رايت رايتس

خارج السياسة….كمال جنبلاط

الديسك المركزي
كتبه الديسك المركزي تعليق 21 دقيقة قراءة
21 دقيقة قراءة
كمال جنبلاط

يروي كمال جنبلاط “لم يكن لدي في البداية سوى خيار الذهاب إلى منطقة صحراوية أو منكوبة وقاحلة، كأن أعمل طبيباً في أفريقيا مثلاً أو أمارس رسالة مهما اختلف نوعها، وكنت على وشك سلوك هذا الدرب عندما توفي ابن عمي فتغيرت مشاريعي وفهمت أن واجبي كان يقضي أن أعمل هنا”.

- مساحة اعلانية-

هكذا، دخل كمال جنبلاط (مواليد 1917 واغتيل في 16 مارس (آذار) 1977) السياسة التي فرضها عليه “واجب” الزعامة العائلية، تزامناً مع استقلال لبنان في 1943.

ولم تبقه السياسة في لبنان وتغير مجرى حياته فحسب، بل اعتبرها “عملاً”، بينما هو كان يحلم أن “يمارس رسالة” ما. فالهندسة أو المحاماة التي درسها في الجامعة اليسوعية ببيروت وعمل فيها لفترة قصيرة كانتا أقرب إليه من السياسة. وكذلك علوم التربية والنفس والاجتماع التي حصلها في السوربون الفرنسية قبل أن تعيده الحرب العالمية الثانية (1939) إلى لبنان.

- مساحة اعلانية-

من “لورد بريطاني” إلى “الأمير الأحمر

لم يدع كمال جنبلاط السياسة تأخذه من ميوله واهتماماته الأخرى الكثيرة، لقد حافظ على تلك الجوانب الروحية والفكرية وأغناها وإن لم يعطها الوقت الكافي نظراً إلى المسؤوليات التي فرضتها عليه السياسة والزعامة.

وإذ لم يتح له أن يكون طبيباً لمساعدة الفقراء في أفريقيا أو غيرها كما حلم صغيراً، عوض ذلك بالاهتمام بالعلاج بالنباتات والقمح منها خصوصاً، وحول غرفة في قصر المختارة إلى مختبر لتجاربه الكيماوية لاستخراج مواد من أعشاب وما إلى ذلك.

- مساحة اعلانية-

ولم يخف جنبلاط على رغم ارتدائه عباءة الزعامة عقب وفاة ابن عمه حكمت جنبلاط (1943) ودخوله مجلس النواب للمرة الأولى، بغضه السياسة.

وبعد نحو سنة من قوله من منبر (الندوة اللبنانية) “لا سياسة في جمهوريتي”، متذكراً منع أفلاطون الشعراء من دخول جمهوريته، بدأ رحلة معارضته “النظام اللبناني” من داخله حيناً ومن خارج سلطته حيناً آخر.

وقد فاجأه، في مطلع تجربته، الفساد و”بؤس” “أهل الحل والربط” في البلاد الذين يتحركون لمصالحهم وليس وفق مشاريع لخدمة الوطن وتطوير دولته وتحسين معيشة شعبه. وقد شهدت تلك المرحلة تحوله من زعيم تقليدي أو “لورد بريطاني” وفق ما وصف، إلى “الأمير الأحمر”، إذ نادى بـ”الاشتراكية المتأنسنة” وانتمى إلى “اليسار طبيعياً” وأسس الحزب التقدمي الاشتراكي (1949) مع نخبة مستقاة من طوائف متنوعة، وقاد مع آخرين “الثورة البيضاء” التي أسقطت الرئيس الأول للجمهورية بعد الاستقلال بشارة الخوري (1952).

وبعد أن شارك في حكومات عدة وتحول إلى ما سمي “بيضة الميزان” و”الكفة المرجحة” في السياسة اللبنانية، أضيفت إلى زعامته المذهبية زعامة وطنية وأسس مع أحزاب وشخصيات يسارية “الحركة الوطنية” التي اقترحت مشروعاً إصلاحياً للنظام اللبناني يقوم على إلغاء الطائفية السياسية وقانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، وغير ذلك من الأمور.

وخلال هذه المسيرة، انتقل في ظروف محلية وخارجية انقسامية حادة (الصراع العربي- الإسرائيلي والحرب الباردة)، مما يسميه مؤلف سيرته إيغور تيموفييف “الثقافة المبنية على الحل الوسط والمناقشة والحوار” إلى التشدد العقائدي والسياسي قبيل الحرب (1975) وفي سنتيها الأوليين.

قصائد مكسورة الأوزان

وقد كان الشعر من اهتمامات جنبلاط، على خلاف أفلاطون. وكتب الكثير من القصائد، بل الدواوين، بالفرنسية والإنجليزية والعربية. وأبرز تلك الأعمال يحمل اسم “فرح”. وفي حين أن “فرح” القصائد تلك صوفي، يقول في مكان آخر إن “الدروز هيراقليطيون، فهم يرون أنه ما من فرح إلا وهو مختلط بالغم والعناء، وما من هبوط إلا ووراءه صعود” (من كتابه “هذه وصيتي”).

انسجاماً مع هذا التناقض الدرزي الهيراقليطي، يفرح ميخائيل نعيمه بقصائد جنبلاط، لكنه في الوقت نفسه يتوقف “عند الأبيات التي فيها يصدم (جنبلاط) الخليل بن أحمد بتكسير أوزانه”. ويستغرب نعيمه إصرار جنبلاط “على أن يبقي المكسور مكسوراً حتى وإن كان من السهل جبر كسره”. ويقول نعيمه إن “عذره في ذلك أن البيت المكسور جاءه في تلك الصورة لا في غيرها، فكأنه التنزيل”.

مقابل هذا، وهو أمر مستغرب، يرحب الشاعر أنسي الحاج صاحب مانيفستو قصيدة النثر بشعر جنبلاط، ولا يجد في هذا الشعر الموزون والمكسور في آن تناقضاً مع الحداثة التي يدعو إليها. يكتب الحاج “هذا الرجل المفاجئ، الذي غرق في السياسة اللبنانية ومستنقعاتها ورمالها المتحركة منذ نعومة أظفاره، يأتي اليوم فيفتح لشخصيته منفذاً صوب عالم الهواء النقي والأحجام المتعددة، ما الذي حدث لكمال جنبلاط حتى يتحول أديباً وشاعراً؟ جنبلاط الحقيقي غير المغطى بتراب السياسة هو هنا، في هذا الكتاب (أدب الحياة)، وفي شعره، بل وفي موقفه أصلاً من هذا الأمر: في عزمه على أن يحقق ذاته- هو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بالسياسة- عبر التفتح بالأدب والشعر، حاكماً على الوجود السياسي بأنه، مهما كان مليئاً ومالئاً ومشغولاً وشاغلاً، يظل أدنى إذا قيس بالإبداع، ويظل ناقصاً إذا لم يقترن بالفكر وإذا لم يكن هدفه الأخير هو الحقيقة والخير والجمال، هذا الموقف هو، في ذاته، قيمة، في معزل عن قيمة الإنتاج نفسه”.

وعلى رغم انتقادات نعيمه لقصائد جنبلاط التي “يبدو بعضها طلاسم”، فإنه يرحب بها “أجمل ترحيب”.

مع حرية الرأي ومنع الرقص

وهذا الترحيب يوازيه ترحيب أنسي الحاج بمواقف مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي المدافعة عن حرية الرأي. ففي ظل الهجوم الشرس على مؤلف كتاب “نقد الفكر الديني” صادق جلال العظم، استقبل جنبلاط “في مكتبه في وزارة الداخلية” العظم “استقبال الرفيق بالفكر، غير عابئ بمذكرة التوقيف التي كانت تطارد الرجل لتقبض عليه”.

ويقول الحاج “أثبت جنبلاط، بهذا القليل القليل، أنه أكبر من الدولة” (1/12/ 1969).

لكن، في مقابل هذا “الموقف الكبير” من جنبلاط، يروي زافين قيومجيان في كتاب “أسعد الله مساءكم: مئة لحظة صنعت التلفزيون في لبنان”، الآتي “عام 1962 نظم برنامج مرح الشباب على القناة 9 التابعة لمحطة شركة التلفزيون اللبنانية مسابقة لاختيار أفضل رأقصى الـ”تويست”، ما أسهم في زيادة شعبية هذه الرقصة في لبنان… وأدى تنامي هذه الظاهرة في المجتمع اللبناني إلى إصدار وزير الداخلية آنذاك كمال جنبلاط قراراً بمنع الـ”تويست” على الشاشة وفي السينما والمرابع الليلية، وذلك تماشياً مع قرار مماثل في مصر وسوريا… وفي 10 يناير (كانون الثاني 1963 تسببت الـ”تويست” بأزمة حكومية مع وصول نجم الغناء الفرنسي (الملقب بملك الـ”تويست” الفرنكوفوني) جوني هاليداي إلى بيروت لإحياء ثلاث حفلات في كازينو لبنان.

بعيد بث خبر وصول هاليداي إلى لبنان، وعلى رغم ترخيص الأمن العام لحفلاته ونفاد بطاقاتها، أصدر جنبلاط قراراً بمنع هاليداي من الغناء وإبعاده عن الأراضي اللبنانية خلال 24 ساعة. وقد استدعى قرار جنبلاط ردود فعل متفاوتة”.

حين كشف المذهب الدرزي

بعيداً من المواقف الثقافية- السياسية هذه، هناك إضافة إلى كتابة الشعر أبعاد ثقافية عدة في شخصية جنبلاط وسيرته. يجيب رداً على سؤال عن الكتاب والمفكرين الذين تأثر بهم “في مرحلة الشباب كان هناك باسكال وبرغسون، ثم اجتذبني بقوة النظريات التطورية تيلارد دو شاردان وجفاديس شاندرا، ثم الكتب المقدسة، التوراة والإنجيل والقرآن، ثم الصوفيون (في الإسلام) والروحانيون المسيحيون الذين يثيرون شغفي، كما أنني تأثرت ببلوديل على رغم أن أفكاره تقف على نقيض آراء برغسون وتأثرت بوليم جيمس.

وكارل ماركس كان شخصاً ذا أهمية كبيرة بالنسبة إلي. لم أهمل المفكرين الألمان الذين مهدوا لقيام الأيديولوجيا النازية، وذلك ليس لأنني أشارك بأي شيء مناصريهم وأتباعهم، بل لأنني أعتقد أن هناك بعض النقاط الواردة في مؤلفاتهم والتي يمكن الاستفادة منها، خصوصاً تلك التي تتعلق بضرورة وجود نخبة سليمة والتي أستثني منها بالطبع الناحية العنصرية”.

لكن جنبلاط المثقف وواسع الأفق والتجربة الفلسفية والروحية يتضح أكثر ويتظهر حين يتحدث عن المذهب الدرزي وعلاقته به.ويستحق ما يقوله التدقيق في كل كلمة ينطق بها.

يقول “لست رئيساً دينياً بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، لكن دراستي للمذهب الدرزي كانت من الكفاية بحيث تتيح لي الشروع في عمل تحليلي. والحق هو أنني فهمت هذا المذهب على هدى تعاليم الفيدانتا أدفيتا الهندوكية والفلسفة اليونانية اللتين أتاحتا لي اكتشاف مفاتيح الأسرار الدرزية، ذلك أن العرفان الدرزي هو ذات العرفان (الغنوصية) الذي تجده في كل مكان من العالم والذي تجده لدى كبار حكماء الهند وحكماء الأوائل، ثم أن معارفي هذه تعطيني ضرباً من السلطة الروحية لا الدينية.

وهكذا فإن المشايخ والطالبين يفدون لرؤيتي فنصلي معاً ونقوم ببعض التأملات معاً أحياناً، فأقرأ لهم من “أحاجي” الفكر الأدفيتا الهندوكي القديم الذي جرى استخلاصه بطريقة دقيقة عبر العصور.

وأفسر لهم الأفكار الأساسية في هذا التيار الروحاني، الإنساني والتاريخي. إنها لقراءة يسمو بها طالبونا. فأنا نفسي تلقيت هذا التعليم في الهند على يد حكيم كبير كان بمثابة سقراط وفيثاغورس بالنسبة إلى في آن معاً.

وعلى أي حال فإن الدروز يعتقدون أن التجلي الأول، أي تجلي حكمة العلي، قد حدث في مدينة جيم ما تشين (الخيالية؟) في الهند منذ بضعة ملايين من السنين. فإذا كان الغربيون يحسبون بالألف من السنين، فإننا نحسب نحن بالملايين وعشرات الملايين من الأعوام”.

ويكشف: “وقد أسهمت أنا في جعل الدروز يعاودون اكتشاف الوحدة الأساسية البسيطة التي تعبر عن نفسها في كتب الحكمة والتي تغيبت عن أبصارهم بعض التغيب عبر العصور. ولقد اشتغلت نحو اثنتي عشرة سنة لأعرفهم ببعض من كتبهم المفقودة، ولأجعلهم ينسخون- بواسطة نساخ أجاويد- الكتب الأصلية التي عثرنا عليها، ذلك أن للكتاب المخطوط سلطاناً نفسانياً أعظم من الكتاب المطبوع”.

باطني ويحلم بثقافة عالمية

ومن الأمور اللافتة لدى جنبلاط هو تقديمه المذهب الدرزي على نحو عصري وحديث. يقول “ليس لدينا كنيسة ولا مسجد بالمعنى المعروف للكلمة، بل لدينا المجلس أي الموضع الذي يجتمع فيه الأجاويد كل مساء خميس ليصلوا معاً. غير أن المجلس بالنسبة إلى الدروز ليس موضعاً مخصصاً للعبادة على وجه الحصر والذهاب إليه ليس إلزامياً، فبوسع الطالبين الصلاة في منازلهم، وبوسع الدرزي أن يذهب إلى المجلس أو يتخلف عن الذهاب إليه، إنه حر.

وهناك بخلاف ذلك الخلوة، وهي ضرب من الرهبانية يعتزل المتعبد فيها العالم ليقرأ أو ليتأمل… وتتوافق عقلية الدروز الليبرالية هذه مع تطور مختلف المجتمعات المعاصرة حيث يبدو أن الطقوس والشعائر باتت مهملة فيها مهجوراً، فنحن لا يربط فيما بيننا رابط الدين، بل علاقاتنا الاجتماعية وعاداتنا وثقافتنا. فهذا الرابط هو ما يميزنا عن غير الدروز، إنه رباط متحدي وأخلاقي. وهو أقرب إلى القومية أو إلى الوطنية -حتى ولو كانت غامضة فضفاضة- منه إلى التعصب الديني والطائفية الدينية”.

واللافت في هذه الأقوال الموثقة والتي لم تنل حقها من الاهتمام وتخالف السردية السائدة عن الدروز، أنه سمح لنفسه خرق بعض تقاليد التكتم في شأن المعتقدات. وهو إذ يستند في ذلك إلى قوة موقعه السياسي ومكانته الفكرية، يفعل ذلك من موقع المعتد بانتسابه إلى المذهب الدرزي ومن أجل إغنائه فكرياً وروحياً.

وفي هذا الشأن يقول تيموفييف “كمال جنبلاط كان زعيماً درزياً ويحب طائفته مع بعض التحيز الذي يقيناً نحس به حتى استشهاده. ليس تحيزاً وقحاً انما اعتزاز بتاريخ طائفته. كان باطنياً. وهذا من تأثير معتقداته الدرزية، إلى حد كبير، لكنه كان يحلم بثقافة عالمية، أو حضارة عالمية”.

أفق فلسفي صوفي للتقمص

وبكثير من الانسجام والاحتفاء والتقدير يتحدث عن التقمص الذي يأخذه إلى أفق فلسفي وصوفي. يقول “أنا أعتقد أن الإنسان من أرومة الله وعليه أن يسعى وراء ماهية الحقيقة عبر شتى الديانات، ولكن بأن يتجاوزها جميعها.

وهذه الطريقة هي طريقة أنموذجية في التفكير لدى الدروز، فهم غير متزمتين ولا يتمسكون بالشكليات، بل إنهم ليبراليو الذهن براء من كل نظرة تبشيرية، فلا جدوى إذن من أن تعرض على أي كان أن يصبح درزياً، فكل إنسان يظل على ما هو عليه.

أما الروح الدرزية فإنها تنتقل بعد الموت وتتقمص في جسد درزي، ثم في جسد درزي آخر، وهكذا دواليك إلى آخر الزمان، غير أن الدرزي ليس اسماً وقفاً على من نسميهم الدروز، أي على هذه النحلة الموجودة في لبنان وفي جبل العرب بسوريا وفي إسرائيل أو في تركيا أو حتى في شمال باكستان، بل الدرزي هو كل توحيدي، أي كل من يعتقد بوحدة أديان العالم كلها، وكائناً ما كانت طقوسها وشعائرها، أي إنه اسم ينصرف إلى مسيحيين وبوذيين ومسلمين وهندوكيين.

أي ما يشبه وضع جماعة وردة الصليب أو الروز كروا التي تجد مشايعين لها وتابعين في شتى الأديان، وعلى كل حال فهم يدعون أنهم دروز الغرب. والحق أن ثمة تماثلاً كبيراً بين معتقدهم ومعتقدنا. فإجلالهم لفيثاغورس واعتقادهم بتقمص الأرواح هما نقتطان جوهريتان تقرب فيما بيننا وبينهم، على رغم أن مفهوم الدروز للتقمص مختلف عن مفهومهم، إذ نعتقد نحن أن الروح تستقر بعد الموت مباشرة في طفل قيد الولادة وأنها تلج إلى الجسد عبر النفس، والجنين لا يعيش في أحشاء أمه إلا حيواناً ولا تستقر الروح فيه إلا متى بدأ التنفس.

وعلى العكس من ذلك فإن جماعة الروز كروا تعتقد أن الروح تستطيع أن تظل لفترة من الزمان في حالة يرقانية أو أثيرية قبل أن تعبر من جسم إلى جسم آخر، وأن ثمة ضرباً من حال الكمون يقف بين حالي الموت والولادة الجديدة”.

بين الخوارق والمعجزات ومعلمه الروحي

ولجنبلاط الذي طغى البعد السياسي في صورته بعد روحاني، يروي رحلاته في مؤلفات عديدة تهتم “الدار التقدمية” في نشرها.

ومنها “كنت أول من ارتحل إلى بلاد الهند. ذهبت إليها لأستكمل معارفي. ومنذ ذلك الحين ذهب إليها فصيل من المريدين من جبل العرب في سوريا.

وقد اختار أحد هؤلاء البقاء هناك وعدم العودة، إذ لبس ثوب الرهبنة الأمغر اللون، ثوب السامينياسن (الناسك)، وظل هناك مجاوراً لشخصية هندية من أصحاب الخوارق والمعجزات، هو سي بابا.

وأنا لا أدري لماذا يصنع سي بابا المعجزات. فعادة الحكماء هي الامتناع عن انتهاك قوانين الطبيعة، النفسانية منها والفيزيقية على رغم قدرتهم على ذلك.

ويقول سي بابا إنه يصنع المعجزات على رغم عنه تقريباً، أي طيبة منه وصلاحاً وإعانة للناس على الاقتناع. وأنا لم ألق شخصه وإن كان لا يزال حياً حتى الآن ولكنني عرفت شري أتمانندا وذهبت إليه أكثر من ثماني مرات.

وحاضرت سانكراشرغا في رانسبورام. وكنت أمضي هناك أسبوعاً أو عشرة أيام أو ربما خمسة عشر يوماً وأحياناً شهراً. وإني لأسف لكوني لم أستطع البقاء هناك أشهراً، بل سنوات، فقد كان العمل يجبرنا على العودة.

وكانت دار شري أتمانندا تكية (أسرام) لأنه كان حكيماً لم يعتزل العالم ولم يكن ناسكاً (سامنياس)، ذلك أن معلمه الروحي أو شيخ طريقته، شري يوغاناندا، أمره بذلك.

ولقد عرفته بالسماع أول الأمر، ثم بواسطة روجيه غوديل وزوجته، وبواسطة الكاتب الهندي راجاراو الذي كان شديد الاهتمام به. وأخيراً جاء إلى فرنسا مدعواً من قبل تلاميذه الفرنسيين. ويومها قدر لي أن ألتقيه في طريق عودته في مطار القاهرة. ولم أره يومها إلا نصف ساعة. كان مذهلاً.

وراح يتكلم، ولكني لم أعر انتباهي شكلياً لما يقول، أي للكلمات، فقد كان ذلك ضرباً من الغوص الداخلي. حتى لكأن المطلق في شخصك ينكشف عليك، أو كأن الحقيقة فيك تتصل بالحقيقة فيه. وانجذبت إليه، فقد كان بالغ القدرة وإن كان يجمع إلى ذلك البساطة والتواضع.

وأعتقد أنه أحد أعظم تعابير الهند في مختلف العصور. فكتاباته تكمل تعاليم آدي شانكرا وراما وكريشنا وآخرين. كانت أحاديثه ذات نورانية خارقة. فاليونان كانت تنطق بفمه. وكان الحديث يسيل عن لسانه عندما يتحدث عن الحقيقة، ذلك الاتحاد وتلك النشوة، نشوة الفهم التي تتحقق في مواجهة حكيم. إنها معرفة تأتي مما وراء الحواس، ومما يتعدى العقل ولا ريب أنها الوجد الحقيق (سامادي)”.

والجدير بالذكر أن جنبلاط يضع ديوان “فرح” “على أقدام معلمي ومرشدي الحكيم شري أتمانندا من تريفندروم”، وبخط يده.

بخيل وكريم

وتثير الحشرية رغبة في معرفة علاقة جنبلاط سليل الأسرة الأغنى في تاريخ لبنان مع الملكية والمال. وهو ليس بخيلاً في كشف ذلك وكثيراً ما تحدث القريبون منه عن ذلك وقدموا شهادات على زهده.

يقول “قليلاً ما أهتم بالمال. فبمجرد ما إن يتحصل لدى القليل منه، حتى يتسرب. فأنا أعلم أن هذه الأوراق تتشبث بالأصابع فأتخلص منها سريعاً، ثم أن المال يصبح مكرباً مفسداً إذا لم يسهم في مساعدة الآخرين. والملكية وظيفة اجتماعية، لذا تراني أستخدم المال بأكثر ما يمكن من اقتصاد. فلا أنفق منه إلا الضروري الذي لا بد لي منه في قضاء حاجاتي الشخصية. كيما يذهب الفائض دائماً إلى الآخرين. قانعاً بالحياة حياة الرجل الشريف شأن سواد الناس. فأبخل على نفسي وأجود على الآخرين. فالمحتاج هو وجه الله ذاته، إنه الأخ”.

ويستدرك “وأخيراً، فإن المختارة لا تعيل سوى قليلين. فهناك الوكيل والناطور وبعض العمال الذين يعملون فيها بين الحين والآخر. أي ما مجموعه عشرة أشخاص. فالزيتون لم يعد يعطي شأنه قديماً، وزيت الزيتون يتعرض لمنافسة بقية الزيوت النباتية، تلك المنتجات الشنيعة التي تدخل فيها مواد الهيدروجين كزيت الفستق مثلاً، ثم إن كرمنا لم يعد ذا مردودية.

وبالإجمال، فإنني أعيش من تعويضي كنائب في البرلمان، ذلك أن ناتج أرضنا لا يعيل سوى عدد قليل من الأشخاص. وليس لدى خدم في المنزل بل طاه وخادم فقط. وأنا لست من الغنى بقدر ما يقال، وإن كنت أحب أن أكون كذلك لأمضي في الاقتسام قدماً، معطياً أغنياء هذا العالم أمثولة. وأنا أعتبر أنه ينبغي للمرء أن يعيش عيشة متواضعة ذلك أن الحياة البسيطة تصنع الغبطة.

 أما أصحاب الامتيازات، فليسوا قيمين لدى الآخرين. وسواء كان للمرء ملكيات كبيرة أم لا، فإن كل ما يتجاوز النفقات الضرورية يجب أن يذهب إلى الآخرين. فأنا لا أؤمن بهذا المجتمع العبثي البشع، مجتمع الاستهلاك، إذ إنه سيفضي إلى أن يستهلكوا هم أنفسهم مادياً.

ولا بد من أن ينجز في لبنان إصلاح عقاري بحيث تزول الملكية الكبرى ويتمكن كل لبناني من امتلاك قطعة أرض صغيرة. ولقد وزعت أنا نفسي على فلاحين قرابة مئة هكتار من الأرض في سبلين قرب البحر فكان ذلك مناسبة أدخلت فرحاً حقيقياً على قلوبهم هم وعلى قلبي أنا أيضاً. فالملكية الكبيرة نقيض الطبيعة، فهي تفسد معنى التملك، ذلك أن جميع الناس تحب أن تمتلك شيئاً لأن التملك هو امتداد الحواس والأيدي والجسم والشخصية”.

بناء على هذا، يقول “أنا لا أشعر بأنني أرستقراطي، ولا أتعرف على الأرستقراطي الموجود في شخصي الذي تراه (يخاطب صحافياً)، فأنا إنسان وهذا كل شيء. ولذا كنت بالمناسبة فخوراً بكوني أرستقراطياً فإنما بمعنى آخر، أي بمعنى التطلع إلى أفضل ما فينا، أي إلى ما يرتفع ويضرب بجناحيه وينعتق. فثمة أرستقراطية في الروح الحرة من كل تسمية والتي هي بالنسبة إلينا كل شرفنا وباعثنا على العمل والتفكير والحب والحياة”.

المصدر: إندبندنت عربية

تم وضع علامة:
شارك هذه المقالة
ترك تقييم