اتهمت كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية رسمياً حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالتورط في دعم مجموعة الأساقفة المنشقين عن الكنيسة، وطالبت في بيان الحكومة “بتقديم اعتذار رسمي عما سمته التواطؤ مع مجموعة غير شرعية تستخدم اسم الكنيسة في إقليم الأورومو”.
جاء ذلك بعد وقوع أكبر أزمة تشهدها الكنيسة من عقود طويلة على إثر انشقاق مجموعة من الأساقفة المنحدرين من قومية الأورومو عن الكنيسة الإثيوبية الأم، وتشكيلهم مجمعاً كنسياً موازياً، حيث تمت تسمية الأنبا ساويرس بطريركاً للأورومو، بجانب رسامة 26 أسقفاً آخر في الإقليم.
أعقب ذلك جملة من التطورات بين الكنيسة الأم (ذات التأثير والنفوذ الواسع) والمجموعة المنشقة، حيث تبادل الطرفان الاتهامات قبل أن تتطور الأمور إلى مواجهات دامية، حيث لقى ثلاثة أشخاص حتفهم بعد هجمات على إحدى الكنائس في مدينة شاشاميني بمنطقة أوروميا، وفق ما أفادت به منصات إعلامية دينية.
خلفيات تاريخية
ظلت كنيسة التوحيد الأرثوذكسية تمثل الواجهة الدينية الرسمية للأنظمة الإثيوبية المتعاقبة، حيث تعد إثيوبيا واحدة من أقدم الدول المسيحية في العالم، ففي القرن الرابع الميلادي اعتمدت مملكة أكسوم المسيحية رسمياً كدين للدولة.
ويكشف المؤرخون عن أنه نتيجة لقرارات مجمع خلقيدونية في عام 451، تبنت إثيوبيا المذهب الميافيزي، وتمكنت الإمبراطورية الإثيوبية تحت حكم السلالة السليمانية من الحفاظ على المسيحية وتطوير ثقافة مسيحية متفردة. وعلى رغم أن عقيدة كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية لم تعد دين الدولة منذ عام 1974، فإنها لا تزال تعد الكنيسة الوطنية وتمثل أكبر طائفة مسيحية في إثيوبيا (نحو 50 في المئة من سكان إثيوبيا أعضاء فيها).
انفصلت هذه الكنيسة الأرثوذكسية المشرقية عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (المصرية) عام 1959. إذ منح البابا كيرلس السادس رأسها لقب بطريرك، وبحسب مصادر الكنيسة فإن عدد أتباعها يبلغ 40 مليون شخص. وهي بذلك ثاني أكبر كنيسة شرقية ومقرها مدينة أكسوم بإثيوبيا.
على رغم وجود مجموعات دينية مسيحية أخرى، كالكنيسة الكاثوليكية والأنجيلية، إضافة إلى أتباع الديانة الإسلامية، فإن الكنيسة الأرثوذكسية ظلت تمثل الواجهة الرسمية للبلاد، كما كان ملوك إثيوبيا يحملون اللقب الديني التابع لهذه الكنيسة حتى عام 1974، وظل تأثيرها ونفوذها قائماً إلى وقتنا الحالي.
بداية الخلاف
لا شك أن للخلاف الذي شب داخل المجمع الكنسي الأكثر انسجاماً في المنطقة، خلفيات عرقية وسياسية أكثر منها خلفيات دينية تتعلق بإدارة الشؤون الروحية للأتباع.
فجميع المنشقين عن الكنيسة ينحدرون من عرقية واحدة، وهي إثنية الأورومو – وهي ذات الأثنية التي ينتمي لها رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد – كما يرجح أن يكونوا على علاقة ببعض النافذين في الحزب الحاكم بإقليم الأورومو، حيث تعتقد الكنيسة في أديس أبابا أنهم يتحركون بحماية أجهزة الأمن ويتمتعون بغطاء سياسي رسمي.
على المستوى السياسي أيضاً، يكشف الصحافي تامرات ظقي أن التباين بين حكومة آبي أحمد والكنيسة بدأ يتضح بعد أن نشر الأميركي دينيس وادلي، مدير مؤسسة “Bridges of Hope International” منذ أكثر من عام، مقطع فيديو يصور أبونا ماتياس بطريرك كنيسة التوحيد الإثيوبية، وهو مواطن من منطقة تيغراي الشمالية، يتهم فيه حكومة آبي أحمد بأنهم “يريدون تدمير شعب تيغراي بأفعال بالغة الوحشية والقسوة”.
ويظهر البطريرك في الفيديو، الذي التقط له في أديس أبابا أثناء الحرب بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيغراي، وهو يوجه الكلام لزائريه من دون أن ينتبه لوجود الكاميرا، حيث يقول “ما يحدث هو مذابح للناس، لا سيما قتل الأبرياء. والشباب يتم تفتيشهم في المدن والقرى، ثم يتم قتلهم ورميهم من على المنحدرات، ولا يسمح حتى بدفنهم”.
ويتابع ماتياس “هذا النوع من الفظائع لم يسبق له مثيل حتى الآن، وهو أمر مسيء للغاية. ولا سيما أن اغتصاب النساء أمر مشين للغاية ورث وسيئ. إنهم لا يخافون الله ولا يملكون أي احترام لكرامة الإنسان”.
وذكر الناشط الأميركي الذي سجل مقطع الفيديو، دينيس وادلي، لشبكة “CNN” الأميركية، أنه سجل المقطع داخل منزل البطريرك حيث كان كان حينها في الإقامة الجبرية غير الرسمية”. وأضاف مدير المؤسسة الخيرية “أنه وزوجته كانا في البلاد يعتنين باللاجئين والنازحين داخلياً في ذلك الوقت”.
إجراءات قانونية ودينية
أعلن مجلس البطريرك ماتياس أخيراً تدابير عدة لمواجهة الانشقاق داخل المجمع الكنسي، حيث أصدروا بياناً طالبوا فيه الحكومة بكشف الغطاء السياسي والأمني عن المجموعة المنشقة، وحظر استخدامها لممتلكات الكنيسة من مقار دينية ومركبات، إضافة إلى حظر أي نشاط لهم داخل الإقليم، كما طلبوا من أتباع الكنيسة ارتداء الملابس السوداء حزناً على الشهداء الذين سقطوا فيها، وصيام ثلاثة أيام لكشف الغمة وانتهاء الفتنة التي تشهدها كنيستهم. كما طالب الأساقفة الـ26 الذين تم ترسيمهم خارج المؤسسة الرسمية، بالعودة إلى الكنيسة الأم وإعلان توبتهم، وقد استجاب أحد الآباء المرسومين بطريقة غير قانونية من الأسقف ساويروس، هو أبونا أبيفانيوس، الذي عاد للكنيسة الأم وقدم توبة واعتذاراً، والتقى سكرتير المجمع المقدس الإثيوبي.
على المستوى القانوني، كلف المجمع الكنسي عشرة محامين لرفع دعاوى قضائية ضد المنشقين وكذلك المؤسسات الرسمية الحكومية داخل إقليم الأورومو التي تتهمها الكنيسة بالتواطؤ معهم، وتحملها مسؤولية مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل.
مواقف المعارضة
من جهتها عبرت أحزاب وشخصيات سياسية معارضة عن تحفظها على الطريقة التي تتعاطى بها الحكومة الفيدرالية بقيادة آبي أحمد مع أزمة الكنيسة الأرثوذكسية، معتبرين “أن الأمر يتعلق بأزمة سياسية ذات بعد وطني”، وأن وحدة الكنيسة وشرعيتها لبنة أساسية في وحدة الوطن وسيادة روح الدستور، لا سيما في ظل التصعيد الأخير الذي يحصد أرواح الإثيوبيين الأبرياء.
وقال الناشط السياسي الشهير تامانج بيني، الذي ظل يدعم تيار التغيير الذي قاده آبي أحمد منذ 2018، لـ”اندبندنت عربية”، إن “الصمت لم يعد حلاً، وعلى الإثيوبيين، موالاة ومعارضة، أن يقفوا صفاً واحداً من أجل حماية الدستور والقوانين المنظمة لعمل المؤسسات الدينية في البلاد”.
وأضاف “ظللت أدعم مواقف آبي أحمد لجهة حماية البلاد من مجموعات خارجة على القانون، بما فيها الحرب الأخيرة التي فرضت علينا في إقليم تيغراي، لكن خطاب آبي الأخير حول أزمة الكنيسة كشف لي أنه يعتمد على سردية مغلوطة وخاطئة، ويحاول عبثاً تصوير الأمر كما لو كانت هناك مؤسستان داخل كنيسة التوحيد، وهو ما يتناقض مع القوانين وروح الدستور”.
ويؤكد بيني “مسؤولية رئيس الوزراء تقديم ضمانات لسيادة القوانين، وتوفير المناخ لتطبيقها الأمثل، بالتالي تعقب كل الخارجين على قوانين الجمهورية، وليس المساواة بين الجهة الشرعية وتلك المنشقة والخارجة عن القانون، وتقديم العون الأمني والسياسي واللوجيستي لها”، مضيفاً “لم يعد سراً أن الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها الآن تقف خلف تلك المجموعة وتوفر لها الحماية والغطاء، بالتالي تسهم في إشعال الأزمات عوض السيطرة على أسبابها”.
نحو تدارك الأمر
كان مكتب الاتصال الحكومي التابع لمجلس الوزراء الإثيوبي أصدر بياناً دعا فيه طرفي النزاع في الكنيسة الإثيوبية إلى حل الأزمة بالحوار، مؤكداً استعداد الحكومة للمساهمة في الحوار وتشكيل لجنة حكومية للوفاق، برئاسة نائب رئيس الوزراء دمقي مكنن. الأمر الذي اعتبرته الكنيسة بمثابة دعم للمجموعة المنشقة، ومحاولة المساواة بين الكنيسة الشرعية والخارجين عليها.
كما أدى اعتقال مجموعة من الأساقفة في مدينة شاشميني على خلفية الأحداث الدامية إلى إذكاء لهيب الأزمة أكثر، ودفع بالكنيسة إلى طلب اعتذار رسمي من رئيس الوزراء وإدانة المنشقين قبل الدخول في أي حوار مع المؤسسات الرسمية.
كما نددت الكنيسة بمنع إذاعة جميع البيانات والتصريحات الصحافية للبطريرك على وسائل الإعلام الحكومية، مما يكشف عن محاولة تكريس الدولة لسردية مغلوطة تنسجم وادعاءات المنشقين عن الكنيسة في إقليم الأورومو.
كنيسة مصر تدين
من جهتها أعلنت لجنة العلاقات المسكونية في المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية (المصرية) رفضها التام للانقسام الذي أعلن بسبب المطران ساويرس وتنصيب نفسه بطريركاً لإقليم أورومو في إثيوبيا، مؤكدة أن رسامته المكونة من 26 أسقفاً انتهكت قوانين الكنيسة والمبادئ الراسخة للكنائس الأرثوذكسية عبر الأجيال.
وذكر بيان صادر عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أنها لا تعترف بأية رسامة خارج نطاق البطريرك الشرعي لكنيسة التوحيد الإثيوبية الأرثوذكسية، ماتياس الأول.
وأعلنت الكنيسة المصرية المرتبطة تاريخياً بنظيرتها الإثيوبية “تضامنها الكامل مع كنيسة التوحيد الإثيوبية الأرثوذكسية، كما ناشدت المطارنة وأساقفة الكنيسة ذات التاريخ الطويل والغني، دعم وحدة الكنيسة وسلامتها ورباط الحب والسلام”.
المصدر: إندبندنت العربية