أطلق الرئيس التونسي قيس سعيد تحذيرات من محاولات لإفشال الدور الثاني من الانتخابات البرلمانية من خلال توزيع أموال على التونسيين لدفعهم إلى مقاطعة التصويت من دون أن يكشف عن تلك الجهات الساعية إلى ذلك.
وجاءت تصريحات سعيد وسط تحشيد من قبل قوى المعارضة السياسية من أجل التظاهر يوم 14 يناير (كانون الثاني) الذي يصادف ذكرى رحيل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهو تحشيد من غير الواضح ما إذا كان سيترجم بتظاهرات قوية في الشارع.
تجدر الإشارة إلى أن المعارضة دعت قيس سعيد إلى الاستقالة في أعقاب مشاركة ضعيفة للغاية في الدور الأول للانتخابات البرلمانية الذي جرى في 17 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي في خطوة رفضها الرئيس التونسي الذي يراهن على الدور الثاني للرد على تلك الدعوات.
حدود المواجهة
قال قيس سعيد خلال لقاء جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن إن “هناك من يقومون بتوزيع أموال طائلة على المواطنين بهدف تعطيل السير العادي للدور الثاني لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب أو تعطيل السير العادي لبعض المرافق العمومية، فضلاً عن تلقيهم مبالغ ضخمة من الخارج بهدف مزيد من تأجيج الأوضاع وضرب استقرار الدولة التونسية”.
ولفت إلى أن “أمن الدولة والسلم الاجتماعي لا يمكن أن يترك من يسعى يائساً إلى ضربها خارج دائرة المساءلة والجزاء”.
في المقابل، سارعت المعارضة إلى رفض هذه الاتهامات التي لم يحدد الرئيس سعيد المعنيين بها أصلاً قبيل أيام من الدور الثاني للانتخابات البرلمانية، والذي سيكون حاسماً بشكل كبير في المواجهة بين الطرفين.
وقال الأمين العام للحزب الجمهوري المعارض عصام الشابي، إن “رئيس الجمهورية في عزلة وهو يبحث عن شماعات ليعلق عليها إخفاقه، وهذه الخطب التي سمعها التونسيون للمرة الألف لم يصدقوها، والرئيس يبرع في اتهام الآخرين من دون تقديم أدلة على ذلك، لا للمعارضين ولا للمجهولين”.
وتابع الشابي في تصريح لـ”اندبندنت عربية” أن “المسار الانتخابي فاشل، حيث أدار أكثر من 90 في المئة من التونسيين ظهورهم له، وقالوا إنهم غير معنيين به، ورئيس الجمهورية بصدد فقدان شرعيته الانتخابية”.
وشدد على أن “مسار 25 يوليو (تموز) يتخبط ويترنح ورئيس الجمهورية يستبق الفشل بتبريره من الآن في ظل الإجماع الوطني لمطالبته بإيقاف هذه الانتخابات، ونتوقع فشلاً ذريعاً للدور الثاني للانتخابات، وهو ما يدفعنا للمطالبة بإيقافه والعودة إلى الجادة والحوار لإنقاذ البلاد”.
وأوضح أنه “على رغم الانهيار الاقتصادي فإن رئيس الجمهورية يصر على مواصلة فرض سياسة الهرب إلى الأمام والأمر الواقع، وهو يعرف أن هذا النهج وصل إلى نهايته”.
وحول الدعوات إلى الاحتجاج في 14 يناير، قال الشابي، “ندعو الناس إلى النزول للشارع في مناسبة مجيدة نعطيها مضموناً، وهو التمسك بقيم الثورة والدفاع عن الديمقراطية في وجه الردة السياسية الحاصلة الآن في تونس”.
شراء أصوات أم مقاطعة؟
في المقابل، أشادت بعض الأحزاب الموالية للرئيس سعيد والمسار الذي يقوده بحديثه، معتبرين أن هناك بالفعل محاولات لاستمالة التونسيين من أجل مقاطعة الدور الثاني للانتخابات البرلمانية.
وقال الناطق الرسمي باسم حزب “التيار الشعبي” محسن النابتي، إن “هناك مستويين في حديث رئيس الجمهورية، الأول من يحاول اختراق البرلمان القادم عبر المراهنة على مرشحين بعينهم وشراء الأصوات والذمم لهم من قبل أحزاب سياسية. أما المستوى الثاني فيتعلق بتوزيع أموال وإغراءات للناس من أجل مقاطعة الدور الثاني للانتخابات البرلمانية، وهناك بالفعل قضايا مرفوعة أمام النيابة العامة، ونحن نستغرب عدم التحرك بسرعة ضد هؤلاء على رغم أن وضع حد لهم عملية سهلة”.
وشدد الناطق الرسمي باسم حزب “التيار الشعبي” على أن “رئاسة الجمهورية وهيئة الانتخابات والأجهزة الأمنية عليهم أن يدركوا أن عملية شراء النواب تتم حتى قبل الانتخابات، فهناك أحزاب غير معلومة تتصل بالمرشحين وتقوم بإغرائهم من أجل السيطرة على البرلمان المقبل”.
وكان الدور الأول للانتخابات البرلمانية التي قاطعتها قوى المعارضة في تونس، شهد نسبة مشاركة ضعيفة بلغت 11.8 في المئة في خطوة دفعت المعارضة، وفي مقدمتها “جبهة الخلاص الوطني” و”الحزب الدستوري الحر” وغيرهما إلى مطالبة سعيد بالاستقالة، لكنه رفض تلك الدعوات معتبراً أن الحسم لا يمكن أن يتم في شوط واحد، في دلالة واضحة على مراهنته على الدور الثاني للرد على هؤلاء.
تصريحات مبنية للمجهول
من جهته، قال الباحث السياسي محمد العربي العياري، إن “تصريحات رئيس الجمهورية بما فيها من اتهامات أصبحت معتادة، فهمنا أن هذه التصريحات مبنية للمجهول، حيث يعيد العبارات نفسها تقريباً، وهو يتحدث عن ناس وأطراف من دون أن يكشف عن هويتهم وانتماءاتهم، هل هم أحزاب أم منظمات أم ماذا بالضبط؟”.
وأبرز العياري لـ”اندبندنت عربية” أن “نتائج الدور الأول مثلت صدمة لرئيس الجمهورية، حيث كان يتوقع أن تكون أعلى من ذلك بكثير، وهذا مس برئيس الجمهورية الذي أصبح يراجع شعبيته لدى التونسيين”.
وشدد على أنه “قد نرى عزوفاً كبيراً في الدور الثاني، ورئيس الجمهورية سيحافظ على الحد الأدنى من شرعيته ومشروعيته، وسيحاول من خلال المشرفين على الانتخابات والمفسرين التابعين له تجنيد كل إمكانات الدولة لإنجاح الدور الثاني على الأقل بعدد المصوتين نفسه في الدور الأول”.
وأشار العياري إلى أنه “في ظل الدعوات إلى المقاطعة واستقالة الرئيس سعيد، أعتقد أنه سيتم بالفعل تجنيد كل الإمكانات لإنجاح هذا الدور على رغم أن المقاطعة ليست وليدة اللحظة في تونس، فهناك مقاطعة منذ 2014 تقريباً، لأن التونسي لا يرى أن العملية السياسية تنجح من خلال البرلمان، بخاصة في ظل صعوبة شروط الترشح التي طرأت في القانون الانتخابي الجديد”.
ورأى الباحث السياسي أن “الانتخابات الحالية تقريباً قدت على المقاس بالنسبة إلى المؤيدين للرئيس قيس سعيد، وللذين يعبرون عن نقمة مبالغ فيها في الواقع على بقية أطراف المشهد السياسي الذي تشكل منذ 2011، وهناك عزوف الآن ومقاطعة أسبابها تستحق دراسة معمقة”.
سبب نفور
تصريحات قيس سعيد التي تحذر من مخططات للفوضى أو غيرها ليست وليدة اللحظة، وهو ما يثير تساؤلات حول تداعياتها، بخاصة في ظل مناخ سياسي متوتر يتسم باستنطاقات لقيادات سياسية من حركة “النهضة” الذراع السياسية لتنظيم “الإخوان المسلمين”، وأزمات اقتصادية واجتماعية تؤرق التونسيين على غرار فقدان المواد الأساسية.
المحلل السياسي محمد صالح العبيدي يقول إن “مثل هذه التصريحات قد تكون سبباً في نفور التونسيين من الدور الثاني للانتخابات البرلمانية التي تتزامن مع أزمات عدة تنهكهم وتجعلهم لا يثقون في الوعود المقدمة إليهم”.
ويضيف العبيدي، “المشكل أن الرئيس أدخل تعديلات واسعة على جهاز القضاء، والحكومة هي حكومته، فكيف يعجز عن التصدي لمن يتهمهم بالتشويش وضرب الانتخابات؟ أعتقد أن على هذه الأجهزة التحرك إذا وجد فعلياً توزيع للأموال أو غيره، وإلا فإن هذه التصريحات المتواترة قد تجعل صدقية سرديات الرئيس على المحك”.
وتأتي هذه التطورات في وقت تستمر فيه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تحضيراتها من أجل تنظيم الدور الثاني للانتخابات البرلمانية التي قد تكون محددة لمسار المعركة بين الرئيس سعيد والمعارضة.