رايت رايتس

اليهود في جزيرة مايوركا الإسبانية…كيف تم القضاء عليهم بعد انتهاء الحكم الإسلامي؟

الديسك المركزي
كتبه الديسك المركزي تعليق 12 دقيقة قراءة
12 دقيقة قراءة
كنيسة جبل صهيون

عندما وصل الأمريكي داني روتستين إلى جزيرة مايوركا الإسبانية الواقعة في البحر المتوسط قبل خمس سنوات لقضاء عدة أيام هادئة في الجزيرة الجميلة بعيدا عن صخب وضوضاء نيويورك، لم يخطر بباله أنه سيترك نيويورك خلفه إلى الأبد وسيعشق الجزيرة ويبني فيها أسرة.

- مساحة اعلانية-

فقد وقع داني في حب امراة من الكتالان الذين يشكلون أغلبية سكان الجزيرة وقرر البقاء هناك وتزوجا عام 2017.

عاش داني أياماً سعيدة في الجزيرة السياحية، لكنه كان يفتقر إلى مكان يمارس فيه طقوسه الدينية فهو يهودي.

- مساحة اعلانية-

فبدأ رحلة البحث عن اليهود في الجزيرة فاكتشف تاريخاً مرعباً ومأساويا مر به يهود الجزيرة قبل 500 عام، بعد سقوط الأندلس وسيطرة الإسبان عليها.

فقد جرت إبادة اليهود بشكل كامل في الجزيرة خلال مرحلة محاكم التفتيش التي تلت هزيمة المسلمين في إسبانيا على يد الكاثوليك.

فقد جرى قتل معظمهم وفر من استطاع الفرار أما البقية فقد أجبروا على التحول إلى الدين المسيحي.

- مساحة اعلانية-

“عندما وصلت إلى مايوركا لم يخطر ببالي أن أعثر على يهودي واحد في الجزيرة أو أي شيء يمت بصلة إلى الديانة اليهودية”، هكذا تحدث داني عن ما كان يجول في خلده عند وصوله الى الجزيرة.

وعندما عقد قرانه على زوجته بعد عامين من وصوله كان قد علم أن الجزيرة كانت تضم بعض اليهود سابقاً.

فقد كان هناك كنيس يهودي يشهد بعض الصلوات مساء الجمعة، وبالكاد عدد المصلين يصل إلى عشرة رجال، فيهود الجزيرة نادراً ما يجتمعون في المناسبات الدينية والأعياد اليهودية.

ولم يكن من السهل على داني بناء أسرة في ظروف مختلفة تماما عن الظروف التي نشأ فيها خلال طفولته في نيوجيرسي في الولايات المتحدة، ومن هنا بدأت رحلة بحثه عن اليهود في الجزيرة.

وخلال تلك الفترة أيضاً كان طوني بينيا على وشك بدء رحلة لكن مختلفة تماماً عن رحلة داني الذي ولد يهودياً، وحافظ على التقاليد اليهودية، بينما كان طوني يخطو أولى خطواته في الديانة اليهودية.

طوني هو من أحفاء اليهود، الذين أجبروا على اعتناق المسيحية، قبل نحو خمسة قرون خلال مرحلة محاكم التفتيش، ويعرفون باسم “تشويتا” ويبلغ عددهم في الجزيرة في الوقت الراهن نحو 20 ألفاً.

وكغيره من التشويتا، نما وترعرع طوني كأي كاثوليكي، ورغم أنه كاثوليكي مثل باقي أفراد أسرته منذ عقود عديدة فإن سكان الجزيرة ينظرون إليهم باستعلاء ويرونهم أدنى منهم بسبب أصولهم اليهودية.

خلال مرحلة الدراسة كان زملاء طوني في الصف يضايقونه ويسخرون من تاريخ أسرته، “وإذا رغبت فتاة بمرافقة شاب من التشويتا فإن الأسرة ستقول لها إنه ينتمي إلى الطائفة التي قتلت يسوع” كما يقول.

عندما بلغ طوني الثانية عشر من العمر، ترك الدين برمته ولم يعد يهتم به، ولكن عندما بلغ منتصف العمر بدأ بالبحث في تاريخه وجذوره اليهودية.

أما داني فقد بدأ بالاطلاع على التاريخ المجهول لليهود في الجزيرة، فلم يكن قد سمع بكلمة تشويتا رغم أن والدته كانت تدرس الديانة اليهودية في المدرسة.

ويقول داني” أخذت الأمر على عاتقي. كيف لم يعرف العالم بالمصير المأساوي الذي مر به اليهود في هذه الجزيرة؟ وماذا يعني ذلك لإسبانيا؟”.

تعرض حي بالما الذي كان يسكنه اليهود في الجزيرة عام 1391، لهجوم وقتل فيه ما بين 100 إلى 300 يهودي.

ومع تصاعد سطوة محاكم التفتيش اضطر معظم اليهود إلى اعتناق المسيحية خوفا على حياتهم بينما بقي البعض يمارس طقوس الديانة اليهودية سراً.

لكن اعتناق المسيحية لم يضمن لليهود النجاة من القتل، فقد تعرض المئات منهم للتنكيل والقتل خلال القرنين الرابع والخامس عشر.

عام 1688 حاول 37 يهوديا الفرار من الجزيرة بواسطة زورق، لكن ألقي القبض عليهم أثناء ذلك وظلوا تحت التعذيب لمدة ثلاث سنوات وقتلوا بعد ذلك، ووصل الأمر لحرق ثلاثة منهم أحياء في فرن، وجرت كتابة أسماء عوائل هؤلاء داخل كنيسة سانت دومينغو في الجزيرة لكي يعرفهم الجميع وبقيت الأسماء هناك معلقة حتى عام 1820.

ويعرف أحفاد اليهود الذين تحولوا الى المسيحية باسم تشويتا في الجزيرة ومعناها باللغة الكاتلانية لحم الخنزير.

كما تبين لداني أن الأقلية اليهودية في الجزيرة مشتتة وكان هناك صراع على إدارة الكنيس الوحيد في الجزيرة.

التشويتا كانوا يلمسون جدار كنيسة جبل صهيون، التي كانت سابقا كنيسا يهوديافي حي بالما القديم لتأكيد صلتهم بالديانة اليهودية

ويهود الجزيرة ينتمون الى طوائف وتوجهات مختلفة، فبينهم الأشكيناز والسفارديم والأورثوذكس والإصلاحيون ولكل فئة تقاليد خاصة بها، وليس هناك اتفاق على الصلوات التي تقام في الكنيس ومشاركة النساء فيها، وما إذا كان للكنيس دور في ترتيب المناسبات الاجتماعية، ولم يكن هناك حاخام لقيادة الصلوات.

كل ما هناك أن الناس كانوا يحضرون الصلاة مساء الجمعة من كل أسبوع.

وعلم داني أن يهود حي بالما كانوا يحضرون درسا في التلمود لعدة ساعات بنهاية الأسبوع، وكان مفتوحا للجميع.

فاتصل بمنظمة الدروس كارين كوخمان، واقترح عليها عقد درس يومي السبت والأحد بالتعاون معها خلال عام 2018، بهدف إشراك الجميع وعلى رأسهم أبناء تشويتا.

وعند عقد أول اجتماع بنهاية الأسبوع حضره جميع يهود بالما من مختلف الاتجاهات، كما حضره عدد من التشويتا، ومن بينهم طوني، الذين تحدثوا عن رحلة عودتهم إلى ديانة أجدادهم.

طوني طباخ محترف وهو يستمتع بمعرفة تاريخ الأطباق التي يعدها. فبعض الأطباق الشائعة في الجزيرة والتي يعدها طوني تعود للمرحلة الرومانية وأخرى لمرحلة الحكم الإسلامي.

ويعود تاريخ وجود اليهود في الجزيرة إلى القرن الرابع الميلادي، إذاً فلا بد أن تكون هناك أطباق خاصة باليهود في الجزيرة، لكن طوني لم يعثر على أي منها، فقد جرى محو كل شي يتعلق باليهود، وكأن اليهود لم يعيشوا هنا لقرون عديدة ” لقد جرى محو أي أثر لهم” حسب قول طوني.

فعاد إلى التوراة بحثا عن كل ما له علاقة بالطعام فاكتشف أن بعض عادات الطبخ التي كانت جدته تتبعها مثل طريقة الذبح والابتعاد عن لحم الخنزير ومنتجات الخنزير والأدعية التي ترددها عند تناول بعض الأطعمة كلها مذكورة في التوراة وغيرها من الكتب الدينية اليهودية، ويرى طوني أن أسرته حافظت على التقاليد اليهودية حية دون أن تعرف أنها من صلب هذه الديانة.

لكن الأمر لم يكن كذلك لدى كل أسر التشويتا، فقد كانت بعض الأسر لا تكتفي بطبخ لحم الخنزير بل كانت تتعمد أن تقوم بذلك في حديقة المنزل كي يرى ذلك المارة بالشارع، بهدف إبعاد شبهة الديانة اليهودية عن انفسهم، وأنهم مسيحيون حقيقيون، ولم تعد لهم علاقة باليهودية بعد قرون من إرغامهم على ذلك.

كما كان العديد منهم يشرعون نوافذهم مساء السبت، وهو يقومون بأعمالهم المنزلية كي يرى المارة أنهم لا يقيمون الصلوات اليهودية.

وبات يشار إلى العمل يوم السبت لدى الكاتلان على أنه العمل المنزلي، ويرى البعض أن ذلك له علاقة بما كانت تقوم به بعض أسر تشويتا.

وكانت أسرة طوني لا تتغيب عن صلاة الأحد في الكنيسة لتأكيد التزامها بالمسيحية.

يقول طوني: “مع مرور الوقت تعبت من ذلك وطفح الكيل بي. لماذا علي أن أثبت أنني مسيحي؟ ولمن؟”.

تغيرت إسبانيا بعد موت الديكتاتور فرانكو عام 1975 وبدأ السواح الأجانب يتدفقون على البلاد وكانت مايوركا من بين وجهات المفضلة.

فاستقر عدد من اليهود الإنجليز والألمان في الجزيرة وجمعوا بعض المال فافتتحوا كنيساً وسط دهشة أبناء تشويتا الذين أثار ذلك فضولهم حسب قول طوني.

وكان طوني من بين عدد من أبناء تشويتا الذين عادوا للديانة اليهودية وأصبح يهوديا بشكل رسمي عام 2013، في إسرائيل التي عاد إليها بعد خمس سنوات ليتزوج امرأة من التشويتا عادت الى الديانة اليهودية بشكل رسمي.

ويرى داني أن تشويتا يجب اعتبارهم يهوداً حتى إن لم يكونوا يمارسون الطقوس اليهودية لكن ليس الكل له نفس الموقف.

وقد افتى حاخام إسرائيلي يحظى بالاحترام عام 2011، بأن جميع التشويتا يهود نظراً لخلفية أسرهم، وكان من الآثار الجانبية لسنوات التمييز المديدة أن الزواج بغير التشويتا ظل نادرا.

ولكن بعض يهود مايوركا المتزمتين عبروا عن عدم ارتياحهم إزاء اعتبار تشويتا الذين لم يعودوا رسميا لليهودية يهوداً.

تقول كارين: “إنها صدمة حضارية كبيرة لأنه في بريطانيا أو ألمانيا أو حتى في إسرائيل لا يخرج عليك بعض الناس فجأة ويقولون إن جد جد جدي كان يهودياً، أنا مهتمة بذلك”.

ولكن عودة بعض التشويتا لليهودية خلق أيضا انقسامات داخل الطائفة نفسها.

كالآخرين في طائفته، ترعرع طوني دون أن يفصح عن تاريخ أسرته، ولكن بإعلانه عن يهوديته فقد لفت الانتباه لتراثه ويعتقد البعض أن ذلك يزيد خطر مواجهة التشويتا وطأة معاداة السامية، فضلا عن الأحكام المسبقة المناوئة لهم.

ففي السبعينات وجد التشويتا أصحاب متاجر المجوهرات في بالما صلبانا معقوفة مرسومة على واجهات متاجرهم بعد ما بثت محطة تليفزيون محلية مسلسلا عن المحرقة اليهودية.

وحتى اليوم يستخدم الأطفال كلمة تشويتا كشتيمة، وليس سرا تصاعد معاداة السامية في أوروبا.

ويرجع الفضل جزئيا في إعادة الحياة لليهودية في مايوركا إلى داني وطوني وقد جذبت احتفالات هانوكاه 150 شخصا من بينهم 40 طفلا، فيما حضر 40 آخرون عشاء سبت.

ويقول داني: “الجميع يتساءل من أين جاء كل هؤلاء اليهود؟”.

وفي السنوات الأخيرة افتتح متحف صغير للتاريخ اليهودي في حي اليهود القديم، وفي غضون ذلك افتتح داني شركة سياحة يهودية.

ومن بين عدة أشياء أشار إلى زيارة حائط كنيسة جبل صهيون المطل على الحي اليهودي، والتي كانت سابقا كنيسا يهودياً، وتقول الشائعات إن أجيالا من التشويتا كانت تتلمس بأيديها أحجار الحائط خلال مرورها لتأكيد جذورهم اليهودية.

واكتشف طوني مؤخراً أثناء التدقيق في الأوراق القديمة التي يحتفظ بها أن رجلاً اسمه أنطونيو بينيا تزوج امرأة تحمل اسم زوجته فرنشيسكا في بالما قبل قرون وكلاهما قتل خلال عهد محاكم التفتيش.

ويقول: “يبدو ذلك كبعث جديد. لقد كانا هنا، وبعد مئات السنين عثرا على بعضهما ثانية”.

وفي العام الماضي شهدت الجالية اليهودية في مايوركا انتخابات مجلس إدارة جديد، وكان من بين الذين تم انتخابهم داني وطوني تشويتا آخر، هو الصحفي والكاتب ميغيل سيغورا، وبالتالي صار نصف أعضاء المجلس من أحفاد تشويتا.

وبالنسبة لداني وطوني فهذه فرصة لاحياء طائفة استثنائية، ولكن هناك أيضا خطر تعميق الصدع داخلها.

يقول داني: “لا نعرف كيف ستكون اليهودية في مايوركا بعد خمس أو عشر سنوات، والتحدي الذي نواجهه هو محاولة التوصل إلى القيم المشتركة التي تجمعنا كيهود”.

شارك هذه المقالة
ترك تقييم