع شراء عناصر المافيا الإيطالية عقارات هناك.
وفي عام 2012، أدلى المدعي العام لمكافحة المافيا في مدينة باليرمو الإيطالية، روبرتو سكاربيناتو، بشهادته أمام البرلمان الألماني (البوندستاغ) حيث أفاد بوجود “تدفقات ضخمة من الأموال من إيطاليا إلى ألمانيا”. وقد سلط ذلك الضوء على ثغرات في قوانين مكافحة غسيل الأموال بألمانيا.
ويرى مراقبون أن ألمانيا مازالت اقتصادا محبا للأموال النقدية، حيث لا يوجد حد للمقدار النقدي الذي يمكن لأي شخص أن يدفعه مقابل صفقة واحدة، على عكس دول الاتحاد الأوروبي الأخرى: إذ يبلغ الحد الأقصى في إسبانيا 2500 يورو وفي إيطاليا 1000 يورو وفي اليونان 500 يورو.
وتخطط وزيرة الداخلية نانسي فيزر، لوضع حد أقصى للدفع نقدا يبلغ عشرة آلاف يورو، مما سيجعل البلاد تتوافق مع القوانين الأوروبية، بيد أن خبراء القانون يشعرون بالقلق حيال مدى توافق ذلك مع الدستور الألماني.
وفي الوقت الحالي، يمكن لأي شخص أن ينفق عشرة آلاف يورو نقدا في ألمانيا لشراء أي شيء دون الحاجة للكشف عن هويته، رغم أنه يتعين منذ عام 2020 إظهار بطاقة الهوية عند دفع أكثر من ألفي يورو لشراء معادن ثمينة.
وحتى أبريل/ نيسان الماضي، كان من الممكن شراء عقارات في ألمانيا نقدا، وهو الأمر الذي كان مربحا لمدن ألمانية مثل العاصمة برلين حيث تدر سوق العقارات أرباحا خيالية. ويرى خبراء أن هذه الأمور تجعل من السهل على عناصر المافيا القيام بعمليات غسيل الأموال في ألمانيا.
غياب الشفافية
واستفادت عصابات الجريمة المنظمة من هذه الأمور عبر إنشاء شبكات تضم شركات وهمية جرى الكشف عنها عام 2016 في تسريبات “وثائق بنما”.
وفي تعليقه على ذلك، قال أندرياس فرانك الذي أمضى ثلاثة عقود في الاستقصاء والكتابة عن ثغرات يستغلها من يغسلون الأموال في ألمانيا، “لا يمكننا أن نسمي ما حدث اختراقا، لكن ربما يكون نجاحا بعض الشيء ضد أجزاء من كيانات المافيا. نحن نحارب ندرانغيتا منذ وقت طويل.”
وشدد فرانك، صاحب كتاب “الأموال القذرة” والذي نُشر العام الماضى، على أن عمليات غسيل الأموال تقوض الديمقراطية في بلدان أوروبا الغربية، محذرا من نقص الإرادة السياسية للتصدي لذلك.
وأضاف في مقابلة مع DW: “لم يطرأ أي تحسن حيال مكافحة غسيل الأموال”.
وحذر فرانك، الذي أدلى بشهادة أمام البوندستاغ في عام 2012 مع سكاربيناتو، من مغبة التقليل من شأن الأضرار الذي تسبب فيها عصابات الجريمة المنظمة.
وقال: “المافيا تشكل خطرا بالغا. إذ تقوض اقتصادنا حيث أنه من الصعب على الشركات القانونية والمشروعة التنافس مع الشركات التي تقودها المافيا. فيما تعد (مجموعة) ندرانغيتا مجرد واحدة من منظمات عديدة تديرها المافيا.”
وعلى غرار العديد من بلدان العالم، تعاني الأجهزة الألمانية من نقص في الموارد، فيما جرى اتهام وحدة الاستخبارات المالية المنوط بها تعقب عمليات غسيل الأموال، بالتباطؤ في إبلاغ هيئات الادعاء العام التي تشتكي في كثير من الأحيان من عدم تمكنها من متابعة الجرائم التي تقع خارج نطاق اختصاصها، مما يعيق تبادل المعلومات.
ويرجع فرانك ذلك إلى نقص الموظفين وأيضا اللوائح المتعلقة بمنع مشاركة البيانات بين السلطات، مضيفا “استغرق السماح لوحدة الاستخبارات المالية بالوصول إلى البيانات التي تحتاجها عاما من 2021 وحتى 2022. ورغم ذلك، لم يُسمح لها بالوصول الكامل إلى كافة البيانات حتى يومنا هذا”.
أما الصحافية ريسكي، فتعزو الأمر إلى نقص الإرادة السياسية “في ألمانيا لمحاربة المافيا”، مضيفة “ينظر بعض السياسيين الألمان إلىاستثمارات المافيا باعتبارها محركا اقتصاديا. إنهم لا يرغبون في معرفة مصدر الأموال التي تأتي إلى البلاد”.
المصدر: DW