في الأول من مارس (آذار) من عام 1973، سطح قمر جديد في سماء موسيقى الروك. وصل الألبوم الثامن لفرقة بينك فلويد، الغامر المسجل بنظام الأقنية الصوتية الرباعية، الأسطوري والاستقرائي بعمق، مزيناً بدفقة قوية من المؤثرات الصوتية كآلات المحاسبة والساعات الطنانة والترنيمات الملائكية المؤلمة والباردة، وأصوات منفصلة تتحدث عن العنف والموت والجنون.
بينما كانت الفرق المماثلة في موسيقى البروغ روك منشغلة بصياغة تمثيليات مبالغ فيها ولكن مبتذلة عن الأساطير البريطانية وفانتازيا الخيال العلمي والمشادات التبشيرية، غاصت بينك فلويد في الفراغ المظلم للفضاء الداخلي للإنسانية، في ضغوط وأهوال الحياة اليومية التي تدفعنا جميعاً كل يوم إلى حافة الهاوية.
كان ألبوم “الجانب المظلم للقمر” The dark side of the Moon شخصياً بقدر ما كان كونياً، يستعرض بألحان جميلة مواضيع “الوقت” و”المال” بقدر ما كان تشويقياً في تناوله مواضيع الحرب والانقسام والجنون. وضع هذا الألبوم معياراً جديداً لموسيقى الروك الفكرية التي تتطرق إلى مفاهيم عالية المستوى. بعد مبيع 45 مليون نسخة منه، ما زال يحتل المرتبة الرابعة في قائمة الألبومات الأكثر مبيعاً على الإطلاق.
بعد نصف قرن، يبدو أننا اصطدمنا بالجانب المظلم لأعضاء بينك فلويد أنفسهم. لعقود من الزمن، كان الاستياء المتأجج بين العضوين الرئيسين في الفرقة روجر ووترز وديفيد غيلمور صريحاً وتحولت الانتقادات اللاذعة إلى مادة دسمة للمحاورين.
بعد حوالى 40 عاماً من مغادرته الفرقة في 1985، لا يزال ووترز يشك بأن زملاءه السابقين الذين يفتقرون إلى الإلهام تمكنوا من إبقاء “نسخة مغشوشة من فلويد” على قيد الحياة خالية من مفاهيمه (السائدة باعتراف الجميع) وكلمات أغانيه، بحيث راحوا يصدرون ألبومات يعتبرها غير جديرة باسم الفرقة ويصفونه بـ”الاستبدادي”.
على رغم تحفظ غيلمور بشكل عام على تغلبه على الدعوى التي رفعها ووترز إلى المحكمة العليا مطالباً بحل الفرقة عام 1986، إلا أنه لا يزال يشعر بالضيق تجاه محاولات عازف الغيتار الباس [روجر ووترز] الشرسة لنسب الفضل الكامل في الإنجازات الضخمة للفرقة في السبعينيات لنفسه.
ظاهرياً، بدا النزاع واضحاً ويمكن التغلب عليه بالقدر الكافي الذي سمح بلم شمل أعضاء بينك فلويد لأداء ثلاث أغنيات في حفل “لايف 8” عام 2005، بينما تم التخفيف من حدة التناحر لخلافاتهم العامة بشكل عام بفضل الكياسة المكتسبة من مدارس كامبريدج.
أو هذا ما بدا عليه الوضع حتى الآن. لكن في الشهر الماضي، نشرت زوجة غيلمور، بولي سامسون التي تعرضت لانتقادات شديدة من ووترز بسبب إسهاماتها في كتابة أغنيات ألبوم “جرس الانقسام” The Division Bell، تغريدة تتهمه فيها بأن “معاداة السامية متأصلة في قلبك الفاسد… أنت شخص مصاب بجنون العظمة، مدافع عن بوتين، كاذب، سارق، منافق، متهرب من الضرائب، غير قادر على الغناء الحي، معاد للنساء، ومريض بالحسد”. أعاد غيلمور مشاركة التغريدة مضيفاً “كل كلمة صحيحة بشكل واضح”.
ووترز، المنتقد منذ زمن طويل لـ”الإبادة الجماعية” و”الفصل العنصري” الذي تقوم به الحكومة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والذي انتقد فرقة “بينك فلويد” لتسجيلها أغنية احتجاجية بالتعاون مع الموسيقي الأوكراني أندريه خليفنيوك العام الماضي ووصف غزو بوتين لأوكرانيا بـ”المبرر” لكن “غير القانوني” في خطاب ألقاه حديثاً أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رد ببيان يدحض اتهامات سامسون ويصفها بـ”التحريضية وغير الدقيقة إلى حد بعيد”.
في حمأة هذا التراشق اللاذع، كاد تفصيل تحدث فيه ووترز أخيراً عن تحريف فلويد يمر من دون أن يلاحظه أحد.
في مقابلة أجراها مع صحيفة “تليغراف”، مليئة بالهجمات على زملائه السابقين في الفرقة (من بينها “ليست لديهم أفكار، ولا واحد من بينهم… وهذا يدفعهم إلى الجنون”)، كشف عن أنه أعاد تسجيل ألبوم “الجانب المظلم…” بأكمله من الصفر من دون علمهم أو إذنهم.
النسخة المعاد تسجيلها التي كان من المقرر مبدئياً إصدارها في الوقت نفسه تقريباً مع ذكرى مرور 50 عاماً تبدو منقحة بشكل مبالغ فيه. أصبحت أغنية “مال” Money الآن معزوفة “موسيقى كانتري مختلطة” لا تختلف عن أعمال المغني الأميركي جوني كاش، كما أن المقطوعات الموسيقية البحتة مثل “الطريد” On the Run نسمع فيها الآن ووترز وهو يقرأ شعراً نثرياً مبالغاً فيه للمساعدة في التخفيف من إحباطه لأن “عدداً كبيراً من الناس لم يدركوا عما يتحدث الألبوم، ولم يفهموا ما كنت أقوله حينها”.
قال “أنا كتبت ’الجانب المظلم للقمر‘… دعونا نتخلص من كل الهراء الذي يتحدث عن ’نحن‘! بالطبع كنا فرقة، كنا أربعة أشخاص، أسهمنا جميعاً – لكنه كان مشروعي وأنا كتبته”.
بالنسبة إلى جماهير فلويد المتعصبة، يبدو قيام ووترز بإعادة صناعة تحفة فنية مثل “الجانب المظلم…” شبيهاً بإعادة مونيه رسم لوحته “زنابق الماء” لأنه بات يكره اللون الأزرق. هناك ألبومات قليلة تعتبر مثالية وكاملة فوق النقد مثله، من أغنية “تكلم معي” Speak to Me التي تحتوي على تشكيلة من المؤثرات كأصوات الثرثرة وآلات المحاسبة والضحكات الجنونية ونبضات القلب المكتومة، إلى قمة الابتهاج التي نشهدها في ذروة أغنيتي “أذية دماغية” Brain Damage و”خسوف” Eclipse. وأصبح رمزاً أيضاً ودليلاً تاريخياً على أن الرؤى الضبابية تتبلور في نهاية المطاف، بينما تتحد المواهب العظيمة وينتصر الفن المهم حتماً.
في أعقاب فقدان العازف الرئيس الغامض سيد باريت عام 1968 بسبب الاشتباه في إصابته بمرض انفصام الشخصية الناجم عن تعاطي المخدرات، دخلت بينك فلويد فترة من السعي الصوتي المضطرب إلى حد ما. لمدة ثلاثة أعوام، حاولوا تحويل الإمكايات المخدرة لألبومهم “بايبر على أبواب الفجر” Piper at the Gates of Dawn الصادر عام 1967 إلى شيء لم تكن الفرقة نفسها ولا الموسيقى بشكل عام جاهزتين له بعد.
في ألبومات مثل “طبق مليء بالأسرار” A Saucerful of Secrets (1968) و “أوماغوما” Ummagumma (1969) و “أم بقلب ذري” Atom Heart Mother (1970)، تعمقوا أكثر من اللازم في تلك الرحلة الموسيقية الطويلة ومتعددة الأجزاء التي بدأوها مع أغنية “التسارع بين النجوم” Interstellar التي تبلغ مدتها 10 دقائق وقدموها في عروضهم المبكرة.
من خلال التوسع في التجارب الأوركسترالية الطليعية والأصوات المكتشفة ـ مثل صنابير المياه التي تقطر، أو صوت تناول مركب المعدات في الفرقة وهو يأكل الخبز المحمص – سيطرت أغنيات مثل “أم بقلب ذري” و”سيسيفس” Sysyphus و”فطور آلان المهلوس” Alan Psychedelic Breakfast على جوانب كاملة من ألبوماتهم، مما ساعد على تحفيز السمة النهائية لموسيقى البروغ روك: “التدوير الانتقالي للأغنية”.
أكسبتهم هذه الغرابة مؤيدين مخلصين من الهيبيين متعاطي المخدرات الذين يعيشون أجواء خيالية أثناء جلوسهم على الأرض خلال حفلات فلويد الموسيقية.
لكن طموحاتهم في خلق ملحمة صوتية طويلة لم تتحقق إلا عندما احتلت أغنية “أصداء” Echoes الحالمة والدرامية النصف الثاني بأكمله من ألبوم “تدخل” Meddle الصادر عام 1971.
باستعارة صور من شاعر القرن الـ19 الرومانسي صامويل تايلور كولريدج وأغنية “عبر الكون” Across the Universe لـجون لينون ونسج سلسلة من أصوات السونار الهادئة وتحويلها إلى تكريم مؤثر للتواصل البشري، كانت أغنية “أصداء” التي تمتد لمدة 23 دقيقة بمثابة جولة قوية من ديناميكيات تجميع موسيقي أصاب الصميم.
بعدما سئمت الفرقة من تقديم أغنياتها الراسخة وأدركت أن لحظة التركيبة السحرية حلت أخيراً بالنسبة إليها، نوت بينك فلويد بعد ذلك تقديم مجموعة كاملة من الأعمال الموسيقية الممتدة على طول الألبوم يوحدها موضوع واحد.
وفقاً لـووترز، كانت رسالة “الجانب المظلم للقمر” الذي كان يحمل في البداية عنوان “خسوف: معزوفة لتشكيلة من المجانين”، لأن فرقة “ميديسن هيد” Medicine Head البريطانية استخدمت بالفعل عنوان “الجانب المظلم…” في أحد ألبوماتها الذي صدر قبل وقت طويل من تأليف فلويد أي ألحان أو أشعار. في اجتماع عقد عام 1971 في مطبخ منزل عازف الدرامز نيك ماسون في منطقة كامدن بلندن، اقترح ووترز، أن يكتبوا ألبوماً كاملاً ويؤدوه في جولتهم المقبلة يستند إلى ما وصفه بـ”الضغوط والانشغالات التي تصرفنا عن إمكاناتنا بالقيام بعمل إيجابي”.
يلخص غيلمور هذه الفكرة “ضغوط الحياة المعاصرة… التي تتآمر لإصابة بعض الناس بالجنون”.
لم تكن متاعب فرق الروك المتجولة التي تصاب غالباً بالحنين إلى الوطن وتستهزئ بـ”أجواء السفر الفخمة على متن الدرجة الأولى” بعيدة من أذهانهم، وكذلك لم يكن مصير سيد باريت. كانت ذكرى قيام المغني السابق بالتسلل إلى حديقة مجاورة لضفة النهر في كامبريدج مصدر إلهام ووترز لكتابة عبارة “المجنون موجود على العشب” في أغنية “ضرر دماغي”، كما ألهم تدهور الصحة العقلية اللاحق لـسيد شخصية البطل المأسوي غير التقليدي في الأغنية. إنه شخص “انفجر سدّ قبل الأوان بأعوام عدة… وينضح رأسه بالنذر المشؤومة السوداوية” ويجد نفسه في النهاية منفصلاً عن عالمه الضمني، ويغني ووترز “وإذا بدأت الفرقة التي تنتمي إليها بعزف نغمات مختلفة… سأراك على الجانب المظلم للقمر”.
أوضح ووترز لاحقاً أن عبارة العنوان الشهيرة تلك كانت محاولته الوصول إلى مستمعيه الذين يعانون. قال لاحقاً: “إذا شعرت بأنك الشخص الوحيد… وبأنك تبدو مجنوناً لأنك ترى كل شيء مجنوناً، فأنت لست وحيداً”.
من خلال تكثيف بروفات الحفلات بلا هوادة والعمل على مواد متأخرة أو مرفوضة مما سماه ووترز “مكتبة القمامة” التي تضمنت مؤلفات موسيقية لعازف الأورغ ريك رايت معنونة “التسلسل العنيف” و”الموضوع الديني” و”قسم السفر” كونت فلويد إطاراً تقريبياً ولكن انسيابياً للعمل يستند إلى نسخ مبدئية من أغنيات “تنفس” و”الحفلة العظيمة في السماء” The Great Gig in the Sky و”الطريد” و”نحن وهم” Us and Them.
أضاف ووترز إلى ذلك أغنية “مال” التي تهجو الاستهلاك وتتخللها موسيقى الفانك المسجلة في مستودع الحديقة وأغنية “وقت” Time التي تفرض فكرة “استغل الحياة حيثما أمكن ذلك”، بينما تطور مشروع تكوين أغنية “خسوف” بشكل أكبر أثناء الجولات الغنائية.
وجد الجمهور الذي حضر العروض الأولى للألبوم في المملكة المتحدة في يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من عام 1972 أن الفرقة تتصارع مع التحديات التقنية لنظام الأقنية الصوتية الرباعية الجديد الرائد وتغطي أغنية “الحفلة الرائعة في السماء” بتلاوة مسجلة بصوت مالكولم ماغيريدج لنصوص من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل أفسس.
على كل يوم، بعد قضاء يوم استراحة في بريستول، جاء ووترز إلى عرض الليلة التالية بأغنية جديدة بارعة بالكامل هي “خسوف” وأعلن “تفضلوا يا الشباب، كتبت الأغنية الأخيرة”.
أقيم عرض أول أمام الصحافيين المذهولين في مسرح رينبو بلندن في 17 فبراير للألبوم الذي حمل في النهاية عنوان “الجانب المظلم للقمر” بعدما اختفى ألبوم فرقة “ميديسن هيد” بلا أثر.
كتبت صحيفة صنداي تايمز: “صار طموح الاختراع الفني لدى فلويد شاسعاً الآن”. بعد صقل العمل وتوسيعه خلال الأشهر التالية، وصلت فلويد إلى استوديو آبي رود حاملة ألبوماً شبه مكتمل وجاهزاً للتسجيل، باستثناء بعض الإضافات الرئيسة على الأجواء تردد استخدام فرقة بيتلز استوديو آبي رود كمختبر تجريبي ضخم للصوت.
تم تشغيل مولد أصوات موسيقية من طراز “سينثي أي” لإضافة زخم إلكتروني إلزامي إلى أغنيتي “الطريد” و”الوقت”. تم تجميع أصوات آلات المحاسبة المسموعة في أغنية “مال” من تسجيلات المؤثرات الصوتية الموجودة في آبي رود، وتسجيلات لصوت رمي ووترز عملات معدنية في خلاط طعام صناعي تمتلكه زوجته، وصوت الفرقة وهي ترمي أكياساً مليئة بالنقود على أرضية الاستوديو من ارتفاع ستة أقدام. أما سلسلة أصوات الساعات المتناغمة، فسجلت في الأصل بشكل منفرد في متجر ساعات عتيقة بواسطة المهندس آلان بارسونز لعرض تأثيرات نظام الأقنية الصوتية الرباعية، واختلستها فلويد واستخدمتها في بداية أغنية “وقت”.
وتم استحضار مجموعة من المطربين الداعمين – دوريس تروي وليزلي دنكان وليزا سترايك وباري سانت جون – لإضافة تلك الهيبة الكنسية إلى أغنيات من بينها “ضرر دماغي” و”نحن وهم”، مشيرين إلى الطبيعة شديدة التحفظ والتكتم لفرقة موسيقية وهي تصنع ألبوماً يفترض أنه يتبنى الاتصال الإنساني والتعاطف. تتذكر دنكان: “لم يكونوا ودودين جداً… كانوا باردين، بل رصينين… أفضل تعليق سمعناه كان ’هذا سيفي بالغرض‘”.
من أجل التوسع في موضوع الألبوم، بدأ ووترز يجري مقابلات مع الناس – مركبو المعدات الموسيقية في الفرق، مهندسون، وأي شخص تمكن من الوصول إليه بالقرب من الاستوديو – ويطرح عليهم مجموعة ثابتة من الأسئلة: “متى كانت آخر مرة كنت فيها عنيفاً؟” “هل كنت على حق؟” “هل تخاف من الموت؟” “هل تعتقد بأنك تصاب بالجنون؟”.
شارك في اللقاءات بول ماكارتني الذي كان في الاستوديو المجاور يسجل ألبوم “طريق ريد روز السريع” Red Rose Speedway بالتعاون مع فرقة وينغز، إلا أن إجاباته وصفت بالمفتعلة والفكاهية بدرجة لا يمكن تضمينها في الألبوم – قال غيلمور “ذكي للغاية، وحذر للغاية… لم يرد التصريح بأي شيء”. على كل حال، أسهم عازف الغيتار في وينغز، هنري ماكغالو، بعبارة “لا أعرف، كنت ثملاً حقاً في ذلك الوقت”.
أصبحت المقابلات، المتناثرة في أرجاء الرحابة الكونية للألبوم، نوعاً من المونولوغ الداخلي له، الأصوات التي تدور في الألبوم وبدت كأنها تنجرف من الجانب المظلم للقمر نفسه.
الضحك الجنوني لمدير الجولات الموسيقية، بيتر واتس، والد الممثلة السينمائية نعومي واتس. المشاجرة الحانقة التي دارت في الطريق ووصفها مرافق الفرقة روجر مانيفولد الملقب بـ”القبعة”. بينما يقدم البواب في استوديو آبي رود أكثر المشاعر الفلسفية هدوءاً في الألبوم: “أنا لست خائفاً من الموت. فليأت في أي وقت، لا أمانع”، “لطالما كنت مجنوناً… مثل معظمنا” و”لا يوجد جانب مظلم للقمر، حقاً. في واقع الأمر، إنه مظلم بالكامل”.
أمر مفارق أيضاً، كان مشاركة المغنية كلير توري البالغة من العمر 25 سنة التي تقاضت 30 جنيهاً استرلينياً مقابل إضافة أصوات لأغنية “الحفلة العظيمة في السماء” لتحل محل الأصوات الإنجيلية. شرح غيلمور: “أردنا إشراك فتاة فيه، تصرخ كما في نشوة الجماع”، احتاجت توري إلى إعادة التسجيل بضع مرات للحصول على الاندفاعة الأساسية التي يريدونها. قال بارسنز: “كان يجب أن يطلب منها ألا تغني أي كلمات… عندما بدأت للمرة الأولى، كانت تقول ’أوه نعم يا حبيبي‘ وما شابه ذلك، لذا كان ينبغي منعها من القيام بذلك. لكن لم يكن هناك توجيه حقيقي – كان عليها فقط أن تشعر بما تقول”. تتذكر توري: “قالوا ’جربي أداء نوتات طويلة‘… وهكذا بدأت فعل ذلك… كان ذلك عندما قلت لنفسي ’ربما يجب أن أتظاهر فقط بأنني آلة موسيقية‘”.
توري شخصياً اعتبرت في البداية أن الصوت المرتجل المسجل دفعة واحدة الناتج من ذلك “مواء قطط متشاجرة صاخباً”، وعندما واجهت التحفظ الذي تتميز به الفرقة، اختصرت تسجيلاً صوتياً ثانوياً بوصف أنه يبدو مفتعلاً وخرجت من الاستوديو محرجة بعض الشيء، مقتنعة أن أداءها لن يوضع في الألبوم أبداً.
مع ذلك، فإنه يبرز كواحد من أعظم الأصوات التي سجلت على الإطلاق: عالم قائم بذاته من العاطفة المجردة من الكلمات، يتراوح بين الفخور والمتحمس والنشيط والمحموم واليائس والمغري والمرعوب والمحطم.
قال غيلمور: “كانت رائعة”، وبعد دعوى قضائية متعلقة بحقوق الملكية رفعت عام 2004، حصلت توري على الاعتراف كمشاركة في كتابة الألبوم مقابل إسهامها الحيوي في واحد من أفضل الألبومات وأكثرها مبيعاً على الإطلاق وشهد أجرها البالغ 30 جنيهاً استرلينياً ارتفاعاً مناسباً من خلال تسوية غير قضائية.
عند إصداره، سرعان ما أصبح “الجانب المظلم للقمر” أحد عمالقة موسيقى الروك في السبعينيات. تذكر ووترز تشغيل الألبوم النهائي أمام زوجته وكيف “انفجرت في البكاء عندما انتهى… قلت لنفسي ’ من الواضح أن هذا ضرب على وتر حساس في مكان ما‘”.
كان الوتر الذي ضربه عالمياً: صعد الألبوم بسلاسة إلى قمة سباق الأغاني في الولايات المتحدة، وعلى رغم وصوله إلى المركز الثاني عام 1973، إلا أنه أمضى 555 أسبوعاً في قائمة أفضل 100 ألبوم في المملكة المتحدة وما زال فيها حتى يومنا هذا، بحيث حقق تدريجاً مبيعات عالمية بلغت 45 مليون نسخة.
وضع النجاح الهائل الألبوم في صميم الثقافة المضادة في سبعينيات القرن الماضي، وجعله حجر زاوية في موسيقى الروك البريطانية يحتل مكانة إلى جانب ألبوم “الرقيب بيبر”Sgt Pepper لفرقة بيتلز وألبوم “ليد زيبلين 4” Led Zeppelin IV لفرقة ليد زيبلين وشهادة عظيمة على التأمل التشريحي والتهديد الجليل والعظمة الصوتية التي كانت روحنا الموسيقية قادرة على تقديمها.
كان هذا ألبوماً أثبت ولخص تألق اللحن والابتكار المخدر للوسط الموسيقي في المملكة المتحدة في الستينيات وأوائل السبعينيات، بينما كشف في الوقت نفسه عن التوتر والانقسام والاضطراب والوحشية الكائنة في صميم مجتمعها الذي يوصف بالمهذب والمتحضر.
بالنسبة إلى مشهد موسيقى الروك التقدمي المزدهر، أصبح الألبوم تتويجاً وغاية على حد سواء: ألبوم يتمتع بوحدة موسيقية وموضوعية يمكن للملايين أن تشعر بوجود صلة بينها وبينه، ولكنه ساحر بدرجة كافية لإثارة شائعات بين مدمني المخدرات بأنه صمم لمحاكاة مشاهد فيلم “ساحر أوز” The Wizard of Ozمشهداً بمشهد. لكن بالنسبة إلى أعضاء بينك فلويد أنفسهم، كان بداية النهاية.
عند وصولهم إلى مستوى تقديم عروضهم أمام أعداد تملأ استاداً في أميركا، وجدوا أن جمهورهم المحترم والمتنبه استبدل بأشخاص مخمورين يصرخون مطالبين بأداء أغنية “مال”، وجدوا أنفسهم في قمة المعضلة الخالدة التي تواجهها موسيقى الروك: بمجرد أن تحقق كل ما تخطط لتحقيقه، ماذا بعد؟
قال ووترز ذات مرة: “لقد أنهى “الجانب المظلم للقمر” بينك فلويد بالضربة القاضية… الوصول إلى هذا المستوى من النجاح هو هدف كل مجموعة. وبمجرد أن تصل إليه، انتهى الأمر”.
عرف عن المحاولات التي أتت بعد ذلك، ألبوم “أتمنى لو كنت هنا” Wish You Were Here الصادر عام 1975، أنها كانت بلا هدف، مفككة ويائسة، وأصبحت الألبومات اللاحقة بشكل متزايد وسائط لأغنيات ووترز ومفاهيمه التي تتناول الاغتراب والقمع الاجتماعي والسياسي والصدمات الشخصية التي وصلت إلى ذروتها في أعظم ما أبدعته الفرقة المتمثل في ألبوم “الجدار” The Wall الصادر عام 1979 وكان أشبه بسيرة ذاتية بيع منها 30 مليون نسخة.
إذاً، يمكن تعقب جذور الاحتكاكات الحالية بين أعضاء بينك فلويد إلى ألبوم القمر المتقن والمثالي. لكن مع بيع ما يقدر بـ10 آلاف نسخة أسبوعياً حتى زمن البث التدفقي، لا يزال “الجانب المظلم للقمر” يتواصل مع الأجيال الجديدة التي تشعر بأن الوقت ينزلق من بين أيديها، متماسكة بيأس هادئ وبعيدة كل البعد من كونها محصنة ضد ضغوط عبودية الأجور والفقر وجنون الحرب وأزمات النفس.
يقول ووترز واصفاً الجاذبية الدائمة للألبوم “أعتقد بأنه يقول ’لا بأس في الدخول في المهمة الصعبة المتمثلة في اكتشاف هويتك، ولا بأس في التفكير بالأمور بنفسك‘”، وبلا شك حافظت الرأسمالية في مرحلة متأخرة على بقاء “الجانب المظلم…” ذا صلة. ربما يكون تعبير “نحن وهم” تنبيهاً سابقاً بأزمة كلفة المعيشة وعدم المساواة الاجتماعية اليوم (“مع ومن دون، من سينكر أن القتال يدور حول هذا؟… من أجل الحصول على ثمن الشاي وقطعة خبز، مات الرجل العجوز”)، في حين أن الألبوم يحمل حكمة يجب أن ننتبه إليها في مثل هذه الأوقات العصيبة. يغني غيلمور في أغنية “تنفس” Breathe “ستعيش طويلاً وتحلق عالياً… لكن فقط إذا ركبت المد والجزر”.