على مر السنوات، طالبت منظمات حقوقية دولية ولبنانية بتغيير هذا النظام، لأنه يتضمّن شروط عمل تعسفية لا تتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان، بل إن بعض الجهات تصفه بالعبودية الحديثة المقنعة.
فما إن تصل الشابة من بلدها إلى مطار بيروت، حتى يصادر الكفيل جواز سفرها وأوراقها، ويمسي المتحكّم الأول والأخير بكل تحركاتها.
فلا حدود واضحة لساعات العمل، ولا أيام إجازة، ولا حرية تنقّل، ولا حتى قدرة على التواصل بشكل دوري مع عائلتها، كلّ ذلك مقابل أجر زهيد لا يزيد عن مائة أو مائة وخمسين دولار شهرياً.
ومع تفاقم الأزمة المالية في لبنان، بات دفع ذلك الأجر غير ممكناً بالنسبة لكثيرين، وعوضاً عن إعادة العاملات إلى بلدانهن، كان بعض الكفلاء يتركونهن مع أغراضهن وأمتعتهن أمام سفارات البلاد التي جئن منها، دون نقود ولا طعام.
قبل الأزمة المالية، كانت التقارير الدورية عن أوضاع العمالة المهاجرة في لبنان، توثق تعرض عاملاتٍ للتعذيب وسوء المعاملة والتجويع والتحرّش الجنسي، وصولاً إلى انتحار كثيرات وعودتهنّ إلى بلدانهن جثثاً في نعوش.
حيوات معلّقة
أمضت تيرونش تسع سنوات في لبنان، وتخبرنا أن سيدة واحدة فقط من أفراد العائلة التي عملت لديها، كانت تعاملها بلطف، تأخذها إلى بيتها لتطعمها، وتشتري لها ثياباً، وتحاول أن تردع أقاربها عن إساءة معاملتها، ولكن لطف تلك السيدة لم ينفع، فقررت تيرونش الهرب.
بعد أن باتت “هاربة” بنظر القانون اللبناني، كان من الصعب عليها حجز بطاقة طائرة والعودة إلى بلدها، وإلا سيكون مصيرها السجن، كمهاجرات كثيرات يقبعن في الحجز من دون تهم فعلية، بانتظار حلّ ما.
ذلك التأخير كلفها الكثير، إذ أصيبت أختها في إثيوبيا بمرض فشل الكلى، وكانت تيرونش تحاول العودة بأسرع وقت، لكي تعطيها إحدى كليتيها، ولكن الإجراءات تأخرت، وتوفيت شقيقتها.
حلقة تضامن
في بيروت، يعمل تجمع نسوي يتألف من عاملات مهاجرات سابقات، على إعادة سيدات من جاليات مختلفة إلى بلدانهنّ، من خلال تقديم المتابعة القانونية اللازمة لحلّ ملفاتهن.
اسم التجمع “إيغنا ليغنا بسيدت”، وهي عبارة إثيوبية تعني “نحن لبعضنا في البلد الغريب”، وقد ساعد حتى الآن نحو 700 عاملة مهاجرة من إثيوبيا، والكاميرون، والفلبين، وسيريلانكا، وبنغلادش، على إنجاز ملفاتهن للعودة إلى بيوتهن.
تأسس التجمع في عام 2017، وهو مسجّل كجمعية في كندا وإثيوبيا، وما تزال إجراءات تسجيله كجمعية في لبنان تتطلّب وقتاً، لعدم امتلاك العاملات المهاجرات حقّ تأسيس جمعيات في لبنان.
يقع مكتب “إيغنا ليغنا” الصغير في أحد أحياء بيروت الهادئة، وقد تحوّل إلى ملاذ لعاملات من جنسيات مختلفة، يأتين لرواية قصصهن، والمشاركة في الطبخ والمساعدة في أعمال تطوعية، وتعلّم مهن جديدة.
تخبرنا إحدى المشاركات أنها لا تخجل من مهنة التنظيف والرعاية المنزلية، فهي مهنة مفيدة في المجتمع، ولكنها تعتقد أن من حقها وحق زميلاتها توسيع آفاقهن والتفكير بخيارات أخرى.
اكتساب النساء المهاجرات مهارات يمكن أن تتحوّل إلى مصدر رزق أو مهنة، من أولويات تجمّع “إيغنا ليغنا” كما تخبرنا مديرة البرامج فيه تسيغريدا بريهانو.
فإلى جانب الصفوف في بيروت، يخصّص فرع الجمعية في أديس أبابا برنامجاً كاملاً لمنح العائدات، وخصوصاً الأمهات العازبات منهنّ، فرصاً للالتحاق بمدارس تعليم الطبخ أو تصفيف الشعر أو الحياكة وغيرها…
تقول تسيغريدا بريهانو: “إلى جانب كوننا مستثنيات كعاملات مهاجرات في لبنان من قانون العمل، كذلك فإن قانون تجريم التحرش رقم 205، الذي صدر عن البرلمان اللبناني، لم يشملنا، وذلك ما شكّل صدمة لنا. هذا مرعب، وعليهم أن يعترفوا بنا، نحن لسنا محميات بأي قانون، ورغم كلّ الأذى الذي نتعرض له، لا توجد لدينا جهة نشتكي أمامها، نحتاج إلى حلّ”.
قبل أسابيع، أطلقت “إيغنا ليغنا” حملة لتوثيق الانتهاكات الجنسية بحق العاملات المهاجرات، وللمطالبة بتعديل القانون رقم 205، ليشملهن بشكل صريح.
تضمنت الحملة إطلاق دراسة بعنوان “لمحة عن الأبعاد الجندرية للعنف الجنسي ضدّ عاملات المنازل المهاجرات في لبنان ما بعد الأزمة” بالتعاون مع باحثات من جامعة SOAS البريطانية.
شملت الدراسة جمع شهادات نحو ألف عاملة من جنسيات مختلفة، قالت 68 بالمئة منهن إنهن تعرضن للتحرش الجنسي والاغتصاب.
ونشرت الجمعية عبر حساباتها على مواقع التواصل شهادات لنساء لم يكشفن وجههن، ولكنهن أخبرن قصصهن مع الشعور بأنهنّ محاصرات داخل البيوت، حيث يعاملن كأشياء، تنزع عنهن إنسانيتهنّ، وحتى خارج البيوت، إذ يمكن لأي كان أن يحاول استغلال امرأة جنسياً، فقط لأن بشرتها سوداء.
وفي 70 بالمئة من الانتهاكات التي وثقتها الدراسة، كان المرتكبون أصحاب العمل الرجال، فيما قالت 65 بالمئة من السيدات أنهم تعرضن للتحرش من سائق تاكسي، وقالت 15 بالمئة منهنّ إنهن تعرضن للتحرش من عنصر أمني.
وبحسب الدراسة، فإن 25 بالمئة فقط من اللواتي يتعرضن للتحرّش أو الاغتصاب، يجرؤن على الشكوى، إذ غالباً ما يقابلن بالتكذيب أو التجاهل، من دون اتخاذ إجراءات فعلية لحمايتهنّ، وعوضاً أن تكون الضحية، تصير هي المجرمة أحياناً.
تحاول جمعية “إيغنا ليغنا” من خلال جهودها التكافلية والتضامنية، تقديم الدعم المعنوي للنساء اللواتي يتعرضن لسوء المعاملة أو الاعتداء الجنسي. ولكن، بحسب مؤسسة الجمعية بانشي يامر، المقيمة حالياً في كندا، فمن الصعب تجاوز صدمة ما يمكن أن يحصل لعاملة مهاجرة في لبنان.
تنشر الجمعية في إثيوبيا منشورات توعية في المدارس، مترجمة إلى عدد من اللغات المحلية، لإيضاح ماهية نظام الكفالة وتبعاته، خصوصاً أن معظم العاملات المهاجرات شابات يتسربن من المدارس، للعمل في الخارج، بسبب الفقر.