شن محافظ سابق لبنك إنجلترا هجوماً لاذعاً على رئيسة الوزراء السابقة (في الفترة من 6 سبتمبر 2022 حتى 25 أكتوبر 2022)، ليز تراس، متهماً إياها بتحويل بريطانيا إلى “الأرجنتين”.
تأتي تلك التصريحات بعد عام كامل من إطلاق “الميزانية المصغرة” إبان الفترة “القصيرة” التي قضتها تراس في السلطة، وهي ميزانية مثيرة للجدل تسببت في تراجع واسع للاقتصاد البريطاني.
استخدم المحافظ السابق، مارك كارني، نموذج “الأرجنتين” على اعتبار أن اسم الدولة اللاتينية أصبح في السنوات الأخيرة مرادفاً للدول التي تعاني من أزمات اقتصادية متكررة.
وكان هذا التعبير، بحسب تقرير نشرته “سكاي نيوز”، بمثابة إشارة إلى الاضطرابات الاقتصادية التي أعقبت الميزانية المصغرة التي وضعتها تراس ومستشارها كواسي كوارتنج العام الماضي.
وقبل عام، وتحديداً في 23 سبتمبر الماضي، أعلنت الحكومة البريطانية برئاسة تراس (صاحبة أقصر مدة حكم في تاريخ رئاسة الوزراء ببريطانيا) حينها، عن “الميزانية المصغرة”، والتي تسببت بعد ذلك في تراجع كبير للجنيه الإسترليني أمام الدولار الأميركي، مع ارتفاع عائدات السندات وسط مخاوف من زيادة الاقتراض، ومفاقمة التضخم المرتفع في الأساس.
كانت الميزانية تتضمن إلغاء الضريبة البالغة 45 بالمئة على البريطانيين الأثرياء الذين يتجاوز دخلهم السنوي 150 ألف جنيه إسترليني (167,400 دولار).
تضمنت كذلك تجميداً مكلفاً لفواتير الطاقة بالنسبة للأفراد والأنشطة التجارية، سعيا للحد من تداعيات أزمة أوكرانيا.
وبحسب مارك كارني، في تصريحاته المشار إليها، فإن “أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثل زعيمة المحافظين السابقة – التي أصبحت أقصر رئيسة وزراء في التاريخ عندما استقالت العام الماضي – لديهم سوء فهم أساسي لما يحرك الاقتصادات”، مشيداً في الوقت نفسه بـ “السياسات التقدمية”، فيما هاجم “الشعبويين اليمينيين المتطرفين”.
وخلال حديثه على هامش قمة التقدم العالمي في مونتريال، انتقد محافظ بنك إنجلترا السابق (شغل المنصب من العام 2013 حتى العام 2020) ما وصفه بـ “وجهة النظر المضللة” بأن خفض الضرائب والإنفاق الحكومي يؤدي إلى النمو الاقتصادي، متهماً أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالرغبة في “هدم مستقبل البلاد”.
وأضاف: “التقدميون يبنون أشياءً تدوم، كالرعاية الصحية والبنية التحتية والمدارس والفرص والاستدامة والازدهار.. الآخرون لديهم نموذج مختلف.. إنهم يعملون في أعمال الهدم..”.
الخروج من الاتحاد الأوروبي
وأفاد كارني بأنه “عندما حاول أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إنشاء سنغافورة على نهر التايمز، قامت حكومة تراس بدلاً من ذلك بتحويلها إلى الأرجنتين على القناة، وكان ذلك قبل عام!”.
وفيما كانت الأرجنتين تشكل قبل عقود أرض الفرص والاستثمارات، فإنه منذ 15 عاماً، لم يشهد الاقتصاد الأرجنتيني غير المستقر نموا لثلاث سنوات متتالية.
وواصل الاقتصادي البريطاني هجومه على تراس قائلاً: “أولئك الذين يتمتعون بخبرة قليلة في القطاع الخاص السياسيون الذين يتنكرون طوال حياتهم في هيئة أنصار السوق الحرة يقللون بشكل كبير من أهمية الرسالة والمؤسسات والانضباط في الاقتصاد القوي”.
تم استبدال كارني، الذي تشمل أدواره الحالية منصب نائب رئيس شركة “Brookfield Asset Management”، بأندرو بيلي كمحافظ للبنك في العام 2020 بعد أن بقي في منصبه لفترة أطول من المتوقع بسبب المخاوف بشأن احتمال تعطيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للاقتصاد.
ودافعت تراس مراراً وتكراراً عن الفترة التي قضتها في السلطة منذ تركها منصبها، مشيرة إلى أن سياساتها الاقتصادية لم تُمنح فرصة للنجاح، وتعتقد بأنها كانت ستنجح على المدى الطويل.
ونقلت صحيفة “تليغراف” البريطانية، أخيراً، أن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، سوف تزعم في خطاب تلقيه، الاثنين، أن حكومة رئيس الوزراء الحالي، ريشي سوناك أنفقت 35 مليار جنيه إسترليني أكثر مما كانت ستنفقه حال استمرت في منصبها في داوننغ ستريت.
سياسات تراس الاقتصادية
وتعليقاً على ذلك، يقول المحلل الاقتصادي بصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “في اعتقادي أن ليز تراس لم تقصد تبني النموذج الأرجنتيني، كما هو، بل الاستناد إلى بعض نجاحاته الفورية، كعملية علاجية لبلد يعاني من تهديد أزمات سياسية واقتصادية، ولحزبها المحافظين الذي يخشى من تبعات مشاكل فترة جونسون وفضائحه”.
ويتابع: “لقد بنت تراس عقيدتها الاقتصادية على أهمية تحقيق مزيد من النمو للاقتصاد البريطاني، وضرورة هذا النمو لرفع مستوى المعيشة والرواتب وتخفيض الديون وجذب الاستثمارات وإنقاذ الاقتصاد من الركود.. لكنّ النموّ الإضافي يحمل معه دائماً مخاطر أبرزها مزيد من التضخم، بما يفاقم مشاكل السكان، ويحتاج إلى فترة زمنية لتقوم السوق بتعديل نفسها بشكل طبيعي في حال كان النمو ثابتاً والتضخم في مستوياته المقبولة”.
ويضيف: “هذه خطة ذكية، لكنها عجولة وسط اضطراب داخلي ودولي.. تسببت في فزع وإرباك واسعين، وردود فعل سلبية في أسواق المال العالمية، واستقطبت انتقادات دولية عديدة، حتى من صندوق النقد الدولي، مع عزمها على خفض الضرائب، أو ما سمي بالموازنة المصغرة، التي تراجعت عنها”.
وتفاقمت المشكلة بشكل أكبر مع إحجام تراس ووزير ماليتها عن تقديم تفاصيل حول كيفية التعويض عن أموال الضرائب التي ستفقد، ما أدخل أسواق البلاد المالية في دوامة من التكهنات والمخاوف أدّت إلى تسجيل الجنيه انهياراً تاريخياً مقابل الدولار الأميركي.
وهذا ما دفع البنك البريطاني إلى الإسراع في حزمة شراء سندات طارئة بعد أن أدت التخفيضات الضريبية غير الممولة البالغة 45 مليار جنيه استرليني (55 مليار دولار)، والتي تم الإعلان عنها في الميزانية المصغرة إلى انخفاض أسعار السندات بشكل حاد ودفع صناديق التقاعد التقليدية إلى بيع الأصول المالية لتلبية طلبات الهامش.
وهذا أيضاً ما دفع الرئيس الأميركي، جو بايدن، في تصريحات خارجة عن المألوف إلى انتقاد السياسات الاقتصادية لرئيسة الوزراء البريطانية أنذاك ليز تراس ووصفها بأنها خاطئة.
وفي إحدى الفعاليات التي أقيمت في وستمنستر في وقت سابق من هذا الصيف، سُمعت تراس وهي تقارن النمو البطيء في المملكة المتحدة بـ “حالة الغليان في الضفدع” ، قائلة إن الأمر “لم يختلف بشكل كبير” مع خروجها من داوننغ ستريت، ولكنه “ازداد سوءًا وأسوأ”.
والـ” Boiling frog” هو مصطلح يُستخدم بشكل استعاري للدلالة على مفهوم يشير إلى تدهور التوقعات أو التغييرات السلبية التي تحدث تدريجياً دون أن يلاحظ الأشخاص هذا التدهور بسرعة بسبب عدم وجود تغييرات ملحوظة في البداية.
التشبيه يأتي من الفكرة التي تقول إنه إذا وضعت ضفدعاً في ماء بارد وبدأت في تسخين الماء تدريجياً، فإن الضفدع لن يلاحظ التغيير التدريجي في درجة الحرارة وسيستمر في البقاء في الماء حتى يصل الماء إلى درجة الغليان ويموت.
وقالت تراس أيضاً في فبراير، إنها لا تزال تعتقد بأن إجراءات مثل التخفيضات الضريبية الكبيرة هي “الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله لبريطانيا”، لكنها تقبلت أيضاً أن أحد إجراءاتها الأكثر إثارة للجدل – خفض معدل الضريبة- كان “ربما خطوة بعيدة جداً”.
تحديات أمام رئيس الوزراء البريطاني
ويقول القاسم: “ريشي سوناك الذي حل مكان تراس فوراً، استغل بدوره هذه الثغرة بأن التخفيضات الضريبية غير الممولة كانت فكرة سيئة جدا.. لكن السؤال هل حقق ما عجزت عنه تراس؟”.
ويتابع: “نعم هدأ مخاوف الأسواق وخفض بعض الضرائب ودعم الطاقة واتبع سياسة إنقاذ طمأنت المواطنين والأسواق، لكن هذا له مفاعيل سلبية، إذا وقع تحت عجز مالي زاد عن 65 مليار جنيه استرليني ورفع التضخم إلى أعلى مستوى منذ 40 عاماً، وعجز حتى الآن عن استجلاب استثمارات كبيرة لتعويض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.
ويعتقد بأنه أمام سوناك أو أي رئيس وزراء بريطاني قادم مشوار طويل وشاق وخطير أيضاً لبلورة نهج اقتصادي تستطيع البلاد أن تصمد في وجه صعود دول مثل مجموعة البريكس والصراع الصيني الأميركي وبرود التعاون مع أوروبا بعد البريكس، وقد رأينا كيف خسرت بريطانيا موقعها مرتين، مرة حينما أزاحتها البرازيل لتحل موقها الخامس اقتصاديا على المستوى العالمي في وقت سابق، ومرة أخرى حينما أزاحتها مستعمرتها السابقة الهند لتتفوق عليها اقتصاديا، والتحدي ما زال متناميا.
المصدر: سكاي نيوز عربية