يدعونا القائمون على “سوق سان بيار” الفني في باريس، من خلال برنامج معارضهم لهذا العام، المرصود لفنانين وكتّاب وشعراء اضطلعوا بمهمة توسيع رؤيتنا للواقع عبر تفجيرهم حدوده الضيّقة واتّباعهم دروب الخيال.
رحلة تنطلق بمعرض لا يُفوَّت، مخصَّص لـ “دار الخرافة” (La Fabuloserie) ومغامرتها المثيرة، في مناسبة مرور أربعة عقود على تأسيسها.
ولمن يجهل هذه الدار، فهي مجموعة فنية لا مثيل لها نشط المهندس الفرنسي ألان بوربوني في جمع قطعها انطلاقاً من عام 1972، في باريس أولاً، داخل “محترف جاكوب”، ثم في قرية ديسي (شمال فرنسا)، داخل منزل كبير اقتناه وحوّله إلى متحف.
أما مجموعة “دار الخرافة”، فتتألف من نحو ألف قطعة تتوزع داخل المتحف وفي أرجاء حديقته. في المتحف، نشاهد ما ينتمي منها إلى ميدان الرسم والنحت والتركيب، إضافةً إلى شخصيات “قبيلة المشاغبين” التي ابتكرها بوربوني. وفي “الحديقة المسكونة”، تفاجئنا كائنات وأشياء تتحدّى أي محاولة لتحديد هويتها.
مجموعة شكّلت في قطعها الأولى التي تنتمي إلى الفن الخام، تكملة لمسعى الفنان جان دوبوفي، قبل أن تنحرف عنه لفرض نظرة صاحبها وذائقته وحساسيته.
وفعلاً، تكمن قيمة هذه المجموعة في وقوعها عند تقاطع الفن الخام، الفن الساذج والفنون الشعبية، وفي انفتاحها على الثقافات غير الغربية.
تكمن أيضاً وخصوصاً في كون الأعمال الفريدة التي تتألف منها تعود إلى مبدعين مجرّدين من أي هاجس جمالي، لا يدّعون احتراف الفن. ولهؤلاء الأشخاص “العاديين”، لكن المسكونين بقوة إبداعية يتعذّر كبتها، أراد بوربوني “معبداً للحلم والمخيّلة والانفعال”، يكون كل شيء فيه غريباً، مدهشاً وغير عادي.
معبد يقترح داخل جدرانه رحلة مفاجئة، مذهلة ومحيِّرة في الوقت نفسه، تمتد إلى حديقته الكبيرة حيث عثرت على ملجأ أخير لها بعض أعمال أولئك الذين أمضوا حياتهم في تحويل بيئتهم اليومية إلى فردوس شخصي، فشيّدوا ليس أقل من الخيال بعينه، مستلهمين غالباً ما وضعته الصدفة في طريقهم. معبد لا يُنقذ فقط أعمالهم من الضياع الذي يتربّص بها، بل يمنحها الانقشاع الذي تستحقه، ومعه قراءة تبيّن كل قيمتها.
ولا عجب في هذا المسعى الذي تحكّم بحياة بوربوني حتى رحيله، فهذا المجمِّع ذو النفَس المحرِّر للحواس والخيال، كان بدوره مبدعاً في أكثر من وسيط، فمارس الرسم والنحت والحفر، إضافة إلى الإخراج المسرحي والسينمائي. ومن ثمار هذه الممارسة المجيدة، نذكر على سبيل المثال تلك الشخصيات الميكانيكية التي ابتكرها من مواد بسيطة متفرّقة، وتشكّل مجتمعةً قبيلة مدهشة وغنية بالألوان، تبدو وكأنها خرجت مباشرةً من مخيلة ألفرد جاري، وتحديداً من مسرحيته “أوبو الملك”.
ولفهم مغامرة حياته هذه، علينا العودة إلى عام 1946 الذي اكتشف فيه أعمال دوبوفي، وكان في سنّ الـ 21. اكتشاف طبعه بشدّة ودفعه إلى البدء بتجميع الأعمال الفنية انطلاقاً من عام 1965.
ويجب انتظار عام 1971 كي يلتقي بالفنان المذكور ويشاهد مجموعته الفنية الخاصة التي تتألف حصراً من أعمال تنتمي إلى الفن الخام، فيتصادقان ويتراسلان بانتظام على مدى عشر سنوات. وإثر اقتراح دوبوفي مساعدته في أي مشروع فني يقوم به، أسس بوربوني غاليري “محترف جاكوب” في باريس عام 1972 وانطلق في تنظيم معارض مهمة لفنانين معاصرين يقع عملهم على هامش الأساليب المطروقة، مثل ألويز كورباز، جيوفاني بوديستا، ريبيكا برودسكي وماري روز لورتيه.
ومن المراسلة بين دوبوفي وبوربوني انبثقت عبارة “فن خارج القواعد” التي ستصبح شعار الغاليري. مذّاك، عاش بوربوني ثلاث حيوات متوازية: حياة مهندس، حياة مبدع، وحياة مدير غاليري. وعلى رغم نجاح المعارض التي نظّمها والمقالات المديحية التي حصدتها، وجد صعوبة كبيرة في بيع الأعمال التي كان يعرضها، فالفن الخام الذي تنتمي معظم هذه الأعمال إليه، كان آنذاك يثير الفضول، وفي الوقت نفسه، يخيف مجمّعي الفن وهواته… باستثناء بوربوني نفسه. ولأن مرتادي الغاليري المنتظمين لم يكونوا ناضجين بما يكفي كي يعوا أهمية هذا الفن الجديد والموقع الذي سيحتله لاحقاً داخل تاريخ الفن، اضطر بوربوني إلى إغلاق “محترَف جاكوب” نهائياً عام 1982، وإلى نقل قطع مجموعته الخاصة إلى قرية ديسي حيث كان قد اشترى منزلاً ريفياً عام 1960.
وبسرعة، انطلق في تحويل هذا المنزل إلى متحف، بلا تصميم محدَّد سلفاً، وبمساعدة بنّاء واحد من القرية. تحويل غايته جعل من المنزل مكاناً حميمياً يليق ويتناغم مع القطع التي سـتقطنه. ولأن مجموعته تقع في مواصفاتها “خارج قوانين المدينة والفن المتداوَل فيها”، أخذت قطعها كل قيمتها ووهجها داخل إطارها الريفي الجديد. وفي هذا السياق، صُمِّمت كل غرفة في هذا المنزل لاستقبال قطعة أو مجموعة قطع محدَّدة، وتعزيز جوّها الخاص.
دوبوفي افتُتن بهذا المشروع، فكتب لصديقه: “(…) علينا أن نعرف كيف نختم مشروعاً انتهى، وننطلق في مشروع جديد. إلى ديسي إذاً! الهواء هناك أكثر نقاءً مما هو عليه في باريس، والنباتات تنمو بشكل أفضل. يمكنك تنظيم عرضٍ واسع النطاق ومدهش بقوة، يشكّل نقيضاً لما يُعرض في حيّ بوبور الباريسي (حيث مركز بومبيدو وغاليرهات كثيرة). قلعة حصينة لما هو هامشي في الإبداع، محرَّرة من التكييف الثقافي”.
متحف “دار الخرافة” فتح أبوابه للجمهور في 25 أيلول (سبتمبر) 1983. أما اسمه فابتكره بوربوني مع صديقه، الناقد الفني ميشال راغون الذي لخّص على أفضل وجه روح هذا المكان الفريد في مقال كتب فيه: “بكل براعة المهندس الذي مارس الهندسة العقلانية حتى السأم، بينما كان يحلم بنقيضها، أعدّ بوربوني متاهة مسارّية، توقّعها غُرَف مفاجئة ندخلها خلسةً ونخرج منها بقشعريرة، وأحياناً برعب. نصعد أدراج طاحونة، نعبر جدران، وكل ما يعترض طريقنا غريب، مدهش، ساحر، ويخرج عن المألوف”. متحف لا مثيل له إذاً، تقطنه كائنات من عالمٍ آخر، تطلّب عبورها إلى عالمنا خيالاً جامحاً ومهارات فريدة في التركيب والتعشيق والتدوير والتجسيد. كائنات تروي لكل واحد من زوّارها حكاية مختلفة، وفقاً لإسقاطاته عليها، ولقدراتها الإيحائية اللامتناهية، وتنقله إلى عالمها الخاص، عالم الخرافة الذي بات واقعاً معها.
لم يغلق هذا المتحف أبوابه بعد وفاة بوربوني عام 1988، بل اضطلعت زوجته كارولين بمهمة إحيائه على مدى 25 عاماً، من خلال معارض عدة، محلية ودولية، نُظِّم بعضها بالتعاون مع أكبر متاحف أوروبا، قبل أن تحلّ ابنتاها، أنييس وسوفي، مكانها، فلا تكتفيان بإدارة هذا المكان السحري، بل تعيدان فتح “محترَف جاكوب” في باريس عام 2016، مقابل المكان الذي انطلقت مغامرة والدهما فيه. غاليري هي عبارة عن فضاء للعرض والقراءة مكرّس كلياً لـ “الفن خارج القواعد” وللترويج لمغامرة “دار الخرافة” التي لا غاية لها سوى تحرير الإبداع من أي قيد، وإعادة شحن الحياة بالسحر والخيال.
يبقى أن نشير إلى أن “الفن خارج القواعد”، كما نظر بوربوني إليه وروّج له، يقترب في مواصفاته من الفن الخام. ومع أن ثماره تستحضر أيضاً الفن الشعبي والفن الساذج، لكنها تتمايز عن الأول من منطلق أنها لا تندرج ضمن ثقافة أو تقليد محدد، بل ضمن رؤية شخصية فريدة، كما تتمايز عن الآخر لأن أصحابها لا يدّعون ممارسة أسلوب محدد، ولا يستخدمون في عملهم مواد تقليدية، بل مواد مستقاة مباشرةً من بيئتهم، فـ “يبتكرون الخارق والعجيب بالمبتذَل”.