في حقبةٍ من العمل الدبلوماسي الذي يركّز على الإعلام، شكّل مؤتمر المانحين لدعم متضرّري الزلزال، الذي انعقد في 20 آذار/مارس في بروكسل، بدعوة من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس وزراء السويد أولف كريسترسون، عرضًا في السياسة من جميع الأطراف، بدءًا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء في الاتحاد، ومرورًا بمنظمة الأمم المتحدة، ووصولًا إلى القيادة التركية، وحتى السلطات السورية الغائبة عن المؤتمر. وبلغت قيمة الأموال التي تعهّد المانحون بتقديمها نحو 7 مليارات يورو (ما يعادل نحو 7.5 مليارات دولار)، وهذا مبلغ لا يستهان به، لكن هذا المؤتمر كان الجزء السهل، إذ ينبغي الآن تنفيذ هذه التعهدات بحذر.
بدا المؤتمر مُلفتًا من نواحٍ عدة، عند مشاهدته من غرف الأخبار، فقد دُعيت الحكومة التركية للمشاركة، لكن سورية لم تشارك لأن الاتحاد الأوروبي لا يعترف بشرعية حكومة الأسد، ما أدّى إلى احتجاج دمشق.
ونجحت أنقرة في جعل الرئيس رجب طيب أردوغان، يتحدّث من خلال مداخلة عبر الفيديو، وهي خطوة ذكية نظرًا إلى سياق الانتخابات المرتقبة في تركيا.
كان كريسترسون حاضرًا، آملًا ربما في إجراء محادثات جانبية مع المشاركين الأتراك حول انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي خطوة ما زالت أنقرة تعطّلها، لكنه لم ينجح في ذلك.
وطلبت تركيا واليونان غرفة خاصة لعقد جلسة ثنائية في إطار دبلوماسية الزلزال، أدّت إلى تبادل مبادرات دبلوماسية مرتبطة بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمنظمة البحرية الدولية.
ونجحت فون دير لاين، وهي المسؤولة الوحيدة المشاركة من الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي، في إظهار أن من الممكن التعامل مع كارثة مهولة بكرامة وسرعة، على الرغم من الاعتداء على أوكرانيا والتحدّي الكبير الذي يهدّد أمن الطاقة الأوروبي.
وأعلنت قائلةً: “بالتعاون مع شركائنا، قمنا بجمع 7 مليارات يورو إجمالًا لدعم شعبَي تركيا وسورية، في أعقاب الزلازل المدمّرة… لقد أظهرنا للعالم أننا ندعم المحتاجين. ونحن دائمًا نقف إلى جانب شركائنا”.
المُلفت في التعهدات هو التفاوت بين المبلغ الذي جُمع لسورية (911 مليون يورو على شكل مِنح)، وذلك الذي خُصِّص لتركيا (أي مِنح بقيمة 1.7 مليار يورو وقروض بقيمة 4.29 مليارات يورو).
يمكن تفسير ذلك جزئيًا من خلال أسباب ثلاثة هي: أولًا، تكبّدت تركيا الأضرار الأكبر من جرّاء الزلزال.
وثانيًا، تخضع منطقة شمال شرق سورية لسيطرة أطراف سياسية عدّة، ما يزيد من تعقيد عملية صرف الأموال هناك.
وثالثًا، تبدي معظم المنظمات الدولية تردّدًا حيال تقديم قروض إلى النظام السوري المُفلس والفاسد، وستتولّى منظومة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المُعترف بها دوليًا إدارة المنح المُخصَّصة لسورية.
سيستخدم الاتحاد الأوروبي مجموعة من الأدوات المالية، إذ سيقدّم مساعدات إنسانية من المديرية العامة للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية التابعة للمفوضية الأوروبية لسورية وتركيا على السواء، ومن صندوق التضامن الأوروبي وآلية المساعدة لمرحلة ما قبل الانضمام وبنك الاستثمار الأوروبي لتركيا.
لكن الطريق طويل من مبنى شارلمان البرّاق اللامع في بروكسل، وصولًا إلى أكوام الأنقاض في تركيا وسورية.
واقع الحال هو أن المسائل التي ينبغي معالجتها في إطار عمليات إعادة تأهيل البنى التحتية المتضرّرة وإعادة إعمار المنازل المدّمرة تنطوي على صعوبات جمّة.
ستكون مهمّة المسؤولين عن تنفيذ التعهدات مليئة بالتحديات، نظرًا إلى تعدُّد الجهات المانحة، التي يمتلك كلٌّ منها إجراءاته الخاصة حول “المساعدات الإنسانية” أو “التعافي المبكر” أو “إعادة التأهيل” أو “إعادة الإعمار”.
وقد يؤدّي واقع أن المشاركين في المؤتمر لم يُبلوروا رؤية واضحة لمشاريع ما بعد الزلزال إلى نقص الشفافية في عملية التنفيذ، وهذا الخطر قائم في أي عمليات دعم في أعقاب الكوارث، لأن حكومات الدول المتضرّرة تحرص على إظهار أنها تتّخذ إجراءات فورية.
وينطبق ذلك بشكل خاص على تركيا التي من المقرّر أن تُجري انتخابات رئاسية وتشريعية في شهر أيار/مايو.
أما النظام السوري المنخرط في عملية مصالحة سياسية مع دول الخليج، فيتوقّع ربما الحصول على تمويل إضافي من المنطقة في إطار هذا التقارب الناشئ.
تتمثّل إحدى المهامّ البديهية للجهات المانحة الدولية، ولو كانت صعبة، في ضمان الالتزام بمواصفات تشييد مبانٍ مقاومة للزلازل واستخدام موادّ بناء مطابقة للمعايير والحرص على حسن تنفيذها.
فعشرات الآلاف من الضحايا وملايين السكان المتضرّرين في تركيا وسورية على السواء يستحقون بذل هذه الجهود، تُضاف إلى ذلك مسألة أخرى ينبغي التنبّه إليها، وهي المخاطر المُحدقة بصحة الإنسان والبيئة، إذ إن الافتقار إلى المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي يشكّل مصدر قلق بديهيًا، وكذلك كمية الأنقاض الهائلة (بما فيها مادة الأسبستوس والمواد الكيميائية) التي يتم التخلّص منها على عجل ومن دون أخذ الاحتياطات الللازمة.
في تركيا، قدّرت الأمم المتحدة بأن 15 مليون شخص تضرّروا بشكل مباشر جرّاء الزلزال، من بينهم 3 ملايين من دون مأوى، فيما انتقل مليونَي شخص آخرين إلى أجزاء أخرى من البلاد لتأمين فرص عمل والحصول على الرعاية الصحية والالتحاق بالمدارس.
تحرم عمليات الانتقال الطوعية هذه مدنًا تركية كبرى مثل غازي عنتاب وكهرمان مرعش وشانلي أورفة من أفضل قواها العاملة، ما يشكّل خطرًا على قطاعَي التجارة والصناعة في المنطقة.
في هذا الإطار، قد يتمكّن بعض اللاجئين السوريين في المنطقة من تولّي بعض هذه الأعمال الشاغرة، ما سيحدّ من طموحات أنقرة بإعادتهم إلى بلادهم.
أما في سورية، فقد ناهز عدد السكان المتضرّرين من الزلازل 9 ملايين شخص، ولا سيما في محافظتَي حلب وإدلب، بحسب وكالات الأمم المتحدة.
وتأتي مهمة مساعدة ضحايا الزلزال لتُضاف إلى تداعيات حرب أهلية عمرها عقد من الزمن في شمال غرب سورية، حيث البنى التحتية لقطاع الرعاية الصحية مدمّرة أساسًا، ناهيك عن انتشار عدد كبير من النازحين داخليًا.
وستُلقى مسؤولية تطبيق الرزمة الجديدة من المساعدات عقب الزلزال بشكل كبير على عاتق منظمات الأمم المتحدة العاملة أساسًا في المنطقة، لكن من الضروري توخّي الحذر لتفادي إحداث أي شكل من أشكال الهندسة الديموغرافية قي المناطق المحاذية للحدود مع تركيا.
عمومًا، كان التضامن الدولي قويًّا لمدّة ستة أسابيع بعد وقوع الزلزال، والآن، سيتطلّب تنفيذ التعّهدات البالغة قيمتها 7 مليارات يورو عزمًا ومثابرةً من الوكالات المعنية، التي ستواجه تبعات الكارثة الهائلة من جهة، ومجموعة واسعة من القيود السياسية من جهة أخرى.
المصدر: مركز كارنيغي للسلام الدولي