مؤخراً وفي صباح يوم من الأيام في مدينة فيداليا بولاية جورجيا الأميركية، أطلق المزارع غريغ مورغان، الذي ورث الزراعة عن أبيه وجده، طائرة مسيرة (إيه جي-230) تحمل ثمانية غالونات من مبيد فطريات فوق حقل من البصل الحلو.
عادة ما تتقاطر تلك المادة الكيماوية الضرورية لبقاء المحاصيل في هذه الولاية الرطبة الأجواء، من خزان سعة 500 غالون خلف جرار “مورغان” الذي يزن 10 آلاف رطل، لكنها الآن تتناثر في صورة رذاذ خفيف من رشاشات طائرة مسيرة وزنها 80 رطلاً كانت تحلق على ارتفاع 10 أقدام فوق محصوله الذي يزرعه لكسب المال.
يُعد “بصل فيداليا” صناعة محلية بقيمة إنتاج تصل إلى 150 مليون دولار، وأصبح عرضة على نحو متزايد لتغير المناخ، شأنه شأن الخوخ والطماطم والمحاصيل المتخصصة الأخرى في الجنوب الشرقي.
انضم “مورغان” إلى طليعة المزارعين الذين يبتعدون عن الجرارات ويتجهون إلى الطائرات المسيرة، بينما يتكيفون مع ارتفاع كلفة المواد الكيماوية ويواجهون درجات حرارة مرتفعة وأمطاراً غزيرة وأعشاباً ضارةً كثيرةً وآفات عديدةً.
أدق وأقل تكلفة
استخدم المزارعون الطائرات المسيرة على مدى 20 عاماً بالأساس لمسح المزارع بالكاميرات بهدف تحديد أماكن ازدهار المحاصيل وضعف إنتاجيتها، أما الآن، فتُصمم الطائرات المسيرة لإدارة المحاصيل علمياً، إذ زُودت بإمكانية رش مبيدات الأعشاب الضارة والحشرات والأسمدة الخاصة بالأوراق بدقة، بل ونثر البذور في موسم الزراعة.
وصف آرثر إريكسون، الرئيس التنفيذي لشركة “هايلو” (Hylio) المصنعة للمسيرات الزراعية هذا النوع من الطائرات بأنه “جرار طائر بوزن الريشة”.
زاد الطلب على طائرات الشركة الناشئة التي تتخذ من هيوستون مقراً لها في السنوات الثلاث الماضية، فما يقرب من 700 من طائرات “هايلو” المسيرة تعمل الآن في معالجة 700 ألف فدان من الأراضي الزراعية سنوياً، منها مزرعة “مورغان”.
يقود المستخدمون الأوائل لهذه التقنية الحديثة، مثل “مورغان” البالغ من العمر 46 عاماً، تحولاً كبيراً في نشاط الأغذية ويشيرون إلى حقيقة يجب على المستثمرين وقادة الزراعة الصناعية الانتباه إليها، وهي أن الطائرات المسيرة في طريقها لتعطيل صناعة الجرارات بشكل كبير، وعلى عكس العديد من الاتجاهات الزراعية العالية التقنية الأخرى، فإن هذا الاتجاه مفيد حقاً للمزارعين الصغار ومتوسطي الحجم، وهو مكسب كبير لكوكب الأرض.
في الأشهر الثمانية التي انقضت منذ أن اشترى “مورغان” الطائرة المسيرة بمبلغ 40 ألف دولار، وهو أرخص كثيراً من 700 ألف تقريباً ثمن استبدال جراره القديم ساعده “الجرار الطائر” في تقليل تكاليف الوقود وقلل بالفعل من استخدامه للكيماويات الزراعية بنحو 15%.
كما مكنته الطائرة المسيرة من العمل في حقوله بعد هطول أمطار غزيرة،عندما تكون الأرض غالباً رطبة بدرجة تحول دون عمل المعدات الثقيلة، وتجنيب محصوله من الأضرار الروتينية التي تسببها الجرارات، فضلاً عن أنها أنقذت تربته من الانضغاط وفقد مساميتها والأكسجين والمغذيات والتآكل، وكلها أمور ناجمة عن الآلات الزراعية.
مستقبل أفضل
رأيت لأول مرة طائرة زراعية مسيرة تعمل الصيف الماضي في مزرعة فول صويا وذرة مساحتها 2000 فدان في ولاية أيوا، وأطلق المزارع من الجيل الخامس براين بيكرينغ وابنته البالغة من العمر 22 عاماً طائرة مسيرة “إم جي-1بي رانتيزو” (MG-1P Rantizo) من صنع العملاقة الصينية “دي جيه آي” (DJI)، والتي يبلغ عرضها 9 أقدام ولها 8 مراوح طنانة.
ظلت عائلة “بيكرينغ” طوال الصباح توجه طائراتها المسيرة لرش مبيد عضوي بمعدل غالونين تقريباً للفدان و14 فداناً في الساعة. وفي فترة ما بعد الظهر، راحت تنثر بذور الجاودار عبر مساحات من حقول فول الصويا بمعدل 25 رطلاً للفدان، مما يؤدي إلى زرع محصول سينمو بعد الحصاد بهدف تغطية التربة.
تستخدم هذه “البهلوانات الهوائية” أقل من عُشر طاقة الجرارات الأرضية، ولا تسحق المحاصيل ولا تمزق الأرض أو تمس التربة. وعندما شاهدت الطائرة المسيرة أثناء العمل، أحسست بالشعور ذاته الذي شعرت به عندما اختبرت قيادة سيارتي الكهربائية بعد سنوات من قيادة عربة متهالكة ضخمة تبتلع الوقود ابتلاعاً، وهو أنني أشهد مستقبلاً أفضل.
بل إن مزرعة البصل التابعة لـ”مورغان” قدمت أدلة أكثر إقناعاً، فبينما يدير “بيكرينغ” مزرعة محاصيل أساسية كبيرة بميزانية بحث وتطوير تناسبها، يكافح “مورغان” للحفاظ على ربحية مشروعه على مساحة 300 فدان، ولم يكن شراء الطائرة المسيرة بالنسبة له لعبة جديدة رائعة، ولكن أداة نجاة سمحت له بتقليل نفقاته.
دور الذكاء الاصطناعي
“إريكسون”، الرئيس التنفيذي لـــ”هايلو” يرى هذه الطائرات المسيرة “مثل مقاتلات “إكس-وينغ” الصغيرة، فهي تمنح صغار المزارعين الأدوات اللازمة لتكون بنفس كفاءة بعض تقنيات الجرارات الأكثر تقدماً وبتكلفة زهيدة”، وباستخدام أجهزة أبسط بكثير، يمكن للمزارعين تشغيلها وإصلاحها بأنفسهم.
ومثلما صارت الطائرات المسيرة الزراعية متطورة على نحو متزايد -في ظل ما بها من بطاريات أصغر أطول عمراً وإطارات ألياف كربون أخف وزناً وأقوى- أصبحت كذلك برمجياتها، التي تطورها شركات ناشئة مثل “بيرسيشن إيه آي” (Precision AI) في كندا.
وسيمكن برنامج الذكاء الاصطناعي الطائرات المسيرة من استخدام رؤية حاسوبية، وهي تطبيقات ذكية قادرة على فهم محتوى الصور مثلما يراها الإنسان، لتحديد مكان وكمية المواد الكيماوية المطلوبة بالضبط لنبات تلو آخر بدلاً من رش حقل بأكمله بالحجم نفسه من هذه المواد.
ورغم كل ما ورد أعلاه من مزايا، فلن تحل الطائرات المسيرة محل الجرارات تماماً في القريب العاجل، فحمولتها تقتصر على نحو 20 غالوناً، وهي كمية لا تكفي تقريباً للتعامل مع الأسمدة التي تبلغ مئات الأرطال لكل فدان من المطلوب رشها بين المحاصيل. لكنها بالتأكيد قادرة على استبدال رش المحاصيل بمبيدات الأعشاب والفطريات، وهي عملية لا تزال تنفذها الطائرات والمروحيات عبر ملايين الأفدنة لكنها مكلفة وينتج عنها هدر كبير.
وفي حين أن رش المبيدات من الطائرات والمروحيات ينشر المواد الكيماوية خارج حدود الحقول، فإن الطائرات المسيرة ترشها على المحصول مباشرة دون إفراط. ويمكن للطائرات الذكية التغلب على عقبات مثل خطوط الكهرباء والأشجار، مما يزيد بشكل كبير من كفاءة رش الكيماويات.
عصر المسيرات الزراعية
ورغم أهمية مزايا الطائرات المسيرة الزراعية، لم يضخ أكبر منتجي الجرارات -“دير أند كو” (Deere & Co) في الولايات المتحدة، و”ماهيندرا أند ماهيندرا” (Mahindra & Mahindra) في الهند سوى استثمارات قليلة في هذه الطائرات، التي لا تعدو أن تكون جزءاً صغيراً من إمبراطورية جون دير البالغة 52 مليار دولار، صحيح أن عملاقَي الآلات الزراعية ربما يكونان بطيئين في الإقرار بأهمية هذا النوع المتطور من الآلات، لكن عصر “الجرارات الطائرة” قد آن وحل.
وفي مزرعته في جورجيا، يقول “مورغان” إنه يتجنب حالياً الظهور بطائرته المسيرة بينما يتعلم كيفية استخدامها. قال لي: “أحب أن أخفيها”. ويُعتقد على نطاق واسع بأن المزارعين متشككون، ويميلون لكل ما هو عتيق لسبب وجيه، وهو أنهم رأوا الكثير من الأدوات عالية التقنية التي لا تحقق النتيجة المرجوة منها.
اختتم “مورغان”: “لكنني سعيد جداً بذلك. حقيقة الأمر هي أن هذا الشيء (الطائرة المسيرة) يعمل بشكل فعال”.
المصدر: الشرق