في مثل هذا اليوم من عام 1860، فرضت إسبانيا شروطا قاسية على المغرب ضمن معاهدة “واد راس” الشهيرة، التي يعتبرها مؤرخون بداية مهّدت للأطماع الاستعمارية الأوروبية بالمغرب.
وجاءت المعاهدة الموقعة في 26 من أبريل، بعد انتصار الإسبان على الجيش المغربي في حرب تطوان (1859-1860)، المعروفة أيضا باسم “الحرب الأفريقية” (La Guerra de África).
وقد تعرضت بنودها لانتقادات شديدة من المثقفين المغاربة الذين عاشوا في كنف هذه الهزيمة، من أمثال المؤرخ البارز خلال القرن الـ19، أحمد بن خالد الناصري، الذي كتب في مؤلفه “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” أن وقعة تطاوين “أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب”، و”استطال” الأوروبيون على المملكة، بعد أن “انكسر المُسلمون انكسارا لم يعْهَد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير”.
جذور الهزيمة
وترجع جذور الهزيمة في “حرب تطوان” إلى حقبة التوسع الأوروبي في سواحل القارة الأفريقية، وعلى إثر الزلزال الشديد الذي خلّفته معركة “إيسلي” الشهيرة في 1844، وانكشاف الضعف العسكري المغربي للأوروبيين.
وقبل “حرب تطوان”، احتلّ الإسبان الجزر الجعفرية سنة 1848.
وفي هذا السياق، اتخذت إسبانيا توترات قبلية على هوامش مدينة سبتة (التي سقطت من خريطة المغرب مبكراً) ذريعة من أجل إطلاق حملة عسكرية في 1859.
وجاءت الحملة الإسبانية بعد نحو 15 عاما على “إيسلي”، حيث تعرض المغرب لهزيمة قاسية على يد الجيش الفرنسي، جعلت إسبانيا تقتنع بأن جارها الجنوبي يعيش أسوأ فتراته العسكرية.
وشهدت هذه الفترة أيضا انشغال القصر السلطاني المغربي بمخاوف داخلية من اندلاع قلاقل سياسية بسبب مرض السلطان المولى عبد الرحمان، ثم وفاته في 1859.
واستغلالا لكل هذه السياقات، قامت إسبانيا ببناء مركز عسكري خارج حدودها بسبتة، مما أثار حفيظة قبائل محلية، أبرزها “أنجرة” التي حاولت هدم المركز وإنزال العلم الإسباني من فوقه ثم تمزيقه.
بعد ذلك، طالبت إسبانيا المغرب بمعاقبة أهل أنجرة، وهو ما رفضت السلطات الانصياع له.
في الأشهر اللاحقة، أعلنت إسبانيا الحرب بإرسال أكثر من 50 ألف جندي إلى منطقة “بوصفيحة” حيث دارت أكبر معارك حرب تطوان، وهي معركة واد راس التي قامت بها قبائل الحياينة وشارك فيها حوالي 50 ألف مغربي وقتل فيها نحو 1268 إسبانيا.
لكن المناوشات الأولى كشفت للمغاربة قوة الآلة الحربية الإسبانية المدججة بالأساطيل البحرية والعتاد العسكري الحديث، مما دفع السلطان إلى الرضوخ لبنود قاسية ضمن معاهدة “واد راس”.
وعلّق المؤرخ أحمد بن خالد الناصري في “الاستقصا” على المعاهدة، قائلا “أبرموا الصلح وأعطى كل خطّ يده بذلك وانفصلوا وذهب كل إلى مَحَله…ولما وصل الخبر بانعقاد الصُّلْح إلى عسكر النَّصَارَى فرحوا فَرحا لم يعْهَد مثله وجعلُوا ينادون الباص الباص أَي الصُّلْح الصُّلْح ودخلوا تطاوين وهم رافعون بها أصواتهم وكلما لقوا مُسلما هشوا لَهُ كَأَنَّهُمْ يهنئونه بالصُّلْحِ”.
بنود المعاهدة
شريطة الخروج من مدينة تطوان، طلبت إسبانيا تعويضا ضخما قدره 20 مليون درهم، أي حوالي أربعة ملايين دولار أميركي في عام 1861، وهو مبلغ أكبر بكثير من رصيد الخزانة المغربية، وفق سوزان غيلسون ميلر، الأستاذة الفخرية للتاريخ بجامعة كاليفورنيا ديفيس الأميركية.
وأضافت ميلر، في كتابها “تاريخ المغرب الحديث” (A History of Modern Morocco) الصادر في 2012، أن “بريطانيا وحرصا منها على إنهاء الحرب بسرعة، ضمنت قرضا قيمته 500 ألف جنيه إسترليني ممول من مستثمرين من القطاع الخاص لمساعدة المغرب على تلبية المطالب الإسبانية.
ومن أجل تسديد القرض البريطاني والمبلغ المستحق مباشرة لإسبانيا، تقرر أن يتمركز الوكلاء الإسبان في الموانئ المغربية للإشراف على تحصيل الرسوم الجمركية، وهو ما أدى إلى تضخم عدد التجار الأجانب بالمغرب.
وبالإضافة إلى استنفاد الاحتياطيات المالية للدولة وتراكم الديون المغربية، استطاعت إسبانيا الحصول على بعض الأراضي المحيطة بمدينة سبتة، بالإضافة إلى تنازلات أخرى تهمّ الملاحة والتجارة البحرية في الشواطئ المغربية.
وفي الواقع، فإن المصادر الإسبانية تشير إلى أنه من أبرز بنود المعاهدة هو السماح باحتلال مدينة سيدي إفني على الساحل الأطلسي المغربي المقابل لجزر الخالدات الإسبانية.
ولم تغادر إسبانيا المنطقة إلا في 1969، أي بعد نحو 13 عاما على استقلال المغرب.
ومن تداعيات الاتفاقية أيضا، وفق سوزان غيلسون ميلر، إعاقة الإصلاحات التي كان المغرب بحاجة ماسّة لها، إذ “اتخذت آثار الاستنزاف المالي أشكالاً مختلفة في السنوات اللاحقة، بما في ذلك اضطرابات الميزان التجاري، وتدمير الحرف المحلية وتقويض استقرار العملة”.
وأضافت: “لقد كانت لحظة تاريخية. لأول مرة، يقترض المغرب أموالاً من الخارج للوفاء بالتزامات خاصة بديونه، مما يعني مرحلة جديدة في اعتماده على الغرب. لقد كانت حرب تطوان – أكثر من “إيسلي” – لحظة فاصلة في وقوع المغرب المتزايد في شراك أوروبا”.