في 18 مارس، قام وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بأول زيارة من نوعها إلى القاهرة منذ عقد، ويأتي هذا التحرك تزامناً مع زيارة قام بها مؤخراً نظيره المصري، سامح شكري ، إلى مدينة مرسين التركية في 27 فبراير، والتي جاءت رداً على الزلزال المدمر الذي ضرب الأجزاء الجنوبية من تركيا، وأودى بحياة قرابة 45 ألف شخص.
ناقش وزير الخارجية التركي خلال إقامته في مصر العديد من القضايا المتعلقة بالعلاقات الثنائية، واتفق الجانبان في مؤتمر صحفي مشترك في ختام الزيارة على رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى السفراء.
وفي تسليط الضوء على أهمية استعادة العلاقات، أشار أوغلو إلى أن “هناك إمكانات هائلة غير مستغلة” لنمو العلاقات، وعلى الجانبين “العمل بجدية أكبر لسد فجوة التسع سنوات”.
تدهورت العلاقات بين تركيا ومصر بشكل كبير في أعقاب الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في مصر الحديثة، محمد مرسي، ورفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاعتراف بشرعية النظام الجديد بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي وظل متحديًا على الرغم من التطبيع الغربي مع الزعيم الجديد.
منع موقف أردوغان النقدي من السيسي عدة محاولات لتقارب مع القاهرة خلال العقد الماضي، ومع ذلك فإن العديد من الأحداث الحاسمة في السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك وفاة مرسي في عام 2019 أثناء سجنه، واتفاقية العلا لعام 2021، وبداية حقبة ما بعد الانتفاضات العربية، اقتضت نهجًا مختلفًا.
الطريق نحو التطبيع
في منتصف عام 2020، بدأت تركيا في مغازلة مصر بناءً على المصالح المتبادلة في ملفين أساسيين: شرق المتوسط وليبيا.
من المنظور التركي، كانت الديناميكيات الجيوسياسية والاقتصادية لمصر مناسبة لمثل هذه الخطوة.
أحد الأمثلة البارزة كان تصريح وزير الخارجية شكري الذي أقر فيه ضمنيًا أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية كانت لصالح القاهرة، على الرغم من معارضة مصر العلنية للصفقة.
علاوة على ذلك، قال مسؤول مصري لصحيفة مدى مصر التي تتخذ من القاهرة مقراً لها في ذلك الوقت: “كان مسؤولونا في وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة يضغطون على الرئاسة من أجل قبول هادئ للاتفاق مع تركيا”.
لقد منحت مصر امتيازًا بحريًا كبيرًا ” وبناءً على ذلك، كانت رسالة المسؤول التركي الأعلى هي أن النهج القائم على المصلحة سيفيد كل من تركيا ومصر في ليبيا وشرق المتوسط ، ويجعل فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين ممكنًا، التعاون مع أنقرة في الشؤون الثنائية والإقليمية يخدم مصلحة القاهرة في نهاية المطاف”.
خلقت اتفاقيات إبراهيم بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل شعوراً بأنها قد تقلص دور مصر الإقليمي، مما دفع أنقرة للتواصل مع القاهرة.
قدمت اتفاقية العلا في عام 2021 التي أنهت نزاع مجلس التعاون الخليجي مع قطر، ورئاسة جو بايدن ديناميكيات جديدة للمنطقة، حيث ركز اللاعبون الإقليميون على التواصل مع بعضهم البعض، وتهدئة التوترات، وزيادة التفاعلات الاقتصادية، وسهلت هذه البيئة الجديدة التقارب التركي المصري وعززت الهجوم الدبلوماسي الجديد لتركيا بعد فترة من السياسة الخارجية الحازمة والعسكرة.
علاوة على ذلك، كانت الحكومة التركية قلقة من إمكانية استفادة معارضتها السياسية الداخلية من قضايا السياسة الخارجية قبل الانتخابات المقبلة في مايو 2023.
ونتيجة لذلك، تم إغلاق الملفات الإشكالية وفتح فصول جديدة مع الدول التي لديها علاقات معقدة أو غير مستقرة مع أنقرة وأصبحت أولوية.
عملية بطيئة ولكنها ثابتة
ونتيجة لذلك، شهد عام 2021 الانطلاق الرسمي لعملية التقارب بين أنقرة والقاهرة.
ولتوفير البيئة البناءة اللازمة لإجراء هذه المحادثات، عدلت وسائل الإعلام التركية موقفها تجاه الحكومة المصرية، وطالب مسؤول تركي المعارضة المصرية المتمركزة في تركيا بالتكيف وفقًا لذلك.
في أبريل 2022، أظهر أوغلو تفاؤلاً بشأن استئناف العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك ليقترح إمكانية عقد اجتماع على المستوى الوزاري، و بعد شهرين أعلن وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين النبطي ،أول زيارة رفيعة المستوى لوزير تركي لمصر منذ تسع سنوات.
على الرغم من التقدم البطيء الواضح ولكن المطرد، واجهت عملية التقارب عقبة جديدة في أكتوبر 2022.
وفقًا للمسؤولين الأتراك، استخدم المصريون صفقة الطاقة التركية الليبية كذريعة لوقف عملية التطبيع الهشة، ومع ذلك فإن لقاء قصير ومصافحة بين الرئيس أردوغان ونظيره المصري خلال مونديال قطر 2022 أعاد التطبيع إلى المسار الصحيح.
اكتسبت عملية التطبيع زخمًا مرة أخرى لسببين رئيسيين: مشاكل مصر الاقتصادية والزلزال المدمر الذي ضرب تركيا في فبراير.
من وجهة نظر تركية، احتكاك القاهرة مع داعميها الماليين السابقين مثل المملكة العربية السعودية يعني أن مصر بحاجة إلى زيادة تفاعلاتها الاقتصادية والمالية والتجارية مع الدول الأخرى قدر الإمكان من أجل التخفيف من الأزمة.
فيما يتعلق بتركيا، أدى الزلزال المدمر إلى زيادة التكاليف الاقتصادية والمالية للحكومة، حيث تقدر فاتورة إعادة الإعمار بحوالي 104 مليار دولار.
يأتي هذا التطور قبل أقل من شهرين من الانتخابات الحاسمة حيث يتعين على أردوغان وحزبه مواجهة جبهة معارضة موحدة لأول مرة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002.
الأهداف النهائية بعد دبلوماسية الكوارث
لقد فتحت دبلوماسية الكوارث فرصة سانحة لمصر وتركيا لاستئناف عملية التقارب وحتى الارتقاء بها.
بصرف النظر عن حقيقة أن التطبيع هو جزء من عملية أوسع لخفض التصعيد بين مجموعة من الدول الإقليمية، فإن المنطق الكامن وراء التطبيع مع القاهرة يحمل العديد من الفوائد من منظور أنقرة.
على المستوى الاقتصادي، هناك إمكانات اقتصادية ضخمة غير مستغلة من التعاون التجاري بين تركيا ومصر.
في عام 2018، تجاوز حجم التجارة الثنائية بين البلدين عتبة 5 مليارات دولار لأول مرة، وحدث هذا على الرغم من العلاقات السياسية المريرة بين الثنائي، وبعد فترة وجيزة برزت مصر كأكبر شريك تجاري لتركيا في شمال إفريقيا.
انتهى عام 2022 بتسجيل رقم قياسي جديد في التجارة الثنائية بين تركيا ومصر.
في نهاية عام 2022، ارتفع حجم التجارة الثنائية من 6.7 مليار دولار في عام 2021 إلى 7.7 مليار دولار، وخلال ذلك العام ، سجلت صادرات مصر إلى تركيا رقما قياسيا قدره 4 مليارات دولار بزيادة سنوية قدرها 32 في المائة عن العام السابق.
علاوة على ذلك، في نهاية عام 2021 وبداية عام 2022، أصبحت تركيا أكبر مستورد للغاز المصري (استيراد تركيا المزيد من الغاز من مصر يعني عملة أجنبية ثمينة لخزينة القاهرة).
من وجهة نظر تركية، فإن اتفاقًا بين تركيا ومصر بشأن ترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط وليبيا من شأنه أن يخلق وضعا مربحا لكلا البلدين، ويفتح الباب لفرص غير محدودة للتعاون، ويعمل كقوة مضاعفة عندما يتعلق الأمر بمصالحهم المشتركة.
تمنح اتفاقية ترسيم الحدود مع تركيا، التي تأخذ في الاعتبار الاتفاقية البحرية التركية الليبية لعام 2020، مصر زيادة كبيرة في منطقتها الاقتصادية الخالصة التي، وفقًا لبعض الحسابات، تزيد عن خمسة وعشرين ضعف حجم العاصمة القاهرة، و يمكن أن يؤدي تخفيف التوتر بين تركيا ومصر في شرق البحر المتوسط إلى تخفيف التوترات بين ليبيا وهؤلاء اللاعبين الإقليميين.
من منظور تركي، توفر ليبيا الآمنة والمستقرة سياسياً والمزدهرة اقتصادياً فرصاً اقتصادية مهمة للبلاد، وتأمل تركيا أن يتمكن البلدان من التعاون في مجالات البنية التحتية والطاقة والأمن واللوجستيات، من بين أمور أخرى.
علاوة على ذلك، فإن التعاون والتنسيق في القضايا الثنائية والإقليمية من شأنه أن يعزز الدور الإقليمي لتركيا ومصر، على سبيل المثال ، يزور وزير الخارجية المصري تركيا خلال شهر رمضان بدعوة من نظيره التركي.
بينما تفضل تركيا تسريع عملية التطبيع، قد تفضل القاهرة الانتظار حتى الانتخابات المقبلة قبل الإسراع بها.
بالنظر إلى ذلك، اقترح أوغلو إمكانية عقد اجتماع رسمي بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس المصري السيسي عقب الانتخابات التركية في مايو، ومع ذلك، فإن ما إذا كان أردوغان قادرًا على تولي منصبه سيظل غير معروف.
المصدر: Atlantic Council