التربية بالريموت

الديسك المركزي
7 دقيقة قراءة
7 دقيقة قراءة

- مساحة اعلانية-
[bsa_pro_ad_space id=4]

تعتمد التربية بشكل كبير على نوعية وكيفية التواصل بين الوالدين والأبناء؛ فهو الطريق الأمثل لإحلال الثقة بينهما، وبالتالي يولد التقبل من كلاهما للآخر، لكن المشكلة التي أصبحت ظاهرة للعيان هي: أن التواصل التربوي أصبح في حدود ضيقة. فقد تغير في كميته وكيفيته؛ نتيجة تعدد مشاغل الحياة بشكل عام، وتعدد الاتجاهات التربوية غير الأسرية؛ مما أخل بالرابط بين الوالدين والأبناء، وذلك أثر بشكل كبير على النمط التربوي الذي ابتعد بشكل واضح عن التوجيه بأشكاله المتعددة، من خلال القصة والقدوة والمشاركة الفعالة والحوار بينهما، ليُختزل في دقائق تربوية قليلة، لا تتسع لأي من الأساليب التربوية، فاتخذ من منهج الأمر والنهي والسلطة الأبوية منهجاً تربوياً، بناءً على اعتقادهم أن قوة شخصية الوالدين مع سلطتهما الأبوية: تقوّمان كل اعوجاج لسلوك أبنائهم، وتوجههم لكل ما ينفعهم.
وهذه السلطة تبدأ من الدقائق القليلة التي يصوغ فيها الوالدان ما يريدان إيصاله للأبناء بأسلوب الأمر والنهي -افعل ولا تفعل- وبشكل مباشر؛ ليحتفظ بها الأبناء بذاكرتهم فتستمر سلوكياتهم عليها رغم انقطاع التواصل بينهم وبين والديهم لفترات ليست قصيرة.بالإضافة إلى ذلك فإنهما أيضاً يعتقدان أن قوة السلطة الوالدية تظل مستمرة رغم الانقطاع، حيث تبدأ منذ ضغط الوالدان في الدقائق القليلة أزرار الأوامر؛ ليبقى تأثيرها عبر موجات الريموت وعن بعد ورغم كل البعد.
وتمتد سلطتهما؛ لتمكنهما من التحكم بسلوكيات الأبناء؛ حتى وهم بعيدون عن أنظارهم؛ مما يمكن اعتبارها نظاماً تربوياً سلطوياً عبر الريموت. فكما ندير أجهزتنا المنزلية المختلفة به. قد يعتقد بعض الآباء أنهم بسلطتهم الزائفة: يمكن أن يديروا من خلاله أوامرهم وما يريدون إيصاله للأبناء دون الحاجة لأكثر من بضع دقائق، سواء مباشرة أو غير مباشرة، عبر الهاتف مثلاً، أو من خلال من يوصل للأبناء ما يريدون إيصاله بعد توكيله بذلك.
وإن جاز هذا التشبيه بين الريموت وهذا الأسلوب التربوي للتقارب في الاستخدام، لكن يظل الاختلاف بينهما في أن التحكم بالأجهزة المختلفة عبر الريموت: هو تحكم يتضمن “كنترولا” وهو ما يعني سيطرة وضبط. أما التربية بالريموت فلا يترافق معها أي” كنترول” على الأبناء غير السيطرة الوهمية التي يعتقد وجودها الوالدان.
ولهذا النمط التربوي صور منهجية يستخدمها بعض المربين، كأن تكون العلاقة بين الأبناء والآباء: علاقة أوامر فقط -افعل لا تفعل- أشبه ما تكون بتحكم الريموت دون نقاش، أو تفهم لآرائهم أو احتياجاتهم فهم مجرد آلات تُنفذ بكبسة زر. على اعتبار أن تكون الكلمات اليسيرة هي نقطة التحكم في الأبناء، بدلاً من الحوار والإقناع، وفي ذلك نمط تسلطي لا تربوي يُظهر الرضا والقبول من الأبناء ويُبطن التقاعس.
فضلاً عن اعتقادهما أن بوسعهما اختصار المسافات عبر موجات الأوامر، فيطلق الوالدان الأمر، وينشغلان ويعتقدان فعالية الاستجابة من الأبناء دون انقطاع أو تردد. وكذلك قد يُستخدم عندما يكون الوالدان بعيدين عن الأبناء بعداً جسمياً كالانشغال الدائم، أو بعداً نفسياً بوجودهما لكن إهمالهما لحاجتهم لقرب الوالدين، والتعلم منهما بالإرشاد الهادئ، والقدوة الإيجابية، والاهتمام بآرائهم ومشاركتهم في قراراتهم. مما ينتج التحكم بسلوكياتهم عن بعد، وهما يعتقدان أن ذلك يشكل نمطاً تربوياً سوياً، يمكن الاعتماد عليه والوثوق بنتائجه دون مراعاة لشخصيات الأبناء المختلفة أو آراءهم.
ومشكلات هذا النمط من التربية كثيرة أبرزها:
رغم أن المشكلة لهذا النمط التربوي أنها نتجت عن خلل في التواصل، إلا أنها أيضاً تزيد من هذا الخلل، وتوسع الفجوة بين الوالدين والأبناء؛ مما يجعلها بذرة للتفكك الأسري.
اختلاف سلوك الأبناء في وجود الآباء عن غيابهم؛ لأن السلوك فرض عليهم بالأمر والقوة، ولم يكن عن اقتناع ومشاورة. فيتقمصه الأبناء أمام الوالدين؛ لتجنب العقاب ويتجاهلونه حين غيابهم.
المشكلة الأخطر: عدم إدراك خطر مشكلة انقطاع التواصل، مع الاعتقاد أن هذا النمط من التواصل مجدٍ مع الأبناء، ويساهم في توجيههم وحل مشكلاتهم. مما يوحي للوالدين بالاطمئنان أن الوضع الأسري تحت السيطرة، بينما هو بعيد عن الاستقرار.
كما أن لها جانبا سلبيا في إحداث الخلل في شخصيات الأبناء، نتيجة عدم تفهم الوالدين لطبيعة الأبناء واحتياجاتهم ومشكلاتهم. بالإضافة إلى أن فرض الأوامر دون مشورة أو رأي منهم، بل من خلال التسلطية الوالدية بالإجبار على الأوامر والطاعة، يشكل شخصيات تحمل صراعاً بين رغباتها وحاجتها للاستقلال، وبين طاعة الوالدين ورغباتهما؛ مما يُنشئ شخصيات كثيراً ما تعاني من الرهاب الاجتماعي نتيجة التسلط الأبوي، أو أن تكون إمعة منقادة تفتقد الثقة بنفسها.
كما أن هذا النمط التربوي يهتم بطاعة الأبناء، دون الاهتمام بشخصياتهم وتنميتها فالمهم الطاعة ولو على حساب سحب معالم شخصياتهم؛ ليكونوا قابلين للتحكم عن بعد من قبل والديهم.
يساهم هذا النمط من التربية بتنمية الكذب في سلوك الأبناء؛ حتى يتجنبوا العقاب من والديهم عند عدم استجابتهم للأوامر.
إن التحكم عن بعد: يشكل ثورة حديثة نسبياً، فبدت الكثير من الأجهزة لا تحتاج لأن تقترب منها لتتحكم بها، إنما بسهولة يمكن إدارتها وإيقافها عن بعد، ودون جهد، لكن ذلك حتماً يقتصر على الأجهزة دون الأنفس الإنسانية. فاقتباسه تربوياً على اعتبار أنه نمط تربوي سليم النتائج، ظناً من المُربي أن الأوامر التربوية تنتقل عبر موجات الريموت، وأن الأبناء حتى وهم على بعد مسافات: قادرون على الاحتفاظ بالأوامر وتنفيذها، تبعاً للبرمجة التي وُضعوا عليها قبل ابتعادهم. ولم يدرك الآباء والمربون أن أبناءهم شخصيات مستقلة لها برمجتها الخاصة، وأن الضغط عليهم ينتج تحكماً وقتياً بسلوكياتهم ما داموا بقربهم. وعند ابتعادهم تنقطع موجات التحكم والسيطرة: فينطلق الأبناء كيفما يريدون وبطريقة مضاعفة عن الأبناء الذين تركوا دون ضغوط واجبار الوالدين؛ لعلمهم أنها فرصتهم للحصول على الحرية والانطلاق بابتعاد والديهم، مما يضاعف انشغالهم بما أمروا بتركه والابتعاد عنه.
والأساليب التربوية البديلة كثيرة ومتنوعة، وترتكز في أصلها على مبدأ المصاحبة والحوار فلن يكون النمط التربوي سليم العناصر والنتائج، إلا من خلال رسم خطة المنع عن بعض السلوكيات والأمور بمشاركتهم، وشرح أسباب المنع، والتعريف بالهدف، مع الحرص على التقنين لا الحرمان لبعض ما يرغبونه وينشغلون به عن الأمور الأهم في حياتهم. وتقديم الأوامر بطريقة العرض والاقتراح، وأن تكون بمشورتهم، مع ترك مساحة من الحرية لممارسة بعض ما يرغبون، وتفهم احتياجاتهم، والتغافل عن بعض هفواتهم، والعناية بتنمية شخصياتهم، وتهذيب سلوكياتهم قبل كل شيء.
فالطاعة ناتج تربوي يظهر عند نجاح الأساليب التربوية، وليس هدفاً نسخر له الأبناء. فمتى توقف الوالدان عن اعتبار أبناءهم مجرد أجهزة تنفيذية لأوامرهم الوالدية؛ عندها نحرر أبناءنا من التبعية؛ لتولد شخصياتهم القيادية.

شارك هذه المقالة
ترك تقييم