تشعبات الفساد الذي طال قطاع الاتصالات في لبنان خلال السنوات الماضية كثيرة، بدأت عبر فتح ملف الإنترنت غير الشرعي، والتخابر الدولي غير الشرعي، ثم تلزيم تمديد الألياف الضوئية، بعدها دفاتر الشروط لشركتي الخلوي، وصولاً إلى تلزيم البريد واعتماد موازنة ملحقة لوزارة الاتصالات، وصولاً إلى فضيحة جديدة تتعلق بأسعار الإنترنت.
وفي التفاصيل، كشفت نقابة الموظفين في شركة “أوجيرو” (المؤسسة العامة التي تدير قطاع الاتصالات) فضيحة كبيرة تتعلق بأرباح غير مشروعة تحققها شركتي الخلوي في لبنان، حيث تشتريان كل 80 جيغا مقابل 60 ألف ليرة لبنانية (أي حوالي نصف دولار)، وتبيعان كل 10 جيغا بـ 11 دولاراً للمواطنين، أي أنهما تربحان أكثر من 10 دولارات في كل عملية، مؤكدين أن الأمر نفسه يحصل مع شركات الإنترنت (DSPS) التي تشتري كل خط E1 بـ 475 ألف ليرة (4 دولارات)، بحسب أحدث تسعيرة طالب بها وزير الاتصالات جوني قرم، وتؤجره إلى موزعي الأحياء الذين يضعون أكثر من 50 مشتركاً على الخط نفسه مقابل 10 إلى 15 دولاراً أميركياً عن كل مشترك.
والمعروف أن خطوط E1 هي عبارة عن خط رقمي بسرعة 2 ميغا في الثانية، ويوفر للشركة 30 خطاً (64Kbps) ما يتيح الوصول بشكل أسرع وأكثر مرونة، لخدمات البيانات والصوت والفيديو.
أرباح خيالية
مصادر نقابة الموظفين في شركة “أوجيرو”، أكدت أن كشفهم لتلك الفضيحة جاء بعد دراسة أعدها موظفون مختصون أثناء الإضراب الذي استمر لأيام، وأن البحث هدف إلى وضع خطة تُقدم إلى وزارة الاتصالات بهدف تحسين رواتب الموظفين وتطوير إيرادات الشركة من خلال أسعار الإنترنت التي تواجه تحديات مالية غير مسبوقة.
وأكدت أن معالجة الإيرادات تبدأ برأيهم عبر إقرار مرسوم تعديل الأسعار لتبيع “أوجيرو” الإنترنت للشركات بالدولار، وبخاصة لشركتي الخليوي “ألفا” و”تاتش”، اللتين تستفيدان من هذه الثغرة، إلى جانب الاستفادة من حسم 15 في المئة على الكلفة، بذريعة أنهما متعاقدتان مع الدولة لإدارة القطاع. ما يعني أنهما تحصلان على الخدمات بسعر بلا قيمة فعلية تُذكَر، وتبيعانها لتحقيق أرباح خيالية، مؤكدة أن لا طائل من الإبقاء على بيع حزمات الإنترنت للشركات الخاصة بالليرة التي تنهار قيمتها يومياً فيما “أوجيرو” تشتريها من الخارج بالدولار.
باقة E1
وفي هذا السياق يوضح المستشار في أمن وتكنولوجيا المعلومات رولان أبي نجم، أن شركات الاتصالات والإنترنت تتقدم بشراء خدمة E1 من “أوجيرو”، وهي عبارة عن باقة توزع لعشرة مشتركين، إلا أنها وبهدف تحقيق أرباح إضافية وبكلفة أقل تقوم بتوزيعها على 20 مشتركاً أي ضعفي القدرة الاستيعابية.
ولفت إلى أنه قبل انهيار الليرة اللبنانية كان سعر كل E1 180 ألف ليرة (120 دولاراً)، وبعد الانهيار عُدل السعر إلى حوالى خمسة ملايين ليرة (50 دولاراً حالياً)، يُحسم حوالى 20 في المئة من سعرها كون تلك الشركات تشتري عدداً كبيراً من الـ E1، وبالتالي وفق حساباته فإن كل E1 يكلف شركة “أوجيرو” 39 دولاراً فيما تبيعه وزارة الاتصالات بـ 4.5 دولار لشركات الخلوي، لتقوم الأخيرة ببيع الـ E1 لـ 20 مشتركاً بمعدل وسطي يبلغ 50 دولاراً، أي أنها تحقق ربحاً يصل إلى ألف دولار.
وأشار إلى أن شبكة “أوجيرو” باتت قديمة جداً وتعمل على DSL، وهي المصدر الوحيد في البلاد الذي يحق له شراء الإنترنت من الخارج وتوزيعها على شركات الاتصالات.
أزمة “صيرفة“
في المقابل، أوضح مصدر في وزارة الاتصالات أن شركة “أوجيرو” ملزمة ببيع الـ E1 للشركات بحسب مرسوم التعرفة الصادر عن مجلس الوزراء بـ 475 ألف ليرة، وبموجب هذا المرسوم هي مجبرة أن تبيع لشركات الإنترنت بما فيها شركتي الخلوي والشركات الأخرى، كاشفاً أن ما يحصل هو تغير سعر “صيرفة” الذي يحدد من قبل مصرف لبنان، وأن الارتفاع الكبير الذي سجل أخيراً أدى إلى تراجع قيمتها بالدولار باعتبار تسديد تلك الفواتير من جانب شركتي الاتصالات هو بالليرة اللبنانية حصراً ولم يطرأ عليه أي تغيير حالياً، مشدداً على أن قيمة “صيرفة” أصبحت أكبر إنما التسعيرة هي نفسها.
وأكد أن الوزير يعمل على نقل القضية إلى مجلس الوزراء من أجل حماية المال العام عبر تصحيح الخلل القائم حول آلية تسعير خدمة الإنترنت E1 التي تشتريها الشركات الخاصة من “أوجيرو”، لافتاً إلى أن شركتي الخلوي تشتريان “حزم” الإنترنت من وزارة الاتصالات بالسعر الرسمي المحدد وفق مرسوم صادر عن مجلس الوزراء ويبيعون هذه الخدمة وفق التسعيرة الصادرة عن مجلس الوزراء وتحول إلى داتا متنقلة وهذا التحويل يغير السعر للحفاظ على هامش الربح.
لجنة تحقيق
وبعد إثارة القضية وتفاعل الرأي العام معها، أكد أحد النواب (طلب عدم كشف اسمه)، أنه يتم تحضير اقتراح إلى المجلس النيابي يرمي إلى إنشاء لجنة تحقيق نيابية في أسرع وقت ممكن من أجل التحقيق في قضية الإنترنت وطريقة شراء هذه الخدمة من “أوجيرو” لمصلحة شركتي الخليوي، والتي تبيعها بقيمةٍ تفوق شراءها بمئة ضعف.
وأكد أن العمل سيكون دقيقاً ومفصلاً، والعمل عليه سيكون بالتنسيق مع فريق تقني متخصص قبل الشروع بتقديم الاقتراح إلى المجلس النيابي والمطالبة بتشكيل لجنة التحقيق البرلمانية.
حملات مشبوهة
من ناحيتها شجبت نقابة موظفي ومستخدمي الشركات المشغلة للقطاع الخلوي، ما اعتبرته حملات مشبوهة لشيطنة قطاع الاتصالات، ولا سيما الخلوي منه، مؤكدة أنها ستتصدى لها، لافتة إلى أن الموظفين حافظوا على استمرارية الشبكة والخدمات، مما جعلهم مصدر جذب لكثير من الشركات الإقليمية العالمية لتتعاقد معهم.
وأضافت في بيان، “نستغرب الحملات التي تستهدف نجاح القطاع وصموده في الظروف الصعبة بحكمة وتصور منهجي وعلمي، منبهة إلى ضرورة مقاربة الأمور مقاربة علمية مبنية على وقائع لا على أهداف مدمرة.
إدارة الدولة
وقبل ثلاث سنوات انتهت عقود شركتي “تاتش” و”ألفا” اللتين تديرهما “زين” و”أوراسكوم”، واستعادت الدولة اللبنانية القطاع بعدما استمر تحت إدارتهما 11 عاماً، وعلى رغم ذلك يستمران بإدارة القطاع كمستعان بهما من قبل وزارة الاتصالات لتسيير المرفق.
العقد أعطى الحق للشركتين بتقاضي 17 مليون دولار سنوياً لقاء إدارة تضاف إليها أرباح المشتركين الذين بلغوا وفق آخر إحصاء حوالى 6 ملايين اشتراك. ولطالما كانت تُجدد العقود في مجلس الوزراء بشبه إجماع سياسي من دون إجراء المناقصات المنصوص عليها في القوانين اللبنانية.
ويعتبر قطاع الاتصالات أحد أبرز أعمدة مداخيل الخزينة اللبنانية، إذ شكل عام 2017 نسبة 12 في المئة من إيرادات الدولة، أي رابع أعلى نسبة من الإيرادات، بعدما كانت هذه الإيرادات تشكل 16 في المئة قبل 2012، وقد استمرت بالتراجع خلال السنوات الأخيرة، من 1107 ملايين دولار عام 2011 إلى 650 مليوناً عام 2019، في وقت من الممكن رفعها إلى 4 مليارات دولار عام 2024، في حال تم إصلاح القطاع بشكل جذري، وفق تقرير للجنة الإعلام والاتصالات النيابية.
تدمير وخصخصة
وتخشى مصادر متابعة لملف قطاع الاتصالات في لبنان مما تصفه “مؤامرة على القطاع بهدف “الخصخصة” وشرائه من قبل شركات غير معروفة المعالم بعد أن يصل إلى مرحلة الإفلاس الكامل”.
وتستغرب تلك المصادر غياب السلطات عن معالجة أزمات هذا القطاع الحيوي والأساسي في البلاد، وتركه يغرق في فوضى الإضرابات والتخلف عبر عدم تطوير أجهزته والعاملين فيه.
المصدر: إندبندنت عربية